عبد العزيز أمزيان - هي نفسها.. هو ذاته

لم يكن في نيته أن يتبع هواه ، وينقاد مع عاطفته ، فمن عاداته أن يظل يراوح مكانه، ولا يفكر في المضي بعيدا ،إذ - دائما- يترك بينه وبين الأشخاص الذين يلتقيهم مسافة، مهما بدا هؤلاء الأشخاص منسجمين مع ذاته ، ومتوافقين مع أفكاره، وهو تصرف تجذر في طبعه، وتأصل في سلوكه منذ مدة ليست قصيرة، لا يتكلفه ولا يأتيه عن تفكير، إنما هي تجارب الحياة التي مرّ منها هي التي تتدخل – بوعي منه أو غير وعي- لتوجهه على هذا النحو.
ٳنه حين يستعيد شريط حياته، ويستعرض أهم محطاتها لا يصدق أنها يمكن أن تكون بهذه الفظاعة والقسوة. لا يصدق أن ابن آدم يمكن أن يزج بأخيه الإنسان في مهالك لا نهاية لها، ويحشره في عنق الزجاجة الضيقة.إذ كلما استرجع الأحداث الأليمة الماضية، تنهد بأسى وحسرة، وزفر زفرة مُطلقاً ما بصدره من ضيق وألم ،فهو يتذكر أن التجربة أوشكت أن تعصف به، وترديه في حفرة لا قاع لها، وترميه في غياهب النسيان والضياع لولا أن لطف الله نزل عليه، فأنقذه من سقطة مذلة،هي ذكرى طواها الزمن، حفرت في قلبه أخدودها، وتركت في نفسيته وشوم جروحها وغابت في السديم والضباب.
يتذكر بسخرية مريرة كيف أقسم بينه وبين نفسه أن يعتزل العالم، وينزوي في ركن قصي منه، منكفئا على ذاته، ومنطويا على نفسه، لعله يتفادى جحيما أومكروها، أوزلة . لكنه لم يستطع الاستجابة لهذه الرغبة التي طالما راودته ، ذلك أن نداء الحياة أقوى من أي شيء، وطبيعة النفس هي التي تغلب على ما سواها من نداءات الظروف، لذلك كله راح يتعايش مع أحداث الحياة بفطرة وسجية طبع، لكن بيقظة وحذر، بيد أنه هذه المرة استغرب من كونه لم يترك مسافة بينه وبين هذه المخلوقة من عباد الله التي يقف أمامها هذه اللحظة مفضيا لها بمكنون قلبه ، ومفصحا عن ما تجيش به نفسه من مشاعر الإعجاب تجاهها بتلقائية وعفوية، بعد أن قدّم لها نفسه في اضطراب وارتباك. ما كان يعتقد وهو في هذا المنعطف من الحياة أن يصدر عنه هذا التصرف، حيث لم يكن بمقدوره أن يمسك لسانه عن البوح، أو يكتم ما بدا على وجهه من بهت وذهول، هذه التي صادفها في قاعة هذه الندوة التي جاء يحضرها. كانت تجلس على مقربة منه على جهة اليسار، لم يكن يفصلها عنه سوى كرسيين فارغين، الأمر الذي كان يسمح له بأن يراها بوضوح: ملامحها تدل على أنها بربرية الأصل ، بدت جميلة وهي تنصت إلى المحاضر، ليس على وجهها مساحيق زينة ، ولا أحمر الشفاه على شفتيها ولا كحل في عينيها. ذكرته ببنات قرى الأطلس النائية ببشرتها البيضاء وشعرها الأسود بضفيرتين منسدلتين على كتفها، لم تكن تلتفت، كانت تجلس برشاقة فاتنة، ووئام روحي باذخ . كلما التفت ناحيتها، شعر بجاذبية خارقة تشده وتناديه. هي الواقفة أمامه الآن، لم تصدق أول الأمر ما تراه أمام عينيها، هو أيضا لم يصدق ما يراه أمام عينيه.هل يسافر في عينيها إلى الأبد ؟ هي قالت في سرها: آه ما أجمل عينيه ! هل أسافر في عينيه إلى الأبد؟ هو لم يكمل كلامه، ظل واقفا في وجوم كمن أصابه مس.هي لم تنبس ببنت شفة، ظلت صامتة واجمة .تأملته طويلا، وراحت تتذكر وجهه في الحلم ..هو ذاته الذي رأيته في الحلم ، قامته ، ملامح وجهه ، حتى نظرات عينيه في الحلم هي نفسها التي أراها ألان أمامي .هو في نفسه: هل أصدق عيني؟ هذه التي أمامي هي نفسها التي رأيتها في الحلم: قامتها، ملامح وجهها، حتى عيناها في الحلم هي نفسها التي أشاهدها أمامي. بعد لحظات من الدهشة والذهول، تململ في مكانه، ثم غاب في منام آخر ..
1292-f28dbceb3600403f53f35629e83178a5.jpg

عبد العزيز أمزيان

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى