بنسامح درويش - ظلي العزيز

لا ظل فوق الرصيف القاحل إلا ظلي.
تركته وانصرفت مومئا إليه بترك عينه على الأمتعة، فهو قد أصبح يفهم تصرفاتي جيدا، خاصة بعد أن قررت أن أشركه في حيرتي وشؤوني، فور نزولي بهذه المحطة القاحلة، مما حمله على الظن بأنني هنت وضعفت أمام غربتي ووساوسي واضطررت اضطرارا أن أتخذ منه وليا ونصيرا، فهز رأسه كالمنتصر وحدق عميقا في عينيّ الحمراوين من السهاد، ثم حدق في الشمس كأنما ليضعني أمام ذلك الاحتمال القاسي الذي يقتضي مني أ ن أصير – ولو لفترة – ظلا ويصير هو الأصل.ففهمت من نظراته أنه ليس واثقا تماما من إقدامي على هذه الخطوة الجبارة التي تضع كل خلافاتنا وخصوماتنا جانبا ، بل إنني فهمت من شموخ وقفته أن الثقة بالنفس قد ذهبت به إلى حدود قدرته على انتزاع كل حقوقه مني بمواصلة الصمود وإثارة القلاقل والنزاعات التي أمست تشكل لي – والحق يقال- كوابيس مرعبة أنا في غنى عنها في مواجهة أهوال السفر ومفاجآته، لكنني مع ذلك نكست كبريائي وابتلعت نظراته الساخرة ، وتركته وانصرفت مومئا إليه أن يترك عينه على الأمتعة.
-2-
رُزمٌ وحقائب وأكياس فوق الرصيف القاحل يحرسها ظلي الذي تركته وانصرفت مومئا إليه بترك عينه على الأمتعة.
-3-
هو منذ الآن ، بل وقبل الآن شريك لي في تدبر مختلف الأمور، وحياتنا أصبحت قائمة على مبادئ محددة أهمها على الإطلاق مبدأ التناوب، ننام ، نتجول ، ندخل المرحاض ، ونقضي أي غرض انفرادي بالتناوب، حتى لا نترك أمتعتنا نهبا للصوص الذين شغلوا ذهني طويلا في السابق حتى بت أشعر أنهم يتربصون بي في كل وقت وحين، لا سيما أثناء غفواتي الخفيفة أو ذهابي المستعجل إلى المرحاض أو أثناء صعودي إلى قطار أو نزولي منه، حيث كنت أستنفر كل خفتي وشطارتي وأنا أنقل حقائبي وأكياسي ورزمي بالتقسيط من مكان إلى مكان، فيما يكون ظلي قد وضع يديد في جيوب معطفه البني، وراح يهجس لي ذهابا وإيابا أن كل الناس لصوص ينبغي الحذر منهم، مما يضاعف الهلع والارتباك في نفسي، ويجعلني أكثر ريبة وتوجسا من أي يد تمتد لمساعدتي كما يحصل عادة..
فها أنا الآن قد وضعت ظلي أمام مسؤولياته، فتركته وانصرفت مومئا إليه بترك عينه على الأمتعة.
-4-
من الرصيف القاحل اقتيد ظلي إلى مخفر لا هو بالبعيد ولا بالقريب من المحطة، فلم أستبعد فور علمي بذلك أن ظلي العزيز قد دافع بجرأة عن حقه في الوقوف على الرصيف القاحل، وأنه قد صاح في وجه معتقليه بقوة، أما بعد التحري فقد علمت أن ظلي قد بصق بصاقا أبيض من شدة العطش، فبادره أحدهم بصفعة قوية أسقطته من على حافة الرصيف القاحل إلى حديد السكة ، فسال من مرفقه الأيسر دم براق، ثم أوقفوه وقيدوا يديه، وبقروا الحقائب والأكياس والرزم، فعبقت المحطة المهملة بروائح العصور الغابرة، وتلاعبت زوابع الظهيرة بكنانيش الآلام والأحكام ، وبدت كسوتي مبعثرة فوق الرصيف القاحل فخيل لي بلا مقدمات أنه قد أطلني الضبع، وأنا الذي تركت ظلي وانصرفت مومئا إليه بترك عينه على الأمتعة.
-5-
في المخفر سئل ظلي الحبيب عن العلاقة التي تربطه بي، وعن الغرض من بقائنا – أنا وهو- على قيد الحياة ، فلم يضعف ولم تخر له عزيمة ليعترف بأنني تركته وانصرفت مومئا إليه بترك عينه على الأمتعة.
-6-
وفي المخفر أيضا رفض ظلي قهوتهم، ورفض التوقيع على التزام يقضي بانفصاله النهائي عني، فجلدوه وعلقوه ، ومثلوا به تمثيلا، وقرأوا على مسامعه فقرات كاملة من مؤلف " حقوق الظل" الذي ضُبط في يده لحظة الاعتقال، واستفسروه عن معاني بعض الكلمات والرموز ، وأوّلوا بعض العبارات تأويلا سياسيا وحرفوا مقاصدها لتصبح حجة يعززون بها تقاريرهم ، وقد حاول ظلي جاهدا أن يعدّل فهمهم لكثير من الأشياء موضحا أن الأمر لا يتعلق بتاتا بالإنسان ، لكن يبدو أنهم كانوا هلوعين جدا من ثورة ظلالهم ، بل إنهم كانوا قد تلقوا الأوامر النهائية بمصادرة كتاب" حقوق الظل" وحبس ظلي الذي تركته وانصرفت مومئا إليه بترك عينه على الأمتعة.
-7-
في السجن جُن" ظلي،
وفي السجن أصيب بالسل .
وها أنا ما زلت أحيا – وربما أموت- بدون ظلي، لا لشيء سوى لأنني تركته وانصرفت مومئا إليه بترك عينه على الأمتعة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى