بانياسيس - الصغير ماوكلي - قصة قصيرة

لم ألتق من قبل بشخص مغتبط بشكل مزمن هكذا ، إن مجالسة هذا النوع مقلقة جدا للمصابين بقنوط مزمن مثلي. ليس جيدا أن تقترب من شخص لا يشعر بالطاقة السلبية الكئيبة التي تشع في أعماقك كيورانيوم أسود. ومع ذلك كنت أرى في غبطته بصيص وجود للحياة التي لم استطع الإيمان بها الا غيبيا. قال لي صديق أربعيني قبل عشرين عاما أن مجالسته لي -في ذلك الوقت- ليست سهلة. واليوم وانا اتجاوز الأربعين قليلا بت اتساءل كيف تحملني في ذلك الوقت.
يأتي "بشرى" المغتبط رغم قربه من حافة الأربعين ليمارس أنشطة العشرينات كما لو كان يتكرر في عمر واحد دون أن يشعر بوطأة الزمن. يجلس قربي على ناصية المنزل مساء وتمر بخياشيمنا الأتربة الجافة ، فيخرج سجارته ثم يغمغم بكلمات غير مفهومة وهو يبتسم ، يخرج هاتفه ويبدأ حديثا هامسا مع حبيبته المجهولة ، لا أعرف كيف تسمعه لأنني لا اتمكن من التقاط كلمة واحدة.. يبدو وكأن لغته مجرد أنفاس بطيئة لشخص يحتضر ، يرفع قدمه اليمنى على الكرسي تاركا الأخرى على الأرض ثم يستبدل جلسته عدة مرات ، يدخن سجارته بيمينه وفي يسراه هاتفه دون أن يتوقف عن الحديث فيه ، فجأة ..أجده بعيدا عن كرسيه ، يتمحك في الحائط وهو يتحدث، يبتعد قليلا لأجده قرب سيارة نقل أو شجرة أي نتوء عال فيتكئ عليه دون أن يترك الحديث في هاتفه ، أجده بعد قليل فوق قمة ذلك الشيء العالي يتلوى كالدودة ، ينزل ويتحرك بعيدا ويختار الأماكن المظلمة فيغطس فيها ، يظل يتنقل من مرتفع إلى آخر ، وعندما يطول غيابه مع هاتفه أحمل الكرسيين وأدخل بهما إلى المنزل وأنام ولا أرى المغتبط إلا مساء اليوم التالي ليكرر اتصاله الهاتفي السرمدي بحبيبته المجهولة. لا أعرف لماذا انتظر قدومه الذي لا مسامرة فيه هذا ، لا أعرف ، ربما لأن هذا الحضور الغائب يمنحني حرية أكبر مما لو كان متطلبا أكثر. وأحيانا أتمنى وقوف مركبات عالية حتى تتوفر للمغتبط أماكن مرتفعة يتسلقها أثناء حديثه الهاتفي فأراقبه بمتعة الدهشة. الصغير ماوكلي سميري الوحيد ، سميري الذي يسامرني بمجرد وجوده الصامت النشط. استمر ذلك لوقت طويل لا أتمكن من حسابه ، ثم قررت يوما أن أكسر ذلك الروتين. رأيته قادما من بعيد ، يعض أطراف جلبابه بفكه لتبرز سيقانه النحيلة المشعرة ، رأسه الذي يبدو كهرم مقلوب ؛ عريض من أعلى رقيق الحنك. ابتسامته التي لا يستطيع شاربه الأسود الكث إخفاؤها...شعره الناعم المشذب بعناية مراهق ، والذي لم يفكر يوما في تغطيته بقبعة أو عمامة. كان يسير ببطء وهاتفه في يده. حياني بعينيه وجلس ، ظل صامتا فقلت:
- هل تعلم أنني أعاملك كحيوان..
لم ينظر لي ، فأضفت:
- كحيوان أليف .. قرد على وجه الخصوص... أستمتع بحركاتك البهلوانية وأنت تتسلق كل المرتفعات أثناء حديثك بالهاتف.
سددت إليه نظري ، ورأيته مصدوما.
- ما معنى أن تجلس معي لدقائق ثم تغادر مع هاتفك .. لماذا تجلس معي إذن؟..
قال:
- لا أعرف .. حقا لا أعرف...
قلت:
- يمكنك أن تجاملني وتقول على الأقل: لأنك صديقي...
نظر إلى السماء بصمت ، قال:
- نعم لأنك صديقي..
- لا ... هذه إجابتي..أريد إجابتك أنت..
بدى عالقا في فخ ، أدخل هاتفه إلى جيب جلبابه ، ثم أراح ذراعيه على سنادات الكرسي.
قلت:
- لكن .. على كل حال وجودك في حد ذاته مسل...إنني ارتاح لك..
همس:
- وأنا كذلك...
سألته:
- منذ متى نعرف بعضنا البعض؟
تاه بصره في نقطة عمياء أمامه ثم أجاب:
- لا أتذكر ..ربما اكثر من سنتين..
- ليست كثيرة... مع ذلك لا أعرف حتى اليوم اسم حبيبتك هذه..
التفت نحوي وقال:
- ليس لدي حبيبة...
نظرت في عينيه طويلا ، كانت عيناه صادقتين.
- لكنك تتحدث طويلا في الهاتف.. لم اشأ أن أتدخل في حياتك الخاصة... لكن ألا يمكنك على الأقل أن تفضفض معي عن سر سعادتك عندما تتحدث في الهاتف.
ابتسم ابتسامة مرتعشة ، ثم اخرج هاتفه وقال:
- أنا لا أتحدث مع حبيبة بل مع حبيب...
كان ينظر نحوي وانظر نحوه فأضاف:
- أنا مثلي يا صديقي... هل هذا سيغير من علاقتنا شيئا...
قلت وقد اعتراني خوف غير مبرر:
- لا أعرف.. هذا يعتمد على سمعتك .. لا أود أن ألوث سمعتي في الحي.. لست ضد المثليين لكنني لا أستطيع تخيل أن الناس يروننا نجلس سويا قرابة ثلاث سنوات بشكل يومي... ربما لن أتمكن من إعادة الرصاصة التي انطلقت إلى فوهتها... على أية حال لن أتمكن من تحمل فقد حضورك اليومي هنا... بالاضافة الى ذلك فأنا لا أملك سواك....
قال بصوت حنون:
- وأنا كذلك لن أتمكن من الاستغناء عنك..
اخافتني نبرة صوته ؛ ما الذي يقصده من هذه النبرة الحنونة... حاولت تخيله في وضع جنسي لكن عقلي كاد أن يتقيأ...
- يا إلهي.. لماذا أخبرتني .. بت أشك في كل شيء فيك...لكنني احذرك.. أنا لست من الصنف الذي تتعامل معه...
قال بخوف:
- أعلم ذلك.. أنت رجل مستقيم..لم أفكر فيك يوما على هذا النحو..صدقني يا صديقي..
صمتنا وانتظرته ليخرج هاتفه لكنه لم يفعل ، كانت بوادر الغروب تحرق السماء بالحمرة ، ورأيت وجهه كمن يهم بالبكاء...وبالفعل أجهش باكيا ....أخذ نحيبه الضعيف يخفت ورأيته يمسح عينيه بكم جلبابه.. قلت لنفسي:
- كنت أفضلك عندما كنت قردا .. تبدو حيويا الآن أكثر مما يجب...
أراح ظهره على الكرسي وأخرج سجارة وأشعلها ، لأول مرة ألاحظ أن أصابعه نحيلة وناعمة كالأنثيات.... اخذ ينفث دخانه بتأمل عميق. لم تكن هناك سيارة أمامنا ، المكان خال تماما ، لا مكان ليتسلقه اليوم ، ربما لا يملك مزاجا طيبا للحديث مع حبيبه.. حاولت تخيل حبيبه ، عملاق أسود ، ذو عضلات مفتولة ، قوته تعادل قوة عشرين رجلا طبيعيا وأربعين رجلا هزيل القدرة مثلي. كان "بشرى" صالحا فقط ليكون تحت جسد خرتيت كهذا ، فلن يشتهيه غير هذا..
رن هاتفه فاخرجه ببطء وقرأ الرقم ثم أغلقه وأعاد الاتصال:
- مساء الخير كلتومة.... لن استطيع التحدث معك طويلا اليوم.. فصديقي غاضب من حديثي اليومي معك.... لا ... سأتحدث معك غدا صباحا .. أغلق الهاتف ، نظرت اليه ورأيته يخفي ضحكة مستهزأة..
- ما معنى هذا ..؟
سألته بغضب.
ضحك وقال:
- أتمنى أن أكون قد منحتك تسلية جيدة هذا اليوم...
قلت:
- لست مثليا أليس كذلك...
قال:
- لا .. لماذا لم تشك في كلامي؟
قلت كاذبا:
- كنت أشك قليلا...
قال:
- لا تكذب...
نظرت الى المحيط المظلم وقلت:
- لن أكذب .. حقا لم أفكر حتى في مجادلتك حول تلك القصة..
قهقه وحك تفاحة عنقه ، فأضفت:
- لقد بدوت لي مثليا حقا..
انكفأ ضاحكا..
- المشكلة أنني لن استطيع نزع تلك الفكرة عنك من مخيلتي بعد اليوم...
قال من بين دموع ضحكاته:
- هذا مخيف حقا ...
- فعلا مخيف ...
أخرج هاتفه وأجرى اتصاله بحبيبته :
- كلتومة..
رفع قدمه اليمنى فوق الكرسي ، وأخذ يتحدث معها عبر أنفاسه ، عاد ليمارس طقوسه المعتادة ، لا يتوقف عن الحركة فوق كرسيه ، وعندما توقفت شاحنة صغيرة قربنا رأيته ينهض ويتجه نحوها ... اتكأ عليها بظهره وهو يتحدث ، أشعل سجارة ثم أدار وجهه ناحية الشاحنة ، رفع قدمه وأتكأ بركبته على عجلاتها الضخمة ، عاد واستند على الشاحنة بظهره ، ألقى سجارته وسحقها بقدمه ، ورأيت شبحه تحت الظلام وهو يتسلق ظهر الشاحنةبعفوية ...
كنت أحاول أن استمتع برؤيته يفعل ذلك كما كنت سابقا... لكنني لم استطع... لم يعد قردا أليفا .. لقد انكسر شيء ما بيننا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى