سعيد سالم - أصلّي لأجلك.. قصة قصيرة

في مصادفة لا تفسير لها؛ عثرت بين أوراقي ومذكراتي العلمية على ورقتين في نفس اليوم. لست أدري كيف ضلت كل منهما الطريق إلى مكانها الطبيعي فجاءت حيث وجدتها. إحداهما كتبتها بخط يدي ليلة مبيتي بالقاهرة في بيت صديق لي قريب من المطار، إلى حيث أتوجه فجرًا لأستقل الطائرة المتجهة إلى كوبنهاجن، أما الأخرى فكانت مكتوبة باللغة السويدية ولم أدرك مضمونها إلا بعد أن ترجمها إلى الإنجليزية موظف سويدي يعمل في نطاق البعثة، ولما اكتشفنا معًا أن كاتبها هو كارل جوستاف ـ الذي يعمل هذا الموظف تحت رئاسته ـ طلب مني كلمة ثقة أن يظل أمر هذه الورقة سرًا بيننا حتى أعيدها إلى صاحبها.


الورقة الأولى:

أمضيت النهار أجول في شوارع القاهرة وكأنني أودعها ليلة السفر إلى أوروبا.. في القاهرة يسير الحمار جنبًا إلى جنب مع القطار والترام والعربات المرسيدس والعربات الكارو ولابسي الجلاليب والعقالات ومطلقي الذقون وملوك الأناقة الغربية وملكاتها، يهيمون بالآلاف في وضح النهار، كما لو كانوا جميعًا يعانون من البطالة.

غدًا أكون في الغرب بمشيئة الله.. معشوقي الذي ظللت أحلم به ستة وثلاثين عامًا من عمري.. أنا ذاهب إلى السويد ولديّ كلام كثير أريد أن أقوله هناك، وأفكار لا حصر لها أتمنى أن أناقشها معهم.. أريد أن أعرف ماذا يقولون عن فكرة برتراند راسل بإنشاء حكومة عالمية لها سلطة فعالة تجعل الحرب مستحيلة في المستقبل.. ولا بد أن أراجع معهم ما قاله أرنولد توينبي بأن أي مشروع لدستور عالمي قد يبدو أكثر جمالاً من الواقع، هذا إذا نجحنا فعلاً في إنشاء حكومة عالمية بصورة من الصور، ذلك أننا نتشبث دائمًا بالسيادة القومية.

أريد أن أعرف رأيهم في مذهب «الجوهرية» الذي تروج له الكاتبة الفرنسية «سونداري» والتي تدعو البشر في كل أنحاء العالم إلى نبذ طقوس الأديان الثلاثة اكتفاء بممارسة مضمونها المشترك.. وكنت قد قرأت كتابها وبعثت إليها بخطاب أناقش فيه أسباب اختلافي معها، فبعثت لي برد مختصر في كلمات ثلاث :«إني أصلي لأجللك».

وتعجبت كيف ستصلي لأجلي بلا طقوس!

لابد أن أناقشهم فيما قاله «سارتر» بأن «مشكلة فلسطين مشكلة تافهة لأن الفكرة الصهيونية كما تصورها هرتزل في نهاية القرن التاسع عشر، والمتضمنة إنشاء دولة يهودية في القدس، لا تعد جريمة بمقياس ذلك العصر لكونها حلاً استعماريًا مثل كل الحلول الأخرى في ذلك الحين».. إنني بشوق شديد لتأمل المفهوم الغربي بنفسي، والذي تسلسلت فيه المشكلة بالاضطهاد الألماني المزعوم لليهود، ثم شعور الغرب بالذنب تجاههم، ثم تولي أمريكا وبريطانيا تخفيف هذا الشعور بإهداء فلسطين لإسرائيل!

وحين أتحاور معهم لن يغيب عن خاطري ذلك الحوار الذي دار بيني وبين مهندسة أمريكية في مصر، منذ عامين أو يزيد، وكان الحديث عن أساليب التفكير المختلفة عند الشعوب، حين أشارت إلى سكين على المائدة متسائلة في هدوء:

ـ ما هذا يا مستر سالم؟

خيل إليّ أنها تسخر مني، أو أنها تمهد لسؤال آخر تترتب عليه نية مجهولة ينبغي الحذر منها، وفكرت في تجاهل السؤال وفكرت في…

ـ لقد غبت طويلاً قبل أن تجيب في كلمة واحدة لا بديل لها:

ـ معك حق.. إنه سكين.

ـ خذه.

أعطتني السكين بسرعة وقالت:

ـ جاء دورك الآن أن تسألني نفس السؤال.

فسألتها متوجسًا:

ـ ما هذا؟

غمزت بعينها ضاحكة وأجابت على الفور بلا تردد:

ـ هذا سكين.

حسدتها على طمأنينتها، وتنفست بعمق وقد انتابتني الحيرة حول مقصدها من هذا الحوار الغريب.

قالت بثقة:

ـ الفرق بيني وبينك أنك حملت المسألة فوق ما تحتمل قبل أن تجيب عن سؤالي، أما أنا فسرعة إجابتي لا تعني السذاجة أو ضحالة التفكير أو التسرع، وإنما تعني الثقة والبساطة والصراحة واقتحام الحقيقة من أقصر الطرق.

إني أظن أن في هذا الحوار مفتاح الوسيلة المباشرة للنجاح في التفاهم مع هؤلاء الناس الذين أتوق للقائهم.


الورقة الثانية:

ملاحظة: هذه هي الترجمة العربية للترجمة الإنجليزية التي كتبها إلى موظف البعثة وكان عنوانها:

The More You Have, The More You Need

ويبدو أن كارل كان ينوي الكتابة حول هذا الموضوع ولم يكمل ما كتبه، أو أنه أكمله في أوراق أخرى سقطت من بينها هذه الورقة من حيث لا أدري ولا أحتسب.

«ما أبدع أن تتجدد الحياة وتتنوع بالإضافة أو حتى بالخصم. بعد الصلاة أغادر الكنيسة إلى الفندق مباشرة ومعي أوراق البعثة. يغمرني تفاؤل شديد هذا العام، كانت بعثة العام الماضي حافلة بالمشكلات الفنية والإدارية والإنسانية. يحاسبني «بورش» المدير الفني الغيور على كل صغيرة وكبيرة. تغمره السعادة لوقوع مشكلة ما حتى يتلذذ بالنظر إلىّ في استعلاء، وهو يتساءل عن أسباب المشكلة. دائم التوجس مني خيفة أن أحتل مقعده كمدير فني للمنح والبعثات العلمية القادمة من العالم الثالث، وعلى الرغم من علمه بأنني على وشك الإحالة إلى التقاعد، تنهش الغيرة قلبه وتندفع الدماء في وجهه حين يرى شباب هذه الدول الفقيرة ملتفين حولي في محبة واحترام. يدعوهم للعشاء بمنزله ليلة وصولهم، على نفقه الدولة طبعًا. فيتحدث طويلاً عن نفسه أولاً ثم عن أبنائه النابغين في العالم والفن والأدب والرياضة وكل شئ يتعلق بالدنيا والآخرة!

وعلى الرغم من هذا فهو إنسان مهذب شديد الحرص في انتقاء ألفاظه ومواقفه، فائق القدرة على إخفاء مشاعره التي غالبًا ما يعجز عن مقاومتها.. يا زميلي الغيور: إني أصلي لأجلك!

جلست على مقعد القيادة وأحكمت حزام الأمان حول صدري. بالأمس سهوت عن ذلك فاضطررت إلى دفع خمسين كرونة لمخالفة القانون، لقد كنت شاردًا في أمر ذلك الشاب الهندي الذي أثار حيرتي وذهولي خلال بعثة العام الماضي، وأعتقد أنني لست أبالغ في القول بأنني ما زلت محيرًا في أمره حتى الآن.. لقد كانت المرة الأولى في حياتى التي أرى فيها آدميًا يبكي بحرقة أثناء تناوله الطعام، أمضيت ليالي عديدةً أفكر في ذلك المشهد الإنساني العجيب! أرقتني الظاهرة فرحت أرقبها بعناية فائقة وتركيز شديد. رأيت في دموعه مزيجًا غامضًا من اللذة والألم.. الحرمان الذي لن يموت أبدًا، والحيوانية التي لا يمكن أن تطاق.. الطفولة التعسة وحياة الفقر المدقع والخوف الشديد من الثواني القادمة من الزمن.

منذ البداية لم يكن هذا الشاب يعبأ بضحكات من حوله ودهشتهم وتندرهم، وبمرور الوقت خفتت التعليقات وتضاءلت الدهشة ولم يبق حيرانًا سواي.. إن شبح هذا الشاب ما زال يطاردني حتى الآن، وكأني المسئول الأوحد على هذه الأرض عن مأساته.

إني أعتقد بعمق في عدالة السماء، ولكني لست أعرف لماذا كتب الفقر والحرمان والتخلف على هؤلاء الناس، ويبدو أنه صحيح ما يقال إن درجة الحرارة تتناسب عكسيًا مع درجة الحضارة!

لقد نجح أجدادي باقتدار شديد في شق الطرق وإقامة الكبارى والأنفاق والمصانع على الرغم من قسوة الطبيعة ووحشة الغابات وشدة البرد وانهمار الجليد وضراوة الحيوانات المفترسة. وها نحن جيل الأحفاد نتقدم العالم بأسره في العالم والصناعة، ومستوى دخل الفرد عندنا لا يقارن بأي مستوى آخر.

وعلى الرغم من هذا فشباب هذه الأيام كسول لا يريد أن يعمل.. وجد كل شئ ميسرًا أمامه فأدمن الرفاهية وراح يضرب عن العمل بين الحين والآخر مطالبًا برفع الأجور.. وأما أطفالنا المساكين الذين ولدوا في عصر المعلبات والميكنة والتصقوا بأسمنت المدينة، فإن بعضهم لا يعرف الحيوانات ويسأل في أي المصانع يصنع البيض واللبن؟!

ـ أقدم لكم مسز هيلدا سكرتيرة البعثة.

في صالة الاستقبال بالفندق كان التعارف. خمسة عشر مبعوثًا من أنحاء العالم الثالث. نحن نسميهم بالدول النامية ترفقًا بمشاعرهم، هناك دول غيرنا تسميهم بالدول المتخلفة، ولا تعبأ بمشاكلهم ولا حتى بمعرفة أسماء بلادهم في بعض الأحيان.

لقد جاءوا ليتلقوا العلم عندنا وعلى نفقتنا. شئ رائع أن ألتقي بالعالم في هذا المكان. إني أشعر في مثل هذا اليوم من كل عام بالامتلاء. أنسى كارثة ابنتي الجميلة ونظرات زوجتي ذات الحزن العميق.. أوه .. ما أجمل أن تقوم الحياة على التعاون بين القوي والضعيف.. وجوه هؤلاء الشباب مكفهرة من شدة التعب والتوتر والخوف من المجهول، لكن عيونهم تنطق بالفرحة لقدومهم إلينا نحن أرقى شعوب العالم أجمع. إني أحبهم وأتمنى…



* من مجموعة «أقاصيص من السويد».






موقع ك ت ب


أصلّي لأجلك .. سعيد سالم - ك ت ب

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى