الخمرة فرحات عثمان - الإسلام لا يحرّم الخمر بل السكر

لعل من الأغلاط التي ثبتت في دين الإسلام دعوى أن الإسلام يحرّم الخمر، إذ لم يحرّم إلا السكر.

فليس المنع إلا من اجتهاد الفقهاء الذي اعتبر السكر مرادفا لشرب الخمر حتى ما لم يسكر منه، فتم استنباط الأحاديث المنحولة، ومنها مثلا أن قليله كالكثير منه.

مفاهيم وقوانين لاغية

إننا بفهمنا المجحف للخمر أو الخمرة (إذ تذكّر المفردة وتؤنث) خلقنا من موضوع هيّن تافه أمرا عظيما جللا ظلمنا به الناس والدين. فقد أصبحنا لا نتحدث عن الخمر بل الخُمار، وهو الداء العارض للرأس من شرب الخمر. فهل كل من يشرب الخمرة يصل ضرورة إلى حد الخمار؟ أليس هذا إفحاش في الخطأ والخلط بين الأشياء واللخبطة في الأمور؟.

لا شك أيضا أن الفحش هو أن تُواصل الدولة المدنية في تونس العمل بنصوص قوانين لاغية بمقتضى الدستور، علاوة على أنها من مخلفات العهد البائد وعهد الاستعمار.

فالتحديد من بيع الخمر يوم الجمعة وفي رمضان، إضافة إلى تحريم شربه الذي لا صحة له في الإسلام، ما يزال يتم حسب نصوص مجحفة لا بد من إلغائها في أقرب الأوقات حتى يصح أخذتا بالدين القيّم.

هذه النصوص القانونية غير الشرعية هي الآتية:

– الفصلان 226 و226 إضافي من القانون الجنائي (الذي وقع اعتماده تحت نير الاحتلال) المتعلق بالإخلال بالأخلاق الحميدة التي سبق أن بينا في يومية ماضية صفتها وما تقتضيه في الإسلام الصحيح؛

– الفصل 317 من القانون الجنائي الذي يقضي بالسجن 15 يوما وبخطية مالية لا فقط لمن يثبت سكره، بل ولكل من يتجرأ على مد المسلم بالكحول أيا كانت ظروف إيقافه؛

– القانون المؤرخ في السابع من نوفمبر 1959 المتعلق بمحلات بيع المشروبات، ومنها المشروبات الكحولية، كما تم تنقيحه سنة 1961، الذي يمنع الكحول للمسلمين؛

– المنشوران لسنتي 1986 و1989 بخصوص بيع الخمر في رمضان والأعياد الدينية وأيام الجمعة للمسلمين. مع العلم أنهما لم ينشرا، وهي حالة بطلان قطعية.

كل هذه النصوص الباطلة قانونا لاغية أيضا دينيا وأخلاقيا. رغم ذلك، لا تتجرأ السلط على إبطالها رغم ما فيها (أو نظرا لذلك) من فرصة للقضاء وللشرط لفرض نظرة دينية متزمتة على الشعب تقمع بها حرياته المضمونة دستوريا.

فإلى متى تدوم هذه الحال المخزية لدين أعلى أي إعلاء حرية العبد الذي لا يسلّم أمره إلا لله المقدّس لحرياته، فلا إكراه في الدين ولا فهم له غير عقلاني إناسي !

لقد حان الوقت للكف عن نظرتنا التي هي عمشاء في أفضل الحالات لديننا السمح المتسامح. فليس الإسلام الدين الأعمش في أمور الدنيا، إذ تركها للعباد يصرّفونها حسب ظرورف معيشتهم التي تتطور، وحسب حقوق الإنسان التي كان الإسلام من المنظرين الأوائل في العديد من فروعه.

فملّتنا دين ودنيا؛ وهي تفصل الإثنين تماما كما فعلت اللائكية: لا دخل للدين في أمور الدنيا ولا دخل لأمور الدنيا في شؤون الدين. كذلك الفصل تام في الإسلام بين الحياة الخصوصية التي تبقى حرة لا رب لها إلا صاحبها – وفيها المجال الحر التام لتعاطي الدين في علاقة مباشرة مع الله -، والحياة العمومية، وهي ميدان العيش المشترك واحترام الآخر، كل آخر، أيا كانت مشاربه وأهواؤه.

هذا هو الإسلام الصحيح، وهو كذلك في الحياة الشعبية ببلدنا التي حافظت، رغم كل أفاعيل من يريد تغيير نمطها، على احترام الحريات وغض النظر عما لا يتناسب مع المعتقدات كما يأمر به الدين الصحيح.

ضرورة تحيين الاجتهاد المحرّم للخمر

إن المنع الصريح في الإسلام للخمرة ليس لا في القرآن ولا في السنة، بل هو من الاجتهاد الفقهي؛ فالقول بأن الإسلام يحرّم الخمرة من استنباط الفقهاء. وقد كان اجتهادهم في ذلك الزمان صائبا ومصيبا لأنه تماهى مع مقتضيات عصره؛ فكان من باب الرأي الفقهي في نطاق الاجتهاد الذي يحث عليه الإسلام، وما كان قانونا أزليا كما أصبح عندنا.

ذلك أن آفات الخمرة كانت كثيرة وفيها المساويء الإجتماعية العديدة؛ ونحن نعلم السبب الذي جاء به أول كلام الله في الأمر، وهو تعدد الخروقات للأخلاق وللدين حتى أصبحنا نرى السكّير يقوم للصلاة. وهذا ما منعه الدين كما نبيّنه.

ذلك لأن الإسلام دين االحريات؛ فهو لا يمنع ما ليس فيه الضرر إذا لم تقع المبالغة فيه. والخمر، ما دام لا يُسكر، أي يخامر العقل، لا منع له في الإسلام. بالتالي، من الواجب والمستحب لمن لا يقدر على الامتناع عن شرب الخمر عدم المبالغة منه لعدم السكر.

هذا ما يفرضه العقل وحسن الآداب، ومنها آداب الشرب عامة، وشرب المسكرات خاصة. وذلك ما جعل القرآن، كما نبيّنه، ينص صراحة أن السكر محرّم عند القيام للصلاة.

وبعد، أليس مثل هذا المنطق أفضل للحد من ظاهرة السكر في مجتمعنا، إضافة إلى أننا نكون نزهاء في فهمنا للدين عوض منع الخمرة الشيء الذي يشجّع حتما على شربها إلى حد السكر؟

إن الدراسات العلمية تبيّن أن الممنوع يزيد في الرغبة فيه، بل لعله يخلقها من عدم عند من ليست عنده، محبة في اكتشاف المجهول وتحديا للمحظور. بذلك، بتحريمنا ما لم يحرّم الإسلام، نشجّع على السكر ولا نحد منه. بل والأدهى أننا نشجع أيضا على المتاجرة غير القانونية به؛ فهل هذه أخلاق؟ وأي أخلاق هي؟ غير أسلامية بالمرة بدون أدنى شك!

إن القبول بما ثبت بأنه لا تحريم إلا للسكر يكون فيه النفع كل النفع بالحد من حالات السكر المزرية التي نراها والتسلط الفاحش من طرف القضاء والأمن على حريات الناس باسم مصلحة المجتمع بينما هي التي تضر به من دون أن تدري.

إن رفع تحريم الخمرة، إضافة للتقيّد بحليته في الإسلام، إذ ما لم يحرّمه الدين حلال، لمن شأنه جعل شارب الخمرة مسؤولا، يأخذ بدينه فلا يشرب لحد الثمالة دون أي مركبات، وهي أصل داء مجتمعنا مثل الرياء والمخاتلة.

ثم إننا بحرية بيع وشرب الخمرة نوفر للمسلم الفرصة لامتحان صدق نيته في احترام الدين، بما في ذلك من يعتقد غلطا أنه يمنع الخمر، وذلك بالاجتهاد في كبح نفسه وغض النظر عما يزعجه، كما يأمره به الله وكما فعل نبيه؛ فهل نحن أفضل من الرسول الذي صبر على الأذية وهو الحامل لرسالة الله السنية؟

أما بالنسبة للشارب عن اقتناع بحلية الخمرة، وهذا هو الصحيح، فهو يجتهد في احترام دينه بعدم المبالغة حتى لا يفقد عقله في دين عقلاني أكد بالغ التأكيد على ضرورة الحفاظ على العقل وعدم اختماره لأنه أفضل ما في الإنسان.

هذا هو الجهاد الحقيقي، الجهاد الأكبر، جهاد النفس الذي لم يبق من الجهاد إلا هو في دين الإسلام بعد انتهاء الجهاد الأصغر كما انتهت االهجرة بقيام الدولة الإسلامية. ولنا لذلك عودة إن شاء الله.

إثبات عدم تحريم الخمرة في القرآن

يذكر القرآن الخمر في السور والآيات التالية :

– البقرة 219 : «يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما»؛

– المائدة 90 – 91 : «يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون* إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدّكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون»؛

– النساء 43 : «يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون».

هذه هي الآيات التي يعتمد عليها أهل التحريم للخمرة رغم أنه لا منع فيها بصريح العبارة. وقد علمنا أن التحريم لا يكون إلا بفصيح المنع وصريح العبارة حتى لا يقع الشك في أمر الله، إذ لا مجال للتأويل في التحريم، خاصة وأن القاعدة في الإسلام هي التحليل أو الحلية لكل ما لم يقع تحريمه بصريح الحرف وواضح المقصد.

إن أقصى صريح الحرف في ما سلف ذكره من القرآن ما ورد في سورة المائدة، وهو تعبير عربي صُرف للمنع وليس هو منه بفصيح العبارة. ثم هبنا اعتبرناه منه حسب عظم أهل العربية والفقهاء، فليس هو مما يفيد منع الخمر مطلقا بل في حالة ذكر الله والصلاة؛ فإذا كان هناك المنع، فهو لا يخص إلا هاتين الحالتين، وبالأخص الصلاة.

فما يمنع شارب الخمر الذي لا يذهب به الحد إلى المبالغة إلى حد السكر، وهو الممنوع في الإسلام، أن يذكر الله ويقيم الصلاة دون أن يقرب الخمر عند أوقاتها؟

هكذا فهم العديد من الفقهاء هذه الآية، خاصة أهل التصوف؛ بل ويُذكر أن أحدهم ممن تقلد الإفتاء في عهد الرئيس بورقيبه كان ممن أفتى في هذا الاتجاه، فلم يكن يتورّع عن شرب الخمرة حتى أثناء الفترة التي تولى فيها الإفتاء.

هذا، وبإمكاننا إضافة آيات أخرى لما سبق فيها ذكر الخمرة ولكن من زاوية ثانية لا يمكن تجاهلها إذا أردنا الموضوعية؛ وهي الآتية :

– الآية 15 من سورة محمد : «مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغيّر طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربّهم كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم»؛

– الآية 67 من سورة النحل : « ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك لآية لقوم يعقلون »؛

– الآيات 25 إلى 28 من سورة المطففين : « يُسقون من رحيق مختوم * ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون * ومزاجه من تسنيم * عينا يشرب بها المقربون ».

باديء ذي بدء، لنقل أن القرآن، شأنه في هذا شأن الكتاب المقدس (مثلا في سفر التكوين 27: 28 وسفر التثنية 11 : 14) لا يرى في العنب إلا الخير والمنفعة، إلا أن الإكثار من تلك المنفعة، تماما كما في كل شيء، هو الذي يفسد منافعه.

لهذا، نراه لا يقرر المنع بتاتا، فلا استعمال للتعابير المعتادة في التحريم الذي يقتضي أن يكون المنع من الوضوح التام، لا يترك المجال للتأويل فيه البتة. وكما قلناه، المنع والتحريم أتيا من اجتهاد بشري؛ وهو يصيب ولا يصيب كما نعلم؛ كما أن ما يصيب منه اليوم لا يبقى ضرورة مصيبا أبد الآبدين لتغير الظروف والأحوال.

رغم ذلك أوّل الفقهاء كلام الله في اتجاه المنع جاعلين من كلامهم كلام الله، وليس هذا من الفقه الصحيح في شيء، إذ لا مجال لتحريم ما لم يحرّمه الله.

مع الإشارة إلى أن العادة تفشّت في توقف الفقهاء عند تأويل آيتي المائدة عند الآية الأولى وتجاهل الثانية، بينما الارتباط وثيق بينهما، إذ ذكر الرجس يخص القيام للصلاة خاصة. بذلك عمم الفقهاء ما كان خاصا ولم يكن لهم حق تعميمه متجاهلين مقصد الله تعالى.

وبعد، إن أكبر الدليل على حلّية الخمر تواجده في الجنة. ولقائل أن يقول أنه ليس فيه الاختمار للعقل الذي فيه السكر؛ ويكون الرد أن الاختمار ليس في الخمر بل في السكر أي في المبالغة في شربه. لذلك نكون دللنا على حلّية الخمر إذا لم يصل شاربه حد السكر. أليس هذا أفضل للمسلم الذي لا يتمكن من ردع نفسه عن الشرب، فهو يبقى مسلما محترما لتعاليم دينه إذا حرص على الابتعاد عن السكر فشرب بحكمة.

إثبات عدم تحريم الخمر في السنة

لن نعرض هنا، طبعا، إلا لأحاديث السنة الصحيحة، وهي عندنا ما أورده البخاري ومسلم، بل وما اتفق عليه الشيخان. وهوذا ما ذكره الإثنان :

– كل مسكر حرام
– كل ما أسكر عن الصلاة فهو حرام
– كل مسكر خمر وكل مسكر حرام، ومن شرب الخمر في الدنيا فمات وهو يدمنها، لم يتب، لم يشربها في الآخرة
– من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة.

كما نرى، لا وجود إلا لذكر السكر والإسراف في الشرب؛ أما عقاب الله لمن سكر فليس إلا حرمانه من شربها في الآخرة.

هذا، ونجد في الصحيحين بابا كاملا في حلّية النبيذ، وهو خمر التمر الذي كان يشربه الرسول. كما نجد ما ألمعنا إليه سالفا، أي حادثة تقديم كأس الخمر وكأس اللبن للرسول من طرف جبريل في ليلة الإسراء والمعراج. مع الإشارة إلى أن الفقهاء ذكروا الحادثة ولم ينكروها، وإنما للإلحاح على أن الرسول اختار كأس اللبن؛ فلا ذكر عندهم لتقديم كأس الخمر للنبي من طرف الروح القدس والإمكانية التي كانت له لقبوله، ممل يدلل على أنه من الحلال؛ فهل يُعقل أن يُقدّم له جبريل ما ليس حلالا؟

كل هذا يبيّن ما ليس فيه مدعاة للشك أن التحريم يخص السكر لا غير، وذلك لما كان من عادة متفشية عند العرب في الجاهلية بقيت في بداية الإسلام؛ فلم يكن من الإسلام إلا ما فيه القطع مع هذه العادة السيئة بالتهذيب على عدم الإسراف.

ونحن نجد في صحيح مسلم الظروف التي نزلت فيها الآية التي حُملت على أنها منعت شرب الخمر؛ وكان ذلك لتصرّف فاحش من طرف حمزة عم النبي، وكان مخمورا.

أما ما يخص عقاب شرب الخمر، فليس لنا ما يُثبت أن الرسول أقر عقوبة ما في الموضوع، أو أنه مارسها خارج النطاق الرمزي الوعظي، بالاكتفاء بضرب السكّير. فالعقاب الأوحد المعرف في عهد الرسول كان ضرب السكير بجريد النخل أو بالصناديل حتى يفيق من سكرته. وواضح أنه لم يكن يخص إلا السكر لا شرب الخمر.

أما جلد الأربعين جلدة، فلم يقع إقراره إلا في عهد خليفة الرسول أبا بكر، ثم انتشرت بعده عن كره. فمما يُذكر في البخاري عن علي بن أبي طالب أنه كان يذكّر بأن الرسول لم يوص أي شيء في الغرض. لذلك كان يحرص كل الحرص على عدم المبالغة في وجع المعاقَب، مؤكدا أنه إذا حدث ومات السكّير من جراء ضربه، فله لا محالة حق القود، أي أن الضارب يكون مسؤولا على موته ولو كان الضرب مشروعا. فأي دليل أبلغ من هذا على خطأ الفقهاء في التأكيد على العقاب لا فقط على السكير، بل على الشارب وحتى على مجرد من يلمس الخمر؟

اجتهاد الفقهاء في تحريم الخمر

لم يكتف الفقهاء بالتأكيد على المنع، عوض الإشارة إلى أنه منهم اجتهاد، بل طمسوا روح النص وحرفه الذي يشير للفوائد التي نجدها في الخمر.

لقد كان القرآن علميا في هذا الميدان قبل العلم الذي بيّن اليوم فوائد الخمرة على الصحة. وطبعا هذا لا يعني إلا الشرب الحصيف، أي بدون غلوّ إلى حد السكر؛ وهو ما يفرضه العقل لأن المغالاة في كل شيء مفسدة. أليس المثل الشعبي يقول «كثّر من العسل يمساط»؟

ثم كيف لا نعير اهتماما لكلام الله في أن للخمر منافع؟ أليس هذا من الاستخفاف بكلامه؟ ألم يكن من الأفضل من طرف الفقهاء بيان هذه المنافع مع التأكيد أنها تنتفي مع المبالغة، أي السكر؟ فهذا هو الذي يحرّمه الله، لا الخمر في حد ذاته، ولا منافع الخمر.

ولنتبيّن إلى أي حد وصل التزمت بالفقهاء، نشير إلى أنهم اعتمدوا في هذا المنع على أحاديث منسوبة للرسول لا صحة لها؛ فكان مثلا أن وصلوا إلى حد تحريم مسك الخمر، بينما مسكه الملاك جبريل نفسه حين قدّم للرسول كأس اللبن وكأس الخمر عند معراجه. فهل يمسك الملاك الخمرة ولا يمسكها البشر؟

هكذا مرّ موضوع الخمر عند فقهائنا من قضية في الاعتدال في استهلاك ما فيه نفع – وهذا ما جاء به الدين – إلى تحريم ما خلقه الله جزافا بتعلة أن المؤمن لا مناص له من الوقوع في المغالاة والسكر. أليس هذا من باب التجنى على العبد إضافة لمسخ كلام الله؟

متى كان للفقيه استنباط الأحكام حسب هواه وباسم ما يصلح للمؤمن الذي لا يُعامل كراشد، بل كقاصر لا قدرة له على التفريق بين شرب الخمر بدون بلوغ السكر والمبالغة فيه إلى حد اختمار العقل؟ فهذا هو الممنوع إسلاميا، لا شيء آخر في ملة محمد الصحيحة كما بلّغها عن ربّه.

لقد بيّن الله أن في الخمر منافع ككل ما خلق، و بديهي أنه ليس في أي شي منافع بحتة أو مضار بحتة؛ وإلا ما دور جهاد النفس الذي حث عليه الإسلام وجعل منه الجهاد الأكبر؟ فبه وبلا شيء غيره تزكية النفس ! ولاشك أن مثل هذا الجهاد هو الامتحان الذي يفرضه الله على عباده في الحياة الدنيا للحصول على ثوابه في الحياة الآخرة.

لنقل كلمة هنا في معنى الرجس، فهذه كلمة لها عدة معاني، منها الشر والسوءة وما نتن ريحه. إلا أنه يُستعمل أيضا للعقاب وللأصنام أيضا، كما يُستعمل للشك وللنفاق. بهذا نرى أن الفرق كبير بين المعنى المتعارف عليه والحقيقة اللغوية للمرادفة. فإن كان الخمر هذا الرجس من عمل الشيطان، فليس طبعا ما قال الله أن فيه المنافع، بل هو السكر بدون أدنى شك. أفليس كل ما فيه غلو من الرجس أيا كان؟ فحتى الغلو في العدل يصبح ظلما، وبالتالي رجسا !

حسب القرآن إذن، في قراءة صحيحة، ليس الخمر في أقصى الحالات إلا المكروه الذي لم يمنعه الله ولا يحرّم الأخذ به وإن استُكره. فليس هناك التحريم القطعي للخمر إلا عند القيام للصلاة، إذ يُمنع منعا باتا الصلاة سكرانا.

بهذا، خلاصة القول هي أن القرآن لا يمنع تعاطي الخمر وما يُسكر، إلا إذا وصل المؤمن حد السكر، خاصة للقيام للصلاة؛ هذا هو المحرّم صراحة. أما منع شرب الخمر خارج الصلاة وخاصة دون السكر، فليس إلا من اجتهاد الفقهاء، وقد بار هذا الاجتهاد اليوم لأن مضرة المنع أصبحت أكبر من منفعته، بما أنه يحمل على الغلو وعدم التزام ما يدعو الدين له من خصال حميدة في آداب الشرب.

الإثم في الإسلام وفي الإسرائيليات

إن التوجه الذي أخذه فقهاء الإسلام في تحريم الخمرة كان بتأثيرٍ من أهل الكتاب، إذ كان أغلبهم من الموالي، أي ممن أُفعم متخيله ولاوعيه بتعاليم اليهودية والمسيحية، أي الإسرائيليات التي نعرف مدى تغلغلها في الإسلام عبر تاريخه المجيد لطمس أنواره.

لقد بيّن ذلك ابن خلدون، إذ قال في المقدمة تحت بابٍ عنونه : « في أن حملة العلم في الإسلام أكثرهم العجم » ما يلي : « من الغريب الواقع أن حملة العلم في الملة الإسلامية أكثرهم العجم، وليس من العرب حملة علم، لا في العلوم الشرعية ولا في العلوم العقلية، إلا في القليل النادر. وإن كان منهم العربي في نسبه، فهو أعجمي في لغته ومرباه ومشيخته، مع أن الملة عربية صاحب شريعتها عربي » (الباب 43 من الجزء السادس).

هذا، ولا بد هنا من التذكير أن حال الكتاب المقدس كحال القرآن تماما، أي أنه لم يمنع إلا السكر؛ رغم ذلك فالنزعة لفهمه غلطا، كما هي الحال في الإسلام اليوم، كانت متواجدة بين اليهود في ذلك الوقت مما أتى بالفهم الخاطيء الذي فرضه الفقهاء على المسلمين. مع العلم أن هذا لم يكن رأي كل الفقهاء، ولا عامة أهل السنة، إذ اختلف عنهم فقهاء التصوف فتميّزوا بفهم أصح للدين نذكره لاحقا.

ذلك لأنهم فهموا على حقيقته الإثم في الإسلام فلم يتأثروا كفقهاء الرسم بالمفهوم اليهودي والمسيحي الذي لا يفرق بين الإثم والذنب كما هي الحال في الإسلام . فلا إثم في الدين الإسلامي حقيقة عدا الشرك بالله.

نعم، إن الإسلام من شدة احترامه لحرية العبد لا يعتبر إثما إلا الإشراك بالله، أما سائر الأخطاء الأخرى فيه فذنوب لا آثام، وهي بذلك مما له الحصول على رحمة الله وغفرانه. بذلك، ليس معنى الإثم الإسلامي بنفس المعنى الذي نجده في المسيحية واليهودية، الذي هو فيهما الخرق لقانون إلاهي.

لغويا، الإثم إسم للأفعال المبطئة عن الثواب، وهو يعني الإبطاء عن الخير؛ ومنه الكذب إذ هو من جملة ما يبعد الثواب. أما فقها، فكما قال الجرجاني، الإثم هو ما يجب التحرز منه شرعا وطبعا. وكما بّينا، لا إثم إلا الشرك بالله. لهذا، لا مجال للمقارنة بين الإثم في الإسلام وفي اليهودية والمسيحية.

فالإثم في الفهم المسيحي هو الحرمان من الخير privation du bien (privatio boni). إن الفهم اليهودي والمسيحي يعتمد على التمييز بين الخير والشر والتناقض التام بينهما؛ ولم يكن الحال كذلك في الحضارة الإغريقية حيث لا تناقض بل تكامل بين التصرفات. كذلك هي الحال في الإسلام؛ وليس هذا مما يُستغرب نظرا لاتساع اللغة العربية، دليل ذلك وجود الكلامات الأضداد؛ وتأثر المسلمين بالحضارة الإغريقية أيما تأثر.

في الفكر الإغريقي، يوجد فرق كبير بين الإثم وبين ما يمكن تسميته بالتلوّث. الفرق بين الإثنين هو أن الإثم يمكن للإغريقي مقاومته بتزكية نفسه؛ أما التلوّث فهو بمثابة الإثم الذي لا يمكن التخلص منه، أي أنه مثل الجرثومة أو الفيروس الذي لا دواء له. لذا، لا مناص من قبول مثل هذا التلوث والعيش معه وبه. فالإثم الإغريقي منتظم بينما التلوث بنيوبي؛ ومعرفة هذه الخاصية في الإنسان هي التي تمكنه من بلوغ الحكمة، وخاصة حكمة الحاجة التي هي من الحالة البشرية ووضعها.

هذا المفهوم الإغريقي يتناغم مع التفريق العربي الإسلامي بين الذنب والإثم، إذ يقبل الإسلام الذنب، وهو ما يوازى التلوث الإغريقي، ويحث على العمل للتخلص منه في مجاهدة متواصلة للنفس هي الجهاد الأكبر. وهذا هو الفهم الصوفي.

ختاما، لنبيّن أن التفريق الذي نجده في اليهودية والمسيحية كان عاملا أساسيا في ظهور الحضارة الغربية التي قامت على التجزئة والتفريق؛ إلا أنه اليوم مرفوض من طرف العلوم التي لم تعد تعترف ضرورة بالتضادّ، فترى فيه إمكانية الإئتلاف رغم الاختلاف البيّن. وهذا من كان موجودا في دين الإسلام ولا يزال في العربية وفي العادات الشعبية. فهو من الفتوحات العلمية في ميدان المخيال واللاوعي وعلم النفس خاصة.

الخمر حلال في الإسلام الصوفي

إن إسلام الصوفية يعتبر المؤمن سالكا طريق الحق نحو الله، فحتى إن سقط في الطريق، فلا بأس عليه في إيمانه ما دام ثابتا على الطريق، مداوما السير على محجة الحق. المهم أنه ييمّم هذا الأفق حتى وإن تكاسل في الطريق أو نام عن بعض واجباته، إذ له التكفير عنها؛ فالمهم التوجه الصحيح، أي النية الحسنة.

هذه هي الطريقة الصوفية للسالك نحو الله، أي الحاج للحق. فلا قطيعة إذن بين الخير والشر في الإسلام، تماما كما كانت في الحضارة الإغريقية، لا كما فرضتها العادات اليهودية والمسيحية.

والخمر في الإسلام عند الصوفية مما خلق الله، وله منافع كبرى ما دام استهلاكه بدون إسراف، أي دون بلوغ حد السكر. لقد علم هذا أهل التصوف منذ البداية، فاعتبروا شرب الخمر برصانة وعدم إسراف من دلائل التقوى. لهذا نراهم يرمزون بالخمرة إلى الحب الإلاهي.

إن الخمرة في التصوف، لضرورة شربها بحكمة دون إسراف – لا لشيء إلا لأن الإسلام يمنع الإسراف في كل شي – لهي موازية لخمر الجنة، أي أنها لا تخامر العقل ولا تسكره. فإن كان ذلك في الجنة من كرامة الله، فهو في خمرة الأرض الدنيا بفعلٍ من العبد، أي بمجاهدته لنفسه حتى لا يسرف في شرب الخمرة كما من واجبه ألا يسرف في شيء.

بهذا وعلى هذه الصفة شرب الخمر تقوى عند الصوفية. وفي ذلك لا يتردد النابلسي عن القول أن الخمر هو الحب الإلاهي الأزلي في تجليات الخلق في مدحه لخمرية ابن الفارض المشهورة التي مطلعها :

شربنا على ذكر الحبيب مدامة | سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم. هكذا تغنى أيضا بالخمرة الشاعر الموهوب حافظ الشيرازي الذي كان ممن أعجب بهم أي إعجاب المفكر الألماني جوتة؛ فهو يقول :

خير لي العشق وكأس المدام = من ادعاء الزهد والاحتشـام
لو كانت النار لمثلي، خلـت = جنات عدن من جميع الأنام.

هكذا بيّن لنا أهل التصوف منذ بدايات الإسلام كيف نفهم أحسن فهم ديننا ونحترم تعاليمه أفضل احترام، فلا نحرّم ما لم يحرّمه الله ولا نظلم الناس باسم الدين وقد أسأنا فهمه فظلمناه وظلمنا العباد؛ فهذا هو الإفساد في الأرض الذي نهى الله عنه.

كل القضية إذن ليست إلا في حسن النية ومكارم الأخلاق، الشيء الذي يتلخّص في الأخذ بتعاليم الدين الأصيلة التي لا تمنع العباد في هذه الأرض الفانية من الخمرة إذا حرصت على التأسي بأهل الجنة، أي الشرب من طيبات ما خلق الله، بما فيها الخمرة، بقسط دون إسراف، أي بدون اختمار للعقل.

فمن يقدر على عدم الشرب، فنعما، ذلك الأفضل؛ أما من لا يقدر، فعليه التحلي بآداب الشرب، بلا إسراف، ولا شرب عند إقام الصلاة.

هكذا، لا تناقض بين التقوى الإسلامية الصحيحة وشرب الخمرة لمن يعرف الآداب الإسلامية وكما عرّفها أهل التصوف والأجلة من فقهائهم الذين بيّنوا خور الفقهاء من أهل الرسم في تحريمهم الخمرة.

لنقرأ في هذا لعمر الخيام من رباعياته وهو بشنع بأدعياء الزهد المتاجرين بالدين :

يا مدّعي الزهد أنا أكرم = منك، وعقلي ثملا أحكم
تستنزف الخلق، وما استقي، = إلا دم الكرم، فمن آثم؟

ولنقرأ للشاعر الأندلسي ابن الفارض هذه الأبيات من رائعته التي يتغني فيها ببنت العنب :

ولوعبقت في الشرق أنفاس طيبها = وفي الغرب مزكوم لعاد له الشم

ولنختم بكلام حاقظ شيراز:

وشارب الخمر الذي لا رياء فيه ولا نفاق
خير من بائع الزهد الذي يكون فيه الرياء وضعف الأخلاق

لقد حان الوقت لتغيير مفهومنا للأمور والعودة إلى حقائقها؛ ففي لغتنا الكثير من الانبساط مما يمكن من الخروج من كل المعضلات. لم لا نجعل مثلا من الخمرة (التي هي بفتح الحاء المعجمة، كما نعلم) خُمرة، أي بالضم كغرفة، وهي السجادة، أى ما يضع عليه الرجل جهه في سجوده من حصير. بذلك، لنقل أن الخَمرة (بالكسر) غير محرّمة إذا شربناها بدون غلو، إلا عند في وقت الخُمرة (بالضم)، أي عند استعمال السجادة، أي وقت الصلاة !

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى