بانياسيس - نهاية سعيدة - قصة قصيرة

"وحين ترتحل ذرة الغبار عبر ريح الخلود عابرة معها سماوات قارات العالم ، تظل خاضعة لإرادة الريح ، مع ذلك فذرة الرمل لا تقاوم لأنها تنتظر اكتشاف قرار الريح الأخير ..اكتشاف مهبطها الأخير...تصبح نشوة الدهشة أقوى من الرغبة في الحرية ، إن التسلية هي الدهشة والدهشة هي التسلية...يتكاملان ليهزما ثقل لامعنى الوجود".
تكتب استير بيسراها وهي تغرس أصابع راحتها اليمنى السمراء الرقيقة فوق زخم شعرها الفاحم. متأملة بعمق كل حرف لتمنح خواطرها كثافة من المجازات الذكية. تستمع لفرقة النسر على سماعات الأذن ، تقتبس من أغاني الفرقة شيئا ، وتترك لاستبطانها الروحي باقي إكمال المهمة. وحينما يدهشها مجاز كتبته تعقد النشوة لسانها وتتأمل ما كتبته:
"ما أعذب المجاز .. ما أروعه"
ثم تحلم بأن تتكامل مع جميع أرباب المجاز.... عاطف خيري..بابلو نيرودا..درويش... اولئك الذين يملكون عينا ترى ما بين طيات المتناقضات ، وأنفا تشم عطر الجنة...
تقول استير:
أرباب المجاز..هم اولئك الذين تأتلف ذواتهم بالوجود فيرون ما لا يراه الآخرون...
تستمر استير في أحلام يقظتها ، وتظل داخل أحلامها حتى عندما تغمض عينيها وتتكثف الأحلام بمجازات العقل المتخفي في قاع تجاربها القاسية ، تجربة هروب أسرتها من ويلات الحرب ثم هروبها من مخيم مانديلا مخلفة وراءها والدتها الأرملة وشقيقيها ، متجهة نحو قلب العاصمة حيث احتوتها الكنيسة ووفرت لها عملا بسيطا في خدمة الرب. لم تكن استير مؤمنة بوجود إله مستقل عن الكون...كانت تملك رؤيتها الخاصة ، لكنها رؤية قررت أن تظل سرية.
سيستر تريزا تفتح باب غرفتها الصغيرة كل يوم مساء وتبتسم وتسألها بلغة عربية ركيكة ذات السؤال:
- إيسي .. هل نمت؟
تجيب على سؤالها غير المنطقي:
- لا..لا زلت أكتب..
تغلق السيستر الباب وهي تقول:
- حاولي أن تنامي..فغدا ينتظرك عمل لخدمة الرب..
تهمس استير:
- الرب في سن القلم يا سيستر تريزا...
تتلقى استير دعمها الشهري ، بعض النقود وملابس مستوردة ، فتتفوق على الأخريات ممن لم تشملهن رعاية الكنيسة ، تقول أنيي صديقتها وزميلتها في معهد اللغة:
- استير.. ألا تحلمي بالزواج؟
تسرح عينا استير في الفضاء وتهمس:
- ما هو الزواج ...؟
تجيبها أنيي مندهشة:
- رجل؟!! ..اليس كذلك؟
لا تغادر استير همسها وتقول:
- بل مجاز يا صديقتي.. بل مجاز...
- ولو .. الا تريدين المجاز؟
تضحك الفتاتان وهما تغطيان فمهما لتكتما صوت الضحك.
أنيي تقول بنظرة حالمة:
- آه يا استير... لا أريد أن أكبر وحدي...أريد هذا المجاز بعنف..
ثم تحكي لاستير خيانة حبيبها لها ، إلا أن استير لا تسمعها بتركيز...تلك الكلمة تحرك شعيرات السمع ثم تنتقل الى دماغها متحولة من مجرد جزيئات صوتية متسلسلة الى مفهوم مبهم. تقول استير:
- ماذا تعني كلمة خيانة يا أنا؟
تقطع أنيي حديثها وتحدج استير باقتضاب:
- لم تكوني تستمعي لي يا استير..اليس كذلك؟
تجيبها ببطء:
- لأنك تستخدمين كلمات لا تعين معناها يا صديقتي..
-كيف ذلك؟ أليست هذه هي اللغة التي نتحدثها جميعا...
تلتفت استير الى أنيي وتسألها بجدية مفاجئة:
- ماذا تعنين بكلمة خيانة يا أنيي؟
تنكمش ملامح أنيي ممتعضة وتقول:
- خيانة تعني خيانة يا استير..لماذا تعقدين كل شيء؟..
تقول استير:
- خيانة تعني في الواقع عدم تنفيذ التزام عاطفي أليس كذلك..
-وإن يكن؟
- لكن عدم تنفيذ التزام عاطفي هو تنصل من الالتزام..
-وإن يكن؟
- والتنصل هو تنصل وليس خيانة يا صديقتي..
تند آهة من شفة أنيي وتقول بذعر:
- بالله عليك يا استير توقفي عن هذا الجنون..
لا تحفل استير بطلبها وتستمر:
- لكن ألم التنصل من التزام عاطفي ليس كألم التنصل من التزام قانوني مادي بارد...
يظل وجه أنيي متقضبا وتقول استير:
- هذا الألم هو الذي جعلنا نسميه خيانة...
-أووه استير حبيبتي.. لا ضرورة لهذا التعمق...ليس فقط لأنني لن أفهمك ولكن أيضا لأن ما تقولينه غير مهم.. الخيانة هي الخيانة..لا أحد يرغب في فهمها ما دام يشعر بها...
تقول استير بخفوت:
- ها أنت توافقينني...
تقف أنيي وتقول:
- فلنشرب كابتشينو قبل أن ندخل الى المحاضرة...
تغادر الفتاتان بصمت...تبحث استير عن المجاز في كلمة الخيانة... وحين تجلس في غرفتها وترفع القلم تهمس:
- المجاز هو الحقيقة وليس العكس...
"حين أحرك يدك إلى أعلى
...أجد في كل مكان حمامة..
تبحث عني..."
تقرأ لنيرودا وتغطس في النشيد الكامل:
"بينما اللهب
يفتح عيونا ساذجة..
في رقة العالم المغمور بالندى.."
تمضي استير في حلمها وترى المجازات تتراقص متماهية مع ظلها على الجدار المقابل...
تكتب بيد مرتعشة وقلب مضطرم:
- لا تتجمد أيها الظل..
تحت برد يناير..
فتحت تمثال العذراء..
فتاة تطبق راحتيها أمام شمعة..
ضارعة
وتنتظر رقصة اللهب..
لتتأكد أن الرب يبتسم لها...

*.*

تنحدر التلال الخضراء بلطف الى السهل الضيق وحشد من خمسمائة فرد بين نساء وأطفال وشيوخ يعبرون الطريق الطيني نحو مناطقهم التي فروا منها قبل عقود .. ينزاحون فجأة نحو الجانب الأيمن أو الأيسر ليفسحوا الطريق أمام سيارة عسكرية او سيارة الصليب الأحمر أو ناقلات قديمة تعين غيرهم على سرعة الوصول...وعلى الحدود يوقف الجنود مركبات المنظمات الطوعية ، ينظرون الى داخلها بقلق ثم يأمرونها بالعبور. كان الأمر لا يثير الشك إلا حين رأى الجندي استير وسط السيدات البيضاوات...ثقبها بنظرة حادة مرتابة...
- أوراقك...
تفحص الجندي الأوراق وسأل:
- من أي قبيلة؟
اجابت:
- اللاتوكا..
صمت قليلا ثم دار على عقبيه واتجه داخل كوخ صغير ، غاب لدقيقة ثم عاد وأشار للمركبة بالعبور.
قالت سيستر ماري:
- سترين وطنك... ستمتلكين هوية قانونية...
لم تنبس استير ببنت شفة. كانت تراقب السماء الحافلة بالسحب ناصعة البياض. فكرت:"السحب لا تختلف مهما اختلف المكان أسفلها..."..
الأرض طينية لذجة ، وتعبق منها رائحة الطمي وروث الثيران .. وسديم خفيف لعطر أسماك النهر اللاهية بكل حرية في كوكبها الشفاف.
تخزن استير تلك الصور وتصنع منها مجازاتها الخاصة ، قالت في سرها:
- ذلك الجندي المرتاب.. كان وسيما .. لكنه أحمق.. أليس ذلك مجازا رائعا...
ابتسمت واخرجت رأسها من النافذة لتتنفس الهواء الرطب ، وخلفها كان الجندي الأحمق يراقب السيارة وهي تمضي .. وجهه كان صارما..؛ صرخ فجأة:
- أوقفوا تلك السيارة..اوقفوها..
لم يكمل جملته حتى اندفعت ثلاث مركبات عسكرية متعقبة الهدف ، ثم أحاطت به ، أصيبت استير والسيسترات بالفزع . وظلوا صامتين حتى أطل الجندي بوجهه مباشرة في وجه استير وقال بخشونة:
- هل لا زال لديك أهل هناك؟
قالت بفزع:
- لا أعلم ...
قال بغضب:
- تعلمين.. لا تتذاكي يا فتاة...
قالت باستسلام:
- لا .. ليس لدي.. لا أعرف أحدا هناك...
استقام الجندي في وقفته وحدق في السماء...كان الصمت الخائف يلف الجميع ، مر سرب طيور بسرعة فوق السماء...كانت تزقزق بأجراس فرحة..
انحنى الجندي وقال:
- ذلك ليس وطنك يا فتاة...
ثم أشار الى قلبه وقال:
- وطنك هنا ...
ظلا ينظران لبعضهما ؛ غمغمت:
- لست أحمقا كما ظننت...فأنت تعرف المجاز... تعرف المجاز جيدا...
قال وشفتاه ترتعشان:
- لا أفهم ما تقولينه جيدا لكنني أعرف ان ما قلته هو الحقيقة....
قالت:
- المجاز هو الحقيقة... هو الحقيقة دائما...
قال:
- سنلتقي .. على نحو ما سنلتقي...
ثم فرد قامته وصاح:
- دعوهم يمروا....
اخذت عجلات المركبة رباعية الدفع تعالج الأرض الطينية غير المعبدة بمرونة عالية ... وكان جسد استير يرتفع وينخفض ويهتز مع حركات المركبة .. مع ذلك كانت خارج الوعي:
كانت ترى المجازات كلها تتكثف في نبضات قلبها ... كانت قسمات وجه الجندي القاسية تذوب داخل صمامات قلبها .. أدركت أن المفارقة احيانا تصنع مجازات أكثر عمقا من التشابه....
اخرجت رأسها من النافذة ورفعت يدها محيية الجندي بمرح...فرفع يده...وهمس:
- فلتكن كل الحياة سلاما يافتاة... فلتكن كل الحياة سلام...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى