حميد بن خيبش - " ولاد " فرنسا

جال ببصره في أطراف الحديقة قبل أن يسترسل قائلا : لو علمت سلفا أن مآل هذه البلدة سيكون إلى خراب لوافقت "مسيو جون" على الهجرة إلى فرنسا قبل أربعين سنة .. كانت هذه الحديقة فردوسا يشتهي الوافد إليها أن يُدفن فيها.. أجل ! جداول الماء تنساب في صمت وتؤدة لتروي كل نبتة وشجيرة .. والحشيش الأخضر الزاهي يُغنيك عن الفرش و السجاجيد .. أما صنوف الأزهار الملونة فتسحر العين وتخلب اللب ..رحم الله زمان الفرنسيس !
كان السي علال من الرعيل الذي فتح عينيه ذات صباح على عساكر "المارشال ليوطي" وهم يذرعون أزقة البلدة ..توجس شرا في الأيام الأولى.. فجذوة المقاومة والرفض توشك أن تتقد تحت رماد الصمت .. لكن سرعان ما استتب الأمن وخلا له الجو ليقدم فروض الولاء !
عُين في باديء الأمر سائسا لأحصنة الثكنة العسكرية ..أبدى همة عالية وأدبا جما .. فلم تمض سوى اسابيع قليلة حتى صار الجنود ينادونه ب " مسيو علال" ..لم ينم ليلتها من الغبطة.. قرر أن يتفانى في عمله ويتودد لكبار الضباط عسى أن ينال حظوة العمل في إحدى " الفيلات " .
كان الضابط " جون" يراقبه عن كثب .. أُعجب بإخلاصه واطمأن لوفائه فاستدعاه يوما إلى مكتبه وخاطبه بنبرة حادة : " قررت أن أعينك حارسا ليليا للفيلا فإن أظهرت تقصيرا أو تهاونا أفرغت مسدسي في رأسك ..مفهوم ؟ " .
تهللت اساريره فرحا فأهوى على يد الضابط ليقبلها وهو يُقسم بأغلظ الأيمان أن أجفانه لن تطرف لحظة حتى تشرق الشمس !.. منحه "جون" قميصا وثلاث فرنكات وأمره بأن يحلق ذقنه ويعتني بمظهره حتى لا يثير الريبة و الاشمئزاز !
قضى السي علال في مهمته الجديدة عشر سنوات .. لم يرتكب خلالها أية حماقة .. نشأت بينه وبين "مسيو جون" ألفة خاصة.. كان يرافقه في رحلات القنص فيُبدي براعة في تحديد المواقع ونصب الفخاخ .. حرره سيده من ربقة الأمية فصار يرطن بالفرنسية كأنه من بني الأصفر.. ويشعر بالزهو حين يسرد انتصارات نابليون و خرافات "لافونتين" .. ويحدث رفاقه عن شوارع باريس و نهر السين وجودة العطورالفرنسية !
هبت نسائم الحرية و الاستقلال ..وعلت الفرحة محيا الجميع إلا السي علال .. حالت ضغوط العائلة بينه وبين الهجرة .. حدجته أمه العجوز بنظرة قاسية وهي تتوعد "لو سافرت إلى بلاد الكفار فسأموت ساخطة عليك" .. أخبر سيده بعزمه البقاء مكرها .. ربت على كتفه ثم ناوله ظرفا مغلقا وأمره أن ينقل ما شاء من اثاث الفيلا إلى بيته , و يبيع الباقي قبل أن تطاله ايدي المخزن الجديد !
اقتنى دكانا بسوق البلدة ..وامتهن تحرير الرسائل و الشكاوى وطلبات العمل .. إجادته للفرنسية وفرت له لقمة عيش هانئة ..لكن لوعته لفراق "مسيو جون" ..وحسرته على الزمان الذي ولى لم تفارقه !
رُزق بثلاثة ابناء فحرص على تعليمهم غاية الحرص ..حتى إذا شب أكبرهم عن الطوق..هيأ له اسباب الهجرة إلى فرنسا.. وأوصاه بأن يكون سندا لأخويه حين يلحقا به السنة المقبلة !
شاخ السي علال وذوى عوده ..إنه الآن يقضي سحابة يومه في التجوال و التحسر على مآل البلدة.. يرقب مجيء الصيف ليحضن ابناءه الثلاثة ويستفسر.. عن أحوال فرنسا !

حميد بن خيبش
إيموزار كندر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى