سعيد منتسب - صرخات لا تنتهي لامرأة تلد.. قصة قصيرة

إنها لبداية سيئة أن تجد نفسك محشورا على نحو يائس داخل إناء معدني، وتتلقى الأوكسجين من أنبوب مطاطي وأنت مستلق على ظهرك في وضع الجنين، بينما أنت متأكد من أن كل شيء في الخارج قد انسحق تماما، وأنك ستتنزه في المقابر بكل سرور وأنت ترضع إصبعك، وأنك ستظل إلى حد ما مراقبا..

مقبرة أمبرطو:
بعد قليل سيصلون بها إلى هنا، إلى هذا الجزء الصغير من الهضبة التي كانت مغمورة عن آخرها بأشجار اللوز. عربة نقل الموتى كانت تلوح من بعيد، والمقرئون من ذوي العاهات يلتصقون ببعضهم كما لو كانوا كلابا تتشمم بعضها. وهو كان يجلس على صندوق خُضَر.. هل كان هناك صندوق؟ من أتى به إلى هذه المقبرة التي تعلو قبورها أقنعة إفريقية من الساتان؟ لا يتذكر أن الموتى يحتاجون إلى صناديق يجلسون عليها. يحتاجون فقط إلى لحظة وجيزة للاستماع إلى الريس الدمسيري وهو يغني ويعزف ألحانا حزينة على ربابته، وكانت أجسادهم تتحلل، وتتحول إلى ذرات مضيئة.. يتذكر أيضا أنه هو الريس الدمسيري، وأن الساعات توقفت عن النبض حين رآهم يهيلون عليها الحصى ويثقلونها بألواح حجرية صلدة. هل يعزف الآن، أم حتى يتأكد من انصرافهم؟ تمنى لو كان معها الآن، لو كانا يرتديان الكفن نفسه والنغمة نفسها. سيجعلها تطير، سيعزف كما لم يفعل من قبل، وسيغني في أوقات الظهيرة كملاك لا يخشى أن تذوب أجنحته، ولا أن تسرقها منه روح شريرة.

أول عينين أراهما:
من الممكن أن يكون ذلك آخر نهار نقضيه معا. خلعت الجلباب بتمهل وتمددت على بطنها فوق الحصير البارد. أغمضت عينيها اللتين في سوادهما تفركل الجنة، ثم فتحتهما ببطء واستدارت نحوي. كانت متعرقة قليلا، وساقاها كالعادة تؤلمانها بشدة. لم تكلمني، أشارت إلى دورق الماء الذي كان ينعكس على زجاجه ضوء خافت، وهمهمت:
مااااااااااء..
وتدفق ماء النهر تحت قدميَّ، ورأيتها تحت ظل شجرة لوز كبيرة. كانت تغسل الصوف وتغني، ولم يكن ذلك ليلهيها عن حراسة عنزات أبي التسع التي تعتلي الجرف الجبلي القريب. كانت تتبادل معها الحديث وتضحك فيتسع النهر وأرتعش في المياه التي تنزلق حولي، ومن النافذة رأيتها تضطجع على ظهرها محاطة بنساء بلباس أسود وأوشام خضراء على ذقونهن، وهي تزحم وتزحم، وتتعرق.. وتزحم ساعات وساعات، وتهمهم «مااااااااااء..»، وهن يكبرن ويخفين في أعبابهن صرخات لا تنتهي لامرأة تلد. أرقب عيني أمي، شديدتي السواد، وأتفرج على حوريات الجنة ونمارقها المبثوثة وأشجار اللوز والخوخ والكرم والرمان. إنهما أول عينين أراهما، ولا أريد أن أرى غيرهما.. قلتُ وخرجتُ.

مقبرة سباتة:
قيل إنه استنشق جرعة هواء قاتلة، وإنه ظل يسعل ويحشرج رغم جميع المسكنات التي كانت تضعها أمي تحت مسنده الكبير. كان يضم ذراعيه إلى صدره ضارعا أن ينتهي كل شيء، أن يركب تلك الغيمة التي تنتظره ويبتعد بهدوء دون صراخ ولا دموع.. ورأيته يتمدد بانشراح على السداري، يعب أكواب الشاي ويدخن السبسي ويستمتع بتأديب شقيقي المكبل بالحبال، لأنه تجرأ وسرق سيجارة من جيب معطفه، وكان المسكين يئن مثل جرو ويترجاه أن يطلق سراحه أو يقتله.. ورأيته يعري عن أكتافه ذات ظهيرة ماطرة ليسقف البيت. ضبطت أمي بنت الجيران متلبسة بسرقة صندل وكسرولة وخلالة فضية وقلادة من اللوبان، فأجبرتها على إعادة جميع المسروقات، وأجبرته على قطع الكرمة من جذورها لتمتيعها ببيت مسقوف. كان يدخن السبسي في المراح ويخمش الكرمة بما يستظهره من حكايات. يحكي عن المغارة التي يختبئ فيها الرعد، وعن الفراشات التي تسكب أجنحته الملونة على قوس قزح، وعن الملائكة الذين يغربلون السحاب ويسكبونه على الأرض، وعن أبواب الجنة التي تهتز من النشوة كلما عبرها نبي، وعن جدي الذي كان يطوي الجبال ويمشي على الماء دون أن تبتل قدمه، وعن رأس الأفعى الذي ظل على قيد الفحيح ستة أيام قبل أن يختفي في ظروف غامضة، وعن الباب الذي سيفتحه الورعون على مصراعيه ليعبروا مثل حزم ضوء إلى مقبرة سباتة.. ورأيته يكتب حشرجته الأخيرة على منديل. ترجل منا، ومن السعال، ومن الموجة التي كانت تهدهده قبل أن ينام.

أفتش عنها في كأس:
يتحرك جيئة وذهابا، وشيء يلتمع على جبينه ببطء. لم يكن يمشي على خردق العنزات التي كانت ترعاها قرب النهر. هذا المكان له باب وجدران وسقف، ووراء المشرب امرأة تهسهس على نحو شرير، وتتدفق منها سخرية حمراء شديدة.
قال لها بفم مشدود: ناوليني الكأس..
وحين لم تتحرك من مكانها، أضاف: يمكنك أن تجلبي شيئا آخر.. الكأس وأخواتها..
يمد يده إلى أقرب كرسي ويجلس. ينظر إلى المرأة بغضب، ويلتقط من تحت معطفه ربابة، ويأخذ في الغناء والحزن يتصبب منه كالغلوسرين البارد. ألم تترك له ذكريات؟ ألم تغير فيه شيئا؟
كنت أريدها قوية، شاسعة ومجنونة، وقادرة على أن تصنع لها قدرا.
فكر: في هذا التوقيت بالذات، يمكنها أن تكون مستلقية على مساحة معشوشبة في الجنة، أو نائمة على دوائر صغيرة عائمة في السماء. وأنا وأختي نمشي وراءها صاعدين التلة، نلوح لها بأيدينا ونترجاها أن تسمح لنا بلمسها. لاحظنا أنها كانت تحمل صرة ملفوفة بجريدة، ونحن لا نعرف ما بداخلها. ربما كانت تحاول أن تخفيها عنا. لاحظنا أيضا أنها حافية القدمين، وأن عينيها سوداوان كأشد ما يكون السواد، ربما اكتحلت للتو.. ربما، تتوفر العدسات اللاصقة هناك بكثرة.. من يدري؟!
قالت له: كيف تشعر الآن؟
هز كتفيه، وتابع الغناء كأي رجل منبوذ يفتش عن عينين سوداوين تنعكس عليهما شجرة لوز تجلس تحتها امرأة تغسل الثياب في نهر، وطفل صغير تتدفق المياه بين قدميه..

مقبرة الشهداء:
كلما رأيتها تخمش الحائط الذي يفصل بيتنا عن الموتى، الذين يرقدون تحت عشب طويل، يتفجر داخلي نبع جديد. من هذا الذي قال إن النساء يلدن منفرجات الساقين فوق قبر؟.. وكان المكان يغص بنساء بلباس أسود، بينما كانت تتعرق وتستطيع أن ترى في انعكاس بريق عيونهن أنها كانت سعيدة، وأن القادم سيأتي على ظهر حصان أبيض بغرة سوداء. يداها مخضبتان بالحناء، وظفائرها تمتلئ عن آخرها برائحة الخزامى والورد البلدي، وعلى مقربة منها ثوب زفافها مغطى بغربال وضعوا فوقه قالب سكر وقرشال وعقيق وأسورة من لوبان وقطعة صوف. كان هناك سريران وبابان وسراجان. هي تكشر في وجه سريرها الذي كان يطير، وأنا أبتسم للسرير الآخر المائع والخاشع. هي تخرج من باب، وأنا أدخل من باب. هي تطفئ السراج، وأنا أمسك السراج الثاني بيد ترتعش، لأراها تعض على الوسادة، وتصرخ بداخلها.. ثم تتابع تمشيط السقف بعينين مغمضتين، وتمرر أصابعها على بطنها المليئة بالقشور.. وأرى الشمس اللئيمة تتدلى لتحرق رأسها المعصوب بمنديل مترب.. وأراها تحفر بيدها في حقل بطاطا شاسع، وتُبعد البعوض عن وجهي، بينما يقف على مقربة منها رجل ملتح بوجه كامل لسحلية. لم ترفع رأسها نحوه، ظلت جاثية كي لا تقع في إحدى نوباته السامة. وعندما فرغت، حملت سلتين ممتلئتين من البطاطا إلى العربة، وقالت: لنترك الشمس تذهب.. لنتركها تنام.. وتركناها تنام، وفتحنا بابا صغيرا يؤدي إلى غرفة فارغة. كانت جدتي تطحن الحمص وتعجنه بماء السكر، ولم تكن أشياء كبيرة تحدث حين نتلصص على أنفاسها التي كانت بطعم الريحان.. وأراها تسحب جسدها المنهك وتغفو تحت غيمة أمسكها من طرفيها حتى لا تقع.. وأراني طفلا يسقى قبرا وسط نهر يتدفق منذ الأزل في حفيف أشجار اللوز.

الحكايات قطط سوداء:
لم يكن ما أراه أمامي غابة صنوبرية بعيدة. كان هذا جيش قطط سوداء يتباعد كلما اقتربت. حين سمعت زعقتها الحادة تحت قدمي، كنت أتأرجح بين اليقظة والنوم. قطة سوداء بحجم اليد، لا أراها، ومن المؤكد أنها تراني وستنتفخ إلى أن تصير بحجم كوخ كبير بنوافذ موصدة وأسنان كالحراب.. ما الذي كان يحدث هناك؟.. الزقاق ضيق ومظلم، وأنا لا أراني.. جلست القرفصاء، وخبأت رأسي بين ركبتي الباردتين وانتظرت ما سيقع مع القطة التي ستلتهمني.. كدت أتبول في سروالي، وانتظرت طويلا وأقنعة إفريقية كثيرة من الساتان تلتصق بوجهي، قناعا تلو قناع..
الساعة تشير إلى الخامسة صباحا، ويدان ناضجتان ألفت عناقهما كانتا تعصران على رأسي ماء باردا برائحة الزهر. كدت أنفجر ضاحكا وأنا أسمعها تتلو ما تعتقد أنه سورة الفلق. أردت أن أصحح لها، لكنها كانت تمتم وتهمهم وتعصب رأسي بإحكام، وتبحث في الغرفة الفارغة عن نسمة هواء تلقيها في عينيَّ المرتعدتين..
قالت: ولدي تْشَيِّر.. ضربته جنية.
اختفت الشمس وراء سماء حمراء، وكنت عائدا من الجامع. الجارات متجمعات أمام بيتنا يثرثرن بأصواتهن المبحوحة، وكانت عيون القطط السوداء تلمع بين الأخاديد التي كنت أراها تنبت بين سيقانهن. ألقيت نظرة، وأردت التراجع إلى الخلف، ولم أشعر إلا ويد كالحة تقدم لي شفرة حلاقة وتحرضني على التقدم. أمامي أطفال كثيرون يضحكون، وقطط كثيرة تموء، وأنا مثل بذرة وحيدة في أصيص مهشم. كان عليَّ أن أذبح العيون الصغيرة وأسلخها وإلا سيحولونني إلى أكياس قمح ويحشرونني في الطاحونة. ما الذي أستطيع أن أفعله حقا؟ لا أستطيع أن أنشد الأغاني مع هذه الشفرة التي تضحك في يدي، ولا أن أبكي مع هؤلاء الشياطين الذين خرجوا من بيوتهم ليختبروا شجاعتي، وما إذا كنت قادرا على الانتماء إلى جماعتهم. قلت:
- أنتم لا تعرفون شيئا عن القطط. إنها بشر مثلنا..
- ألن تذبحها؟
- سأفعل، لكن دعوني أخبركم. إنها بسبع أرواح، وكل روح ثعبان من نار..
- ألن تذبحها أيها الجبان؟
- لا أريد أن يعذبني ربي يوم القيامة..
رميت الشفرة، وطرت بعيدا.. ورأيتها في منامي مذعورة، وشيء مثل الخدش يخترق عينيها العسليتين. انحنيت على ركبتي وناولتها قطعة خبز، ومضيت أغني بفرح.. وأهدا تمام الهدوء من الداخل، وأنا أراها ترتقي السور القريب وتختفي في لوحة رسمتها بيدي. لم تكن قطة سوداء بوبر لامع كما اعتقدت. كانت امرأة أعرفها تختفي في ظلال أشجار اللوز.. وعلى مرمى بصرها زورق يطفو على صفحة نهر، وطفل على الشاطئ الموحل يحمل سلة قش وهو يبتسم.. كان أنا ذلك الطفل.

مقبرة سيدي مسعود:
تأخذني من يدي التي تتجمد في يدها، وتستمر في المشي بين الحقول المعشوشبة. كانت الريح تمضغ نفسها على مهل، وكنت سعيدا بالوجوه التي تعبرنا، مغبرة ومنقوعة في الشمس.. ونمضي في طريقنا ضاحكين، هي تقص حكايات بطعم الكراميل، وأنا أحكي لها عن البغلة التي حرنت وكادت ترميني من أعلى الجرف، وعن صرخاتي التي ظلت تتدحرج ككرات صغيرة حمراء.. وتتدحرج إلى أن اعترضها كوخ مُسَوَّر بأشجار اللوز والرمان.. ولا أحد يدري إن رآها تتحول إلى تيوس ترفس معجون الفاصولياء المخمر والفول المقشور، وتسأل المرأة التي كانت ترتدي ثوبا أزرق فاتحا، وتطل من نافذة الكوخ: «أمنا مفقودة، نريد كلمات تداعب أوتار القلب لنستعيدها.. هل لديك كلمات؟ نريد شراء كلمات..». تضحك المرأة بسخاء وتشير إلى المقبرة التي تخترق الحقول مثل طفح جلدي يعلوه الغنباز والجير: «لا تقفوا مكتوفي الأيدي، وزعوا مناشيركم على الأموات، وصلُّوا كي يتمكنوا من قراءتها. الأموات لا عيون لهم، ولا كلمات ولا لغة.. لا يدخنون ولا يكتبون الرسائل».
ويا أمي، حائراً كنت، وخائفا، ولا أدري ماذا أفعل.. التصقت بظهر البغلة كأنني فوقها منذ زمن بعيد، وهي تضحك وتطل بأذنيها على الأخدود، كأنها تتفحص صوتا ما، ولا تريد أن تتراجع. لم تكن تشعر بالذنب وأنا أموت فوقها وأحيا..
كان ينبغي، يا أمي، أن أقفز.. أن أترجل بسرعة لألحق بك وأنت تمسكين يدي بإحكام وتحدثينني عن الدمسيري الذي يعزف على ربابته ويتأمل الطائرات الورقية تحلق في الهواء.. كان علي أن أقفز.. كان علي أن أقفز، لكن الأرض كانت تدور وتدور..

الذي طالما تمناه:
هذا ما حدث فعلا. رأوا امرأة ترتدي ثوبا أزرق فاتحا تمشي ببطء شديد، وأحيانا تجلس على الأرض لتستريح. حدث هذا بعد اختفائها ببضع ساعات. لم أبك، وجدتها مضيئة والليل بارد خارج البيت. جلسنا متلاصقين وبدأنا نقرأ رسائل مكتوبة بأنياب بارزة. أنا الذي كنت أقرأ، وهي تنتظر أن أعود من المدرسة، جائعا ومسلوخا. تنتظرني لتلدني من جديد.. أشرب الشاي الساخن وآكل البيض المُمرَّق بالطماطم.. وأقرأ الرسائل التي تَعُضُّني فيزداد صوتي خفوتا وشيء كالح يمسك بي..
لم تكن المرأة تمشي ببطء. عيناها السوداون المفعمتان بنور مبهر كانتا تبحثان عن سبيل للرجوع إلى طفلها. تشعر بالسكينة لأنها نائمة على دوائر عائمة في السماء، وبالحزن لأن لديها طفلا عليها أن تلده باستمرار، ولم يكن بوسعها أن تمسك به كما حاول هو أن يمسك بها بيأس مميت وهي تحاول أن تداري حفنة لوز داخل صرة ملفوفة بجريدة..
ناولتني مصباحا يدويا وطلبت مني أن أقرأ لها تحت شجرة اللوز، وكانت الكلمات تمر، الواحدة تلو الأخرى، وتتفرس في وجهي قبل أن تنطفئ.. وأقرأ وقشعريرة باردة تطلع من هذا النهر الليلي ذي الملامح القاسية والعينين الرماديتين الذئبيتين. ولم تكن الكلمات سوى مياه تدندن بخفوت على ضفاف غير مرئية...

2/12/2016

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى