بانياسيس - فرط الإنوجاد - قصة قصيرة

" لا يمكنك أن تكون مؤمنا حقا إن لم تبلغ المقام ..وحين تبلغ المقام فلا يمكنك العودة إلى عالم الفساد"

لا زالت كلمات معلمه هذي تنقرع في رأسه ، وحين تحاول الاختفاء يسرع فيلتقمها ويعيدها إلى قفصه الدماغي...
"لابد أن أبلغ المقام.."..
وسار هانزو تقارع قدماه صلادة الجبال قارسة البرودة ، فصعد وهبط وصعد... وناله ما ناله من نصب هرولته خلف حلمه ببلوغ المقام.
وإذ اخترقت بعض أذرع الشمس الغمامات الرمادية الراقصة ، وفتح هانزو عينيه بصعوبة ، تذكر أنه قضى ليلته يقاوم الجوع بالنوم ، حتى أنه حلم بموائد الطعام فنهل منها ما نهل دون جدوى...نهض ثم انحدر من الجبل ببطء متفاديا الانجراف غير المسيطر عليه إلى أسفل السهل ، وبعد ساعات من المشقة وتعب العضلات بلغ السهل المنبسط الذي لا زال بعض ثلج شتاء الأشهر المنصرمة مصرا على الحياة فوق حجارته...وقف يتأمل السهل ورأى قرية صغيرة من على البعد ، فتبول ثم حث خطاه نحوها وأمله يربو في الحصول على وجبة طيبة من أحد الكرماء. كانت هناك بعض اعشاب برية متفرقة على مهل في السهل المنبسط ، وكانت هناك أودية وخيران صغيرة لم يتعد عرضها نصف متر تشق الأرض فتمنحها روح الفخامة والأبهة. كان يرى في تلك الأخاديد نموذجا مصغرا للأرض ، الجبال والانهار التي تقسم سطحها ، السهول والوديان ، وشعر بأن كل شبر من الأرض هو نسخة عن الأرض كلها... تأمل ذلك قليلا ثم مضى في طريقه نحو القرية ، ولما بلغ مشارفها لم يلحظ أحدا في أكواخها الخشبية القديمة والتي نخرتها الرطوبة وطرت الشمس قساوتها فانحشت بالسوس والحشرات...لكنه لم ييأس بل مضى يراقب كل كوخ على حدة ، حتى آخر واحد منهم. توقف هانزو وقرر الاستلقاء داخل الكوخ الأخير فدفع الباب بقدمه ثم ولج ببطء إلى الظلام. وبعد هنيهة اعتادت عيناه على الظلام فرأى شبح انسان قصير يتقرفص في أحد أركان الكوخ...ولم يرتعب أي منهما من الآخر. قال هانزو:
- لا أكاد أتبين ملامحك..
جاء صوت الشبح:
- أنا أوي ..
قال هانزو:
- يبدو من صوتك أنك صبي لطيف...
نهض أوي من جلسته وقال:
- أنا هنا من أجلك يا هانزو...
اندهش هانزو من معرفة الصبي لاسمه ؛ فقال الصبي مبددا دهشته:
- هل تريد بلوغ المقام حقا يا هانزو...
اجاب بثقة:
- نعم هذا حلمي..
قال أوي:
- لكن بلوغ المقام ليس مريحا كما تتصور...
- وهو كذلك..أنا أتحمل مسؤولية قراري..
قال أوي بصوت تحذيري:
- كلما زادت معرفتك كلما زاد ألمك يا هانزو...
- الجهل أكثر إيلاما يا صديقي...
قال أوي بلهجة جادة:
- منذ الأزل كان قرارك أن تكون أنت كما أنت اليوم ... فلماذا تحنث بعهدك؟
قال هانزو:
- ماذا تعني..لم أفهم...؟
- لن تتجاوز الأزل إلا إن بلغت المقام..فإن بلغته صرت الأزل بذاته..
دق قلب هانزو وشعر بالقلق من كلمات الصبي..لكنه تمالك شجاعته وقال باصرار:
- أريد بلوغ المقام مهما كلفني الأمر..
-عليك أن تشنق نفسك...
قال هانزو بتعجب:
- ماذا تقول!!!
لكن شبح أوي تحول لغمامة تبددت في الفراغ.
ووقف هانزو حائرا وهمس:
- لكن هذا تعسف..هذا شرط جائر...
ثم بقى صامتا لوقت طويل...
لم يختلف صباح اليوم التالي عن مساء اليوم السابق ؛ فالغمامات غطت وجه الشمس فضربت الكلاحة الرمادية الباردة الأرض ، وكان الصقع يتنفس من كل حجر وصخرة ، وهانزو يضم ياقة معطف اللباد حول عنق وحتى نصف وجهه ويهيم في تضاريس الأرض العربيدة...لقد خلف القرية وراءه وهو لم يقطع بقرار حاسم حول تنفيذ الشرط القاسي بشنق نفسه. وأي مقام سيبلغ إن غادر الوجود الذي ألفه وعرفه ، لقد كان الشرط رغم كل قسوته منطقيا ؛ فكيف يبلغ مقاما دون أن يغادر مقاما آخر. قال لنفسه: "لا يمكن أن يوجد شيء في مكانين مختلفين في نفس الوقت"..
وهكذا اتخذ قراره بتنفيذ الشرط عندما يبلغ أول قرية مأهولة بالبشر. ثم استمر في سيره وهو يراقب قطيع خنازير برية صغير ، وسمع صوت أمعائه لكنه تحاشى الدخول في معركة خاسرة مع كائنات أكثر جنونا منه...وارتفع السهل قليلا ببساط أخضر مشوب بصفرة شتاء منقض متجسدا في تل صغير ، فأخذ يرتقيه إلى أن بلغ قمته ورأى في البعيد قرية بها الحياة.
كانت الريح لا زالت مثقلة بالبرودة ومع ذلك فأصابع قدميه اشتكتا من التعرق ، فخلع حذاءه وأخذ يسير حافيا ، ومر بغدير صغير تنحني على جرفه فتاة متوسطة الجمال وان كانت قدماها مكتنزتان وحمراوتان .. فهتف:
- سيدتي...
رفعت الفتاة رأسها وابتسمت ثم انحنت له:
- بماذا تأمرني سيدي..
اقترب منها ببطء ثم توقف عند مسافة آمنة لا تقلقها وقال:
- أنا هانزو...زائر لهذه القرية..
قالت:
- مرحبا بك ..انا شانهوا ..
انحنى وهو يقول بتبجيل:
- إنني خجل قليلا سيدتي..لكنني لم أكل شيئا منذ أسبوع أو أكثر...
فتحت شانهوا عينيها بفزع وقالت:
- اتبعني سيدي...
وهكذا مضى خلفها وهو مطأطئ رأسه .. فمرت شانهوا عبر أكواخ صغيرة حتى بلغت كوخا أشارت إليه بأنه كوخ عمتها .. ثم دخلت اليه فبقى هو في الخارج...كان نصف الكوخ السفلي من الحجر ونصفه العلوي من الأخشاب. عادت شانهوا وقدمت له طبق دوفو وقطعة خبز ثم قالت:
- يمكنني أن انظف لك حذاءك سيد هانزو.
لم يتمكن هانزو من رفع رأسه عن تناول الطعام فحملت شانهوا حذاءه ودخلت الى الكوخ.
كانت البرودة تهبط على جسد هانزو كلما ابتلع لقمة طعام ، وعندما هدأ جوعه قليلا رفع رأسه الى الأفق ووجد البرية مغمورة في الرمادي الكئيب. أتراني أخدع نفسي وأنا أقفو بلوغ المقام. وحينما عادت شانهوا حاملة حذاءه رمق قدمها الحمراء اللامعة وتساءل:
- لماذا لا أتزوج شانهوا بدلا عن الجري خلف السراب؟ لاحظت شانهوا نظراته المسددة عليها فاحمر خداها وحنت رأسها لتخفي الخجل.
قال هانزو:
- سيدتي...كم أنا عاجز عن رد جميلك لي عندما انقذتني بطبق الدوفو هذا .. كنت سأموت جوعا بدلا عن أن أشنق نفسي.
قالت شانهوا:
- لم أفعل شيئا سيد هانزو..
قال:
- بلى ... إن الاشياء الصغيرة الهامة تكبر أسرع من غيرها.
هزت شانهوا رأسها وقالت:
- حقا..إن الخيزرانة تنمو كل يوم بمقدار تشي* .. ولو لم تفعل ذلك لعانينا معاناة كبيرة نحن وفصائل الحيوانات المختلفة.
- صحيح شانهوا ... هذا ما قصدته بالضبط...
سألته بصوت خفيض:
- هل أنت رحالة؟
عقد هانزو حاجبيه وقال:
- نعم.. إنني اتعقب المقام...
هزت رأسها وران صمت بينهما. مد هانزو طبقه الخالي ثم مصمص شفتيه بلسانه وانحنى قائلا:
- شكرا لك سيدتي..
ثم مضى في سبيله وقد نفض عن خياله صورة قدم شانهوا الحمراء.
قال معلمه:
- إن العالم تمثل ناقص يا هانزو..ولكي تخرج من هذا النقص عليك أن تحتوي العالم..ولكي تحتوي العالم عليك أن تكون أنت العالم...
لقد سأل معلمه:
- أي معلمي...وهل أفوق الزمان والمكان؟
ولكن إجابة معلمه كانت مقتضبة جدا:
- عليك أن تختبر ذلك بنفسك يا هانزو..
كان صغيرا وكان يرهب معلمه فلم يسأله عن سبب امتناعه عن تعقب المقام...ويبدو أن معلمه كان جبانا .. قال هانزو في نفسه..وحين رفع رأسه رأى أول شجرة تستقبله أمام الغابة الكثيفة... أخذ يحملق في أغصانها السوداء المتينة ، ثم تقدم نحوها ورفع يده مقتلعا بعضا من أوراقها قبل أن يفتلها بتؤدة وصبر.
وحين بدأ الغروب يختلس صفحة السماء عقد هانزو أنشوطته وادخل رأسه فيها لتستقر حول رقبته وأخذ يتسلق الشجرة ، وإذ بلغ أقصاها ربط حبله على اقوى فروعها ونظر إلى الأرض تحته بعينين قاسيتين...
أخذ جسده يهوي إلى أسفل بسرعة مجنونة قبل أن يرتد مكبوحا بعنف وينطفئ وعي هانزوا...
كان الكون يعي هانزوا .. قال معلمه الحكيم:
- المغرورون وحدهم من يظنون أن الانسان وحده من يعي العالم...إن العالم أيضا يملك وعيه...
وفتح هانزوا عينيه ورأى النجوم تتلألأ...لم يكن جسده معلقا على حبل المشنقة .. بل حرا تماما... أدار بصره من حوله ورأى فراغا عريضا يحيط بكل الأفق...كان وجهه مكفهرا....وعقله فارغ تماما من كل فكرة ...
أدرك أنه بلغ المقام حقا.. وتذكر خيار زواجه بشانهوا ... ورأى قدمها الحمراء ... ولدهشته انبثقت قدم شانهوا من العدم... فتراجع بذعر...وغمغم:
- ماهذا يا معلمي؟
خطف طيف وجه معلمه صفحة خياله ثم فوجئ برأس معلمه ينبثق من العدم... ازداد رعب هانزو .. وأخذ عقله يزرف كل الصور التي اختزنتها ذاكرته... كان حذاؤه ينبثق من العدم... وطبق الدوفو ... والخنازير البرية .. ومعلمه ثم باقي جسد شانهوا وأخاديد الأرض... ولم يكن قادرا على وقف نزيف خلق الأشياء بخياله...اجساد بشر وحيوانات وأشجار وزهور وثمار وطعام وأحجار ... ملابسه عندما كان طفلا .. يدي أمه الناعمتين .. أنف والده المفلطح... الكلب الذي عضه وهو طفل...ثم رأى نفسه يتخلق بتكرار مضطرد...كان هناك الاف من هانزو ينبثقون من العدم بقدر ساعات ودقائق حياته...أخذ يهرول والرعب يمحق صرخاته الفزعة والأشياء تنبثق تحت قدميه...."لا أريد المقام... لا أريد المقام"..
رأى شبح الصغير أوي يتمثل أمامه وهو يقول:
- لم يعد بإمكانك التراجع يا هانزو.....لقد أخبرتك من قبل أنك لن تتحمل بلوغ المقام أبدا...
انهار هانزو وجثى على ركبتيه واخذ يجهش بالبكاء .. دون أن تتوقف الأشياء عن الانبثاق من حوله كالشياطين...

(تمت)

----------------
* وحدة تشي واحدة chi تساوي 33.3 سنتمترا تقريبا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى