بركات محمد مراد - حنين بن اسحق.. المترجم الموسوعي والطبيب الإكلينيكي

عندما انتهت مرحلة الفتوحات الكبيرة في تاريخ الإسلام وجه العرب جهودهم إلى مختلف أوجه العلم بكل حماسة، وقاموا بترجمة كل ما تقع عليه أيديهم من مخطوطات إغريقية، وفارسية أو هندية، ولعب المسيحيون واليهود دوراً في إنجاز ذلك العمل ومنهم إسحق بن حنين.

بعد مرور قرن ونصف القرن من ظهور الإسلام، أصبحت كل من مدينتي بغداد في ظل العباسيين، وقرطبة في عهد الأمويين، مركزاً تعليمياً عالمياً، وبالذات للطب. ونجد من بين مشاهير الأطباء في عهود الأمويين، ابن وصال، وأبي الحكم الدمشقي، كان ابن وصال مسيحياً وطبيباً للخليفة الأموي الأول معاوية وكان بارعاً في علوم السموم، وخلال عهد معاوية، مات العديد من العظماء والأمراء بطريقة غامضة، ولقي ابن وصال حتفه فيما بعد، في حادث انتقامي، وكذلك كان أبوالحكم الدمشقي طبيباً مسيحياً بارعاً في العقاقير وحكيماً للخليفة الأموي يزيد.

وبدأت الترجمة إلى اللغة العربية، في فترة الأمير خالد بن يزيد بالعهد الأموي، كان خالد مهتماً بالكيمياء القديمة، واستغل خدمات الفلاسفة اليونانيين الذين عاشوا في مصر، وقد أجزل لهم العطاء، حيث انكبوا على ترجمة كتب الإغريق والمصريين عن الكيمياء، والطب، والفلك، وقد عاصر جابر بن حيان أحد عظماء العرب في الكيمياء، فترة الأمير خالد وكان ذلك العالم خبيراً بالعمليات الكيميائية، وهو أول من اكتشف الزئبق.

وكذلك أصبحت بغداد، التي اتخذها الخليفة العباسي الأول المنصور عاصمة ملكه، مركزاً للفنون والعلوم، ويعتبر عصر الخليفة هارون الرشيد بالقرن التاسع، والمشهور في الليالي العربية، أزهى العصور التاريخية، ويقال إن الخليفة العباسي الأول طلب من طبيبه ابن يوسف، إعداد اختبار كفاءة لمزاولة الأطباء للمهنة، ويتم حرمان هؤلاء الذين لا يمكنهم اجتياز ذلك الاختبار من ممارسة الطب، وقد نجح نحو ثمانمائة وستين رجلاً في الاختبار، بينما طرد المئات من الأدعياء من هذه المهنة.

وقد دعا الخليفة المنصور، الطبيب السوري جرجس بن جبريل، ورئيس مستشفى جنديسابور ليعمل طبيباً شخصياً له، وينتمي ذلك الرجل إلى عائلة أنجبت مشاهير الأطباء على مر الأجيال، وقد خدموا في البلاط العباسي لفترة ثلاثة قرون، حيث بلغوا أعلى المناصب، وجمعوا الثروات، وربما جاوز قدرهم الأمراء والوزراء، وكان بعضهم مترجمين للنصوص العلمية، ومؤلفي كتب الطب.

كما كان يوحنا بن مصوع طبيباً في عهد الخليفة هارون الرشيد، وقام - بناءً على طلب الخليفة - بترجمة كتب طبية إغريقية بعد شرائها من بيزنطية، وكان هو نفسه مؤلفاً لعدة كتب عن الحميات، والتغذية، والصداع، وعقم النساء. واهتم المعتصم، خليفة الرشيد، بأعمال يوحنا عن التشريح، حتى أنه أفرد غرفة خاصة لذلك، وجلب القرود من النوبة بإفريقيا لذلك الغرض.

وكان إسحق بن حنين أعظم مترجم في التاريخ العربي، وكانت لديه معرفة كبيرة باللغات السريانية واليونانية والعربية، ونفذ ترجمات كثيرة للكتب العلمية والفلسفية، الإغريقية والعربية، وقد اشتهر عدد آخر من المترجمين كمؤلفين وفلاسفة، وقد كتب ثابت بن قرة عدة كتب حول مجموعة من الموضوعات الطبية، والفلسفة، والفلك، وترجم قسطا بن لوقا- وهو معاصر للكندي - من اللغة السنسكريتية إلى العربية، ترجم عجالة عن السموم من تأليف الطبيب الهندي شاناق.

من هو؟

هو أبويزيد حنين بن اسحق العبادي (391هـ - 062هـ/378م) أعظم المترجمين وأكثرهم شهرة، وشيخ تراجمة العصر العباسي، ولد في الحيرة بالعراق لوالد مسيحي نسطوري يشتغل بالصيدلة، وكانت لغته الأصلية هي السريانية، وكان معلم حنين في هذه المدرسة هو الطبيب الشهير «يحيى بن ماسويه»، ولكنه كان متغطرساً إلى درجة كبيرة مما دفع حنين إلى ترك الدراسة، وانزوى في جهة مجهولة عدة سنوات تعلم خلالها اللغة اليونانية التي كان يعايره بجهلها ابن ماسويه، ثم انتقل إلى مدينة البصرة بالعراق، حيث التحق بأكبر معهد لعلوم اللغة العربية بها وتعلّم فيها اللغة العربية على يد «الخليل بن أحمد الفراهيدي» أعظم علماء اللغة العربية وأشهرهم.

ولذلك يقول ابن النديم في كتابه «الفهرس» وابن أبي أصيبعة في «أخبار الحكماء» إنه كان يجيد أربع لغات هي العربية والسريانية واليونانية والفارسية، وسافر إلى بلاد الروم، وتعلم الطب، وأتقن اليونانية وآدابها حتى حذقها، ثم عاد إلى البصرة فدرس العربية على الخليل بن أحمد الفراهيدي، أعظم علماء اللغة، وأخذ الطب عن يوحنا بن ماسويه، وخدم المأمون والمعتصم والواثق والمتوكل، كما خدم أولاد موسى بن شاكر، وبلغ اهتمامه بترجمة الآثار اليونانية مبلغاً عظيماً، فكان يجول الأقطار في طلبها والحصول عليها.

ونضرب مثلاً على ذلك بكتاب «البرهان» لجالينوس، فقد كان هذا الكتاب نادر الوجود في القرن الثالث الهجري،فجاب حنين بن اسحق في طلبه أرجاء العراق والشام ومصر باحثاً منقباً، فلم يظفر أخيراً إلا بما يقرب من نصفه بدمشق، ولحبه الشديد للعلم والبحث عنه في مظانه، اختاره المأمون لرياسة «بيت الحكمة» واختصه بمنح كثيرة، وقد بلغ من تقدير المأمون لجهوده في الترجمة ما يرويه «ابن أبي أصيبعة» من أنه كان يعطيه من الذهب زنة ما كان ينقله من الكتب، لذلك كان حنين يكتب الترجمة بحروف غليظة وأسطر متفرقة على ورق غليظ جداً لتعظيم حجم الكتاب وتكبير وزنه.

وكان قبل ذلك قد عمل في خدمة «جبرائيل بن يختيشوع» أشهر أفراد عائلة بختيشوع التي طببت بلاط الخليفة العباسي المأمون الذي كان يشجع ترجمة الكتب اليونانية العلمية والطبية إلى السريانية والعربية، وقد قام حنين بن اسحق وهو في السابعة عشرة بترجمة كتاب «جالينوس» «أصناف الحميات»، ثم كتاب «في القوى الطبيعية» من اللغة اليونانية إلى السريانية.

ونلاحظ أن حنين ابن إسحق وبعد أن أصبح عميداً لبيت الحكمة الذي أنشئ عام 512هـ/038م، قام بمعاونة العديد من الشبان المترجمين بنقل الكتب اليونانية إلى السريانية أولاً ثم بعدها إلى العربية، وقد ترجم إلى العربية سبعة من كتب أبقراط، كما نسب إليه أنه نقل إلى العربية جميع مصنفات جالينوس الطبية وتعليقات هذا الأخير على أبقراط، وبفضله تمتع جالينوس بتلك الشهرة العظيمة التي نالها عند مفكري القرون الوسطى الإسلامية والمسيحية، وإليه يرجع الفضل أيضاً في وضع الترجمة العربية لكتاب «الأقراباذين Materia Medica» لديوسقوريدس Dioscoridesx وهذه الترجمات تدل على اهتمامه الشديد بالطب، وهو اهتمام لم يقتصر على الترجمة وحدها، بل امتد إلى التأليف كذلك.

ويعتبر حنين ابن اسحق وغيره من المترجمين المسيحيين والسريان واليهود أفضل نموذج يمكن أن نأتي به، للتدليل على مدى سماحة الدين الإسلامي والمسلمين في تعاملهم مع أصحاب الديانات الأخرى، وإعطائهم الفرص المتاحة نفسها لكل إنسان يسعى إلى تحقيق مكانة علمية واجتماعية لائقة في مجتمع لا يفاضل بين رعاياه إلا بالتقوى والعمل الصالح، فلم يتعصب المسلمون للعرب ولمن اعتنق الدين الإسلامي، فقد تولى المسيحيون واليهود أرفع المناصب السياسية والعلمية والاجتماعية في زمن الدولة العباسية في المشرق، كما تولوا كثيراً من المناصب السياسية والعلمية والإدارية في بلاد المغرب والأندلس.

أشهر المترجمين

ويعتبر حنين بن اسحق أشهر مترجمي بغداد في القرن التاسع الميلادي، وأكثرهم إنتاجاً، ربما سافر إلى بيزنطية أو الإسكندرية بعد قضاء فترة مبكرة للدراسة في بغداد، وعلى كل حال، فإنه أتقن الإغريقية عندما عاود الظهور في بغداد، وفضّل العمل مستقلاً، كما فعل بنو موسى ابن شاكر، فترجم أعمالاً في الطب والفلسفة والفلك والرياضيات والسحر، كذلك أشرف على ترجمات ابنه اسحق، وابن أخته حبيش بن الحسن وحواريين آخرين.

ولما كان حنين هو الوحيد بين شركائه الذي أتقن الإغريقية، فإنه كان يقوم عادة بترجمة أولية إلى السريانية أو إلى العربية في بعض الأحيان، وكان إسحق وحبيش يعرضان عملهما على حنين لمراجعته وتصويبه، وقد أحكم حنين المراقبة على مريديه طوال حياته، وبالرغم من ذلك فإن عملهم لم يقابل إلا بتقدير بخس، ومن ناحية أخرى، كان حبيش مترجماً جيداً للمواد الطبية، لكنه تحمل مع آخرين مسئولية كاملة لترجمة المواد الفلسفية والرياضية التي تتضمن كل مؤلفات أرسطو تقريباً.

جمع حنين قائمة أعمال جالينوس التي كانت متوافرة في عصره، وحدد منها نحو مائة عمل ترجمها بنفسه إلى السريانية أو العربية، وبالإضافة إلى هذه الترجمات، شمل إنتاجه الضخم ترجمات لأبقراط وأطباء آخرين، كذلك صنّف أعمالاً أخرى من بينها كتب في طب العيون، وطبيعة الضوء، والكيمياء.

ويخبرنا المستشرق «دونال.ر. هيل» في كتابه المهم عن «العلوم والهندسة في الحضارة الإسلامية» أنه إلى جانب دوره الحاسم كمترجم وعالم ومعلم، قدم حنين أهم إسهام في تقديم الثقافة العربية بجهوده الناجحة في ابتكار معجم تقني للمفردات العربية والسريانية، واعترافاً منه بالحاجة الضرورية إلى نصوص جيدة، فإنه عمل مع زملائه على مقارنة النصوص المترجمة والمقابلة بينها، مع أخذ القراءات المختلفة بعد أن ظهر اختلاف في المعاني، وبهذه الطريقة أسس منهجية يقاس عليها للترجمات التالية.

طبيب العيون

أما أشهر مؤلفات حنين بن اسحق فهو كتاب «عشر مقالات في العين» ويعد هذا الكتاب أقدم ما كتب في أمراض العين، وقد نشره «ماكس مايرهوف» وحقق نصوصه، وهو من أقدم كتب العيون في تعليم طب العيون، بشكل منهجي تعليمي، وبه أقدم صورة لتشريح العين، وقد اهتم المستشرق مايرهوف بدراسة تأثيره على كتب الطب في أوربا، ويذكر حنين في مقدمة هذا الكتاب أنه ثمرة خبرته في طب العيون طوال ثلاثين سنة.

ومن أهم إبداعاته هنا، صنعه ونحته لكثير من المصطلحات الفنية الطبية الخاصة بالعين باللغة العربية والتي مازالت تستعمل حتى الآن، مثل: الشبكية، والصلبة، والملتحمة، والقرنية، والمشيمية، معطياً لها المعنى الوارد باللغة اليونانية بشكل دقيق، وبعربية واضحة، ولذلك يرجع إليه الفضل في توحيد التعابير والمصطلحات الطبية، وبخاصة في مجال العين، بعد أن كانت متباينة بين المترجمين والمؤلفين في زمانه.

وله مؤلفات طبية أخرى مهمة مثل: «في اختيار أدوية العين» و«كتاب في الرمد» وكتاب «العين أو الحجة» صنعه لولديه داود واسحق، ثم له مؤلفات أخرى ورسائل طبية متخصصة مثل: «تحفة الأولياء وذخيرة الأطباء»، و«امتحان الأطباء»، و«النكاح»، و«فيمن يولد لثمانية أشهر»، وكتاب «في أن الطبيب الفاضل لابد أن يكون فيلسوفاً»، و«أوجاع المعدة»، و«فصول حنين بن اسحق في أشربة مختارة»، و«في تدبير الصحة في المطعم والمشرب»، في «البفول وحواشيها»، و«مقالة في ماء البفول»، و«في الفواكه ومنافعها»، و«في إصلاح ماء الجبن النافعة وما يستعمل منه»، وكتاب «في الأغذية»، و«الفرق بين الغذاء والدواء المسهل»، و«مقالة في تولد الحصاة»، وله موسوعة في أعلام الأطباء هي «تاريخ الأطباء».

ولحنين ابن اسحق كتب في الصيدلة هي «في أسماء الأدوية المفردة على حروف المعجم»، و«في أسرار الأدوية المركبة»، و«الأدوية المحرقة»، و«خواص الأدوية المفردة»، و«أقرباذين». ومن أهم كتبه وأخطرها كتاب «في حفظ الأسنان واللثة واستصلاحها».

كما أن له مؤلفات أخرى منها «مختصر في تاريخ الكيميائيين»، و«مقالات»، و«في السبب الذي من أجله صارت مياه البحر مالحة»، و«في المد والجزر»، و«في توليد النار بين حجرين»، ورسائل «في الضوء وحقيقته»، و«الأوزان والأكيال»، و«مقتطفات من رسالة المذنبات»، و«ألفاظ الفلاسفة في الموسيقى ونوادر فلسفية»، و«القول فيما يستجيب أو لا يستجيب من شهور السنة»، و«مجالس الحكماء»، و«اجتماعات الفلاسفة في بيت الحكمة في الأعياد وتفاوض الحكمة بينهم»، و«آداب الفلاسفة»، و«كتاب في المنطق»، و«كتاب في النحو»، وتراجم حنين عديدة لجالينوس وأبقراط وديسقوريدس وأرسطو وإقليدس وأبولونيوس وبطليموس وبلتاس وغيرهم من مفكري اليونان وأطبائهم.

الفلسفة لها نصيب

ولا تنحصر عناية حنين في الطب وحده، بل لقد عني أيضاً بالفلسفة والرياضيات والعلوم، فهو الذي اعتمد عليه المأمون في ترجمة كتب أرسطو، فأجاد نقلها، كما ترجم لأفلاطون وأرخميدس وإقليدس وأوطوليقوس ومنلاوس وأبسقلاوس وثيودوسيوس وأصلح نقل من تقدمه من المترجمين في زمن المنصور والرشيد. وربما أعاد النظر في نقل معاصريه أيضاً، فقد أصلح ترجمة الحجاج لكتاب «المجسطي» لبطليموس. كما أصلح ترجمة البطريق لكتاب «الأربع مقالات في صناعة أحكام النجوم» لبطليموس أيضاً، وقام بترجمة كاملة للتوراة إلى اللغة العربية نقلاً عن الترجمة السبعينية Suptuagint، وهي ترجمة إغريقية عتيقة للعهد القديم، قام بها سبعون أو اثنان وسبعون مترجماً بين عامي 082-031ق.م.

طبيب الأسنان

ويُعد كتاب حنين بن اسحق «في حفظ الأسنان واللثة واستصلاحها»، أول كتاب مستقل يتناول طب الأسنان عند العرب، وتنبع أهمية الكتاب من أن المؤلف قام بتدوينه بعد أن توافرت لديه حصيلة متنوعة من التجارب الطبية. ويدور مضمون الكتاب حول محورين:

الأول: يبحث سبل وقاية الأسنان وحمايتها، أو ما يعرف بطب الأسنان الوقائي.

الثاني: علاجي دوائي باستعراض ووصف أمراض الأسنان واللثة مع ذكر العلاج الدوائي المناسب.

ويبتدئ حنين بن اسحق بتقديم قواعد وقائية وتعليمات صحية لمن أراد حفظ أسنانه أهمها: تجنب التخمة لأن فساد الطعام في المعدة يسبب لها الضرر مما ينعكس سلباً على سلامة الأسنان ويسبب فسادها، والحذر من كسر الأشياء الصلبة بالأسنان، وتفريش الأسنان بالسواك باعتدال.

دواء السنون Dentifrice: كان الأطباء القدامى يعتقدون أن لكل دواء فعلا وقوة تؤثر في الجسم، ومن الممكن معرفة قوة كل دواء ومادة على حدة، ثم مزجها معاً بنسب معينة للحصول على أدوية ذات فعل جديد وقوة جديدة، والسنون دواء مركب مؤلف من عدة أنواع من الأدوية المفردة مختلفة المصادر، فهي عقاقير نباتية ومعدنية أو حيوانية المصدر.

وقد قدم المؤلف خلاصته المفيدة عن طبابة الأسنان في زمنه (القرن الثالث الهجري) مع صورة واضحة لأدويته المعتمدة ومعالجاته وأمراضه الشائعة وطرق تشخيصها. ومن الواضح اعتماده المنطق العلمي واستناده إلى الملاحظة الحسية والتجربة العملية، وابتعاده عن المعالجات الزائفة اللامنطقية، كما أن النصائح الوقائية المذكورة مازالت صالحة حتى عصرنا الحالي.

تعتبر حركة الترجمة والنقل من الأمور المهمة في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، فهي ركن أساسي من أركانها، بل هي عمادها وأحد مقوماتها الأصيلة، وعن طريقها استطاع العرب الحصول على أمهات كتب أشهر حضارات العالم القديم (اليونان - الهند - الفرس) الأمر الذي كان له أثره في عملية قيام وتطور حضارتنا العربية الإسلامية.

وإن النتائج التي أسفرت عنها حركة الترجمة والنقل - خاصة في العصرين الأموي والعباسي - ما كانت لتظهر لولا ذلك الاحتكاك والاتصال المباشر بتراث أعرق الحضارات القديمة، وإن الفكر الإسلامي لم ينتج ويبدع إلا بعد اطلاعه ودراسته مؤلفات مشاهير علماء تلك الحضارات، وإن الحضارة الأوربية ما كان مقدراً لها أن تقوم دون ركيزتها الحضارة العربية، وذلك بعد أن ترجمت ونقلت أفضل المؤلفات العربية، وفي شتى المجالات إلى مختلف اللغات الأوربية.

ولقد طوّر العرب بتجاربهم وممارساتهم وأبحاثهم العلمية والعملية ما أخذوه من مادة خام عن الإغريق وشكّلوه جديداً بعد أن أضافوا إليه الكثير من المعلومات والحقائق والأفكار، فالعرب في الواقع هم الذين ابتدعوا طريقة البحث العلمي الحق القائم على التجربة والمعتمد على الملاحظات والمشاهدات الصحيحة، وبالتجارب العلمية الدقيقة التي لا تحصى، اختبر العرب النظريات والقواعد والآراء العلمية مراراً وتكراراً، فأثبتوا الصحيح منها وعدّلوا الخطأ في بعضها، ووضعوا بديلاً للخاطئ منها، متعمّقين في ذلك بحرية كاملة في الفكر والبحث، وعلى هذا الأساس العلمي سار العرب في العلوم الطبيعية، وخاصة الفيزيائية والطبية شوطاً كبيراً، أثر فيما بعد بطريق غير مباشر على مفكّري الغرب وعلمائه أمثال روجر بيكون وليوناردو دافنشي ووليم هارفي وغيرهم من علماء الغرب وأطبائه.


بركات محمد مراد
سبتمبر 2009

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى