بنسالم حميش - قصة زهرة مع طرفة

بنسالم حميش.jpeg

قال الحافظ:
ولما افتضح أمر حب المرأة لامرئ القيس، نبذتها القبيلة، وقالت النسوة فيها ما لا يطاق من التعيير والطنز. فلم تجد مفرا من البحث عن ابن عمها طرفة بن العبد والتماسه في أطراف الجزيرة وعمقها، إلي أن اصطادته ذات مساء في حانة غرب يثرب، ليلها كنهارها، لا يدخلها إلا ماجن أو قانط. وفي هذه الحانة الموغلة في الستر والخفاء، لازمته أياما تنادمه وتجاري سكراته، فبات الواحد منهما يبادر الآخر بالكؤوس كلما تخيل بعض بوادر الصحو عليه، وذلك حتي تبقي للسكرة سيادتها وللمنادمة حقوقها.
كان طرفة يعرف شيئا من جراح نديمته الغائرة، ويجهل أشياء، وكانت هي تعلم أنباء عن حياته نمت إليها عبر قناة فضولها الاثيل، لكنها لم تفلح منه شفاهة بما يشفي الغليل حول يتمه وتشرده، وأكل أعمامه لميراث أمه، وتمادي صهره في تعنيف أخته، إذ كان يكتفي بالهمس في أذنها بفم يتعتعه السكر المكين، فيقول :
اجمعي كل الشرور في واحد، ورددي معي: وظلم ذوي القربي أشد مضاضة / علي المرء من وقع الحسام المهند ، ثم يقرع كأسها بكأسين معلقا : هذه لمطاردة القروح في أحشائي، وهذه الاخري لري هامتي.. الحياة، لحتها الآلهة لم تربطني بها سوي شعره لامضاء لها ولا شأن. ولولا عكوفي علي شرب السوائل الروحية، أو قولي المحروقات الدفعية لتلاشت تلك الشعرة، كأن لم تكن من قبل شيئا.. تعتورني نوبات الشكوك الحادة ! فأبادر إلي قطعها بيقين السكرة والترحال، علني ارمي بها خلف ظهري، وأتنفس الصعداء..
صمت طرفة بن العبد وألقي حوالي نظرة، فلم تدرك عيناه سوي أشباح منكبة علي أقداحها في زوايا معتمة، تسري بينها كلمات متقطعة مبهمة وآهات غير واضحة القصد والحالة. وبعدها قال :
منذ شهر أو أقل، مررت متنكرا بظاهر سوق عكاظ، فشاهدت شويعرين يتبارزان بالسيف علي نحو عنيف جاد.
سألت عن السبب، فقال لي الشهود : إن أيا منهما لم يقر للآخر بأنه أشعر الشعراء، وأنه في هذا البيت أو ذاك وطئ أمهات كل الشعراء، فاحتكما إلي النزال الذي أنت تراه.. عبثية أيامنا، يا زهرة الازهار، وحروبنا الدامية الدامسة، كعراك الشويعرين، طرر وترهات في بقاع لا نسغ لها ولا مجد.. إنا هنا بين السهول والهضاب، نسكن أو نترحل متعيشين، ونحشو دنيانا بالآلهة والغيلان والمردة، وبأوهام أخري، عسانا نلهو عن غربتنا في الكون، أو نرفع عقيرتنا بالتضرع والشكوي أمام طاغوت الفراغ المؤبد..
تنهدت المرأة ملء صدرها وقالت : لو أن قيسا عمر فعاشرته ونادمته لأدركت أنه في شؤون شتي رضيعك وصنوك.
فقاطعها طرفة محتجا وقال : لا يا زهرة، بل قيس امرؤ ضل وأضل.. لم يفل الوجود طي أقاصيه، ولم ينل من طلب الملك، حين أنكر سيرته الاولي، سوي الويل والصدأ.
سكت طرفة فجأة، كأنه عيي في الكلام، أو ندم علي إشارته الاخيرة، فأطرق مفكرا، حتي إذا ذكرته المرأة بوجودها ناقرة المائدة، تفرسها وهمهم بكلام لعله شعر، ثم أنصت إليها وهي تشكو قنوطها ويأسها من عجز آلهة العرب، ذكرانها وإناثها، قالت : أيعاني معها التصفيق والتصفير، ولا خبر يأتي منها ولا خير !
فأجاب بصوت فاتر بل نافر : هذه الآلهة، يا زهرة، صور ومجازات نصانع بها ونلهو، كيلا نغرق أحياء في لجج الدهر المرهبة المتلفة. أما رافضها مثلي، فلا سلاح لـه سوي تدبير الساعة التي هو فيها بالسياحة، إن استطاع وتسليم نفسه لجواذب النسيان في حميا الكأس والشهوة الفانية..
أعجبني، كم أعجبني خبر عن قيــس، مفاده أن حبيبك كان كلما عاكسته اصنامه أو علت عليه، ضربها بنعله وقداحه ! حسارة مثلي وأي حسارة ! لا يستطيعها إلا سيد أصيل، وفارس سليل دوحة حرة علية.
راق المرأة، كم راقها مدح طرفة لفقيدها الغالي ! فطربت له سكري، وهي تقبل رأس جليسها وتقول : لافض فوك يا كريم ، لافض فوك .. للتلهي عن ضيقي ذرعا بالصحراء والخلائق من حولي ، كنت أحوج النساء إلي قدر من الحماسة والهزات ! وقيــس - والحق يقال - أذكي ، من حيث لا أدري ، جذوة الحياة فيَّ ، إذ غلب كفتها علي مللي من الجمال والنيقان ، ومن طقوس الناس والرمال المترامية . في معيته اخضرت الصحــراء في ناظري ، وبدت لي الوديان والدارات جنات عطرة فيحاء ، لا نكد فيها ولا غم.
وتوالت الليالي ، والمرأة علي تلك الحال مع ابن عمها ، تجوب حانات يثـــرب ومكــة والطائــف إلي أن نفد مالها ، وعجزت عن أداء أثمان سكرات نديمها وسكراتها ، فصار حتي أرباب الحانات الرخيصة المعتمة ينهرونهما ويطردونهما ، فاضطرا إلي تجرع أبخس أنواع الخمور، بل والكحول الخالص أحيانا . وهكذا دخلا في دروب التشرد والتسكع المظلمة الملتوية ، يلاحقهما فيها الصبيان والفراغ بالشتم والرمي بالزبل والحجارة .. واتقاء لهذا الشر ولثائرة ذوي القربي، أضحي همهما الاكبر هو الاحتجاب عن الانظار نهارا ، والتنقل من ملجأ إلي آخر ليلا .
وذات صباح استفاقت المرأة فألفت نفسها وحيدة في غارها، لا أثر لطرفة إلا قطعة من الجلد مكتوب عليها بخط يده : عليّ يا أختاه، هذه الليلة، بالرحيل طلبا لما أسدد به ديوني وديونك . قد عشت عبئاً عليك، حتي أفلست ولم يعد لك ما ترهنينه من الثياب والحلي. واليوم لابد أن أتكفل بما يكفينا من خمور جيدة تجدي حياتنا المتبقية . فإني ، وحق السماء، لا أري لنا في هذا العصر اللعين مخرجا إلا في السكرة الدائمة، أو في أن يتهاوي العصر علي أهله طللا، فتعاد نشأته خلقا جديدا . إني ذاهب لأضرب في الارض مقايضا بعض مال الملوك بشيء من شعري ، فانتظريني في غارك واصبري. إني عائد إليك بما ستملك يداي ، وبعد ذلك إن رضيت زوجتني علي يدك، فقد حدثني رب ذرية قال : أنقذني البنون من يأسي، وسينقذهم بنوهم من يأسهم، هكذا دأب بني آدم علي الدوام وحيلتهم ضد نوائب الدهر وجائحات الايام .
مضي شهر فآخر، وفي غرة الثالث أقدم علي المرأة في غارها رجل يدعي المتلمس، فسلم ونعي إليها طرفة، واصفا كيف قتل غيلة علي الطريقة المحفوظة في ديوان العرب.
قال : أنــــــا المتلمــــس، خال طرفــة ورفيقه في الطريق إلي البحرين. قصدنا معا هذا البلد وكلانا متأبط كتابا من ملك الحيرة، عمرو بن هند اللخمي، إلي عامله هناك، يأمره فيه بإحسان مثوانا وإغداق الهبات والمال علينا. لكن ما إن أوشكنا علي إكمال السفرة حتي اعتراني ريب شديد في مضمون كتابي ففتحته ، فإذا فيه أمر بقتلي ، فوليت راجعا بعد أن يئست من حث طرفة علي فض كتابه والاطلاع علي ما فيه ، وقد علمت بما أخبرك الآن به : إن طرفة قد قتل علي يد عامل جديد استعمله عمرو بن هند بعد أن رفض السابق تنفيذ ما في الكتاب لقرابة تجمعه بالموصي به.
وحكي أن ذلك العامل خاطب طرفة قائلا : إني قاتلك لا محالة، فاختر لنفسك ميتة تهواها ، فأجاب: إن كان ولابد فاسقني الخمر ثم افصدني ، وفي رواية أخري: إن كان ولابد فاسقني الخمر ملء رأسي ثم اقطعه وابعثه إلي سيدك في دن من الشراب العتاق . هذا ما علمته، وعلم الآلهة أوسع.
لم تنبس المرأة بكلمة، بل انزوت في عقر غارها، وطلبت من المتلمس أن يتركها ولا يخبر عنها أحدا. ولما انفردت أخذها نعاس ناعم سرعان ما انتظم في حلقات رؤي ثأرية شديدة متلاحقة:
فقد رأت أنها تحولت إلي حورية تمارس في حق عتاة العصر الاغراء والجذب، ثم تقتل كل ساقط في شباكها بخنجر شديد الطعن..
ورأت أنها صارت حية عظيمة تتواري خلف أنصاب مناة واللات والعزي، وتلسع كل العابدين السجد، فيسقطون صرعي، وكأن الآلهات أنهلن عليهم الموت قرا وسما..
ورأت الخلاء الخارق يخنق القوافل، إنسها ودوابها..
ورأت الصحراء تزحف رمال كثبانها وسهولها علي كل أخضر وكل حي..
ورأت السماء تمطر أوحالا كحلاء، وسيولا من القطران والكبريت والدم..
واعتورت حلقات نوم المرأة رؤي أخري أفدح وأعتي..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى