عبدالمولى دليل - حرقة الغياب

هي قوارب الموت التي مات على متنها الكثير من أصدقائي غرقا في البحر ،بحر لا يرحم، بحر متجبر و قاس يغرق الفقراءالذين يركبونه بحثا عن فرص أخرى في الحياة، بحر لا يقدر على إغراق الأغنياء الذين يركبونه باليخت و الباخرة ،بحر يثور و يغضب في وجه المهاجرين السريين الذين لا يريدون من اجتيازه سوى الوصول الى أوربا للبحث عن كسرة خبز ،و قطعة قماش، و البحث عن عمل يدر عليهم شيء من الأورو يبعثون به لاهلهم و ذويهم في بلدانهم الفقيرة ،بحر يلين ظهره، و يهدئ من روعه و يمسي بساطا أزرق في وجه الباخرة و اليخت التي يمتطيها أغنياء يريدون من اجتيازه السياحة و الاستجمام على شواطئ ماربيا و طورينومولينوس .....بحر يستصغر الفقراء و يعظم الأغنياء. حتى الطبيعة لا تعدل بين الناس.
كانت الحياة صعبة بدوار الحنانش البعيد بعشرات الكيلومترات عن مدينة فاس ، صعبة بكل ما تحمل الكلمة من معنى .عندما يموت الأب و تموت معه مهنته تحل بالأسرة التي تركها أزمة مادية خانقة .تسلمت والدتي مفاتيح قيادة الأسرة ،و والدتي لم تكن متمرسة على مواجهة الحياة ،فبتنا من الليلة الأولى نشكو ألم الجوع القاسي الذي لا يرحم . لم يكن أمام والدتي خيار آخر سوى الخروج إلى العمل. كانت تترك شقيقي الصغير عند إحدى الجارات ،و نغادر المنزل في الساعات الأولى من الصباح على متن الطاكسي الأبيض لنصل إلى فاس، و أهل فاس مازالوا نياما. كانت والدتي تارة تعمل خادمة في المحلبات ، و تارة أخرى في المطاعم و المنازل ، تعمل هنا و هنا لتحصل على المال ،أما أنا ، فكنت أبيع السجائر بالتقسيط في أحياء و دروب فاس. في المساء ، و نحن في طريق العودة كانت والدتي تقول لي: يا سعيد اني أحلم دائما بأن يكون لي منزل في هذه المدينة يتوفر على الكهرباء بمجرد أن أضغط على الطفاية يعم النور جميع أرجائه، فقد أعياني ضوء الشمعة و لامبة ، و بدأ دخانهما يؤثر على بصري، و احلم يا سعيد كذلك بصنبور ماء داخل المنزل بلمسة يد واحدة ينهمر الماء أمامي ، فقد أعيتني البرويطة ، و تعمار الماء من الساقية التي أصبحت مزدحمة بالرعاع، و احلم يا سعيد بتلفاز ملون اتتبع فيه المسلسلات المكسيكية و التركية ، فقد قالت لي حادة التي تشاهد هذه المسلسلات عند ابنتها المتزوجة هنا في فاس أن شعب الأتراك و المكسيك يتكلمون لغتنا الدارجة. عندما وقف الطاكسي أمام الدوار ، انقضى حلم والدتي و انتهى بمجرد أن رأت دوار الحنانش ببيوته الطينية ،و دروبه المتربة، و وجوه سكانه الكالحة و الحزينة، فقالت: ( يا سعيد أنا احلم فقط بأن أغيب وجهي عن هذا الدوار المشؤوم).
تعلمت من والدتي مواجهة الحياة الصعبة بكل جرأة و تحدي مقتنعا أن دوام الحال من المحال ، و أن وجه الحياة قد يتغير من الأسوء الى الأحسن مع التمسك بالصبر و التشبت بالطموح . ها أنا ذا قد اشتد عودي ، و صرت شابا يافعا ، و بدأت اشتغل هنا و هناك تارة في البناء ، و تارة بائع متجول ، لكن المال الذي كنت أجنيه يكفي فقط لتغطية مصاريف البيت ، لهذا قررت أن أهاجر عن طريق قوارب الموت من أجل أن أحقق حلم والدتي التي بدأت تتقدم في السن، و قد تموت و في نفسها غصة حلم لم تحققه ،حلم السكن بمنزل يتوفر على الماء و الكهرباء . في آخر ليلتي بدوار الحنانش حرصت على أن أصلي صلاة الصبح في مسجد الدوار الصغير، و عند انتهاء الصلاة اقتربت من الفقيه و قلت له: ( سأسافر إلى إسبانيا عن طريق البحر أريدك أن تكتب لي دعاء ركوب البحر). رأيت الفقيه يتعلثم في كلامه ،لكن بمجرد أن وضعت في يده عشرة دراهم انطلق لسانه قائلا : (هناك الكثير من الأدعية سأكتب لك أحسنها ). ثم قال و هو يبتسم: ( لا تنساني من الهدية، فانا أريد ان تكون هدية عبارة عن سيدة اسبانية و إن كانت شارفة لا يهم المهم أن تأخذني معها إلى إسبانيا حتى أتخلص من دوار الحنانش ).
امتلأ القارب المتهالك بالمهاجرين الذين جاؤوا من كل حدب و صوب، ثم تحرك، و تحرك لساني بالدعاء الخاص بركوب البحر . كلما تقدم القارب وسط البحر رأيت الموت يتقدم نحوي، و رأيته متأهبا للانقضاض علي، و على باقي المهاجرين؛ لكي يغرقنا. تذكرت نشرات الأخبار التي كانت تنشر صور جثث المهاجرين السريين ، و هي تنتشل من مياه البحر ، و تذكرت فيلم تيطانيك الذي تتبعت قصة أحداثه التي جرت كلها في البحر ، و كيف استطاع البطل أن يضحي بنفسه من أجل أن تعيش حبيبته . مازال لساني يردد بدون توقف دعاء ركوب البحر. لقد كانت تلك الفترة الزمنية التي قضيتها على متن القارب ، و في عرض البحر من أصعب و أشق الفترات الزمنية التي مررت بها، إذ لم يعد شيء يدور في خلدي سوى النجاة، النجاة من أنياب البحر الذي رأيت فمه الضخم مفتوحا ينتظر بكل تأني و تؤدة التهام جثث المهاجرين الذين فضلوا المجازفة بأرواحهم من أجل إصلاح مستقبلهم المتعثر، فرفعوا شعار إما أن نعيش عيشا كريما، أو نموت موتا رحيما . استطعنا أن نجتاز البحر ، و أن نصل إلى الأراضي الإسبانية التي وصلها اجدادي من قبل في جيش لفتح الاندلس، و أنا جئت في جيش من المهاجرين السريين لفتح صفحة جديدة من الأمل في حياتي.
بعدما استوى القارب بإحدى الشواطئ الإسبانية تفرق المهاجرون في إتجاهات مختلفة، فكانت وجهتي أنا و بعض زملاء القارب نحو حقول زراعية كبيرة أصحابها في حاجة إلى يد عاملة رخيصة لا تتوفر على جواز السفر، و لا على تأشيرة الدخول، عمال جاءوا إلى هذه الحقول الزراعية ليصبحوا مملوكين لهؤلاء الاقطاعيين الإسبان .
كان العمل في تلك الحقول الزراعية البلاستيكية يمتد لأكثر من ثماني ساعات، عمل شاق و متعب يتطلب الكثير من الصبر و القوة ، و قد كان أحد الأصدقاء يقول لي و نحن منهمكين في العمل : (كنت في تادلة بائع متجول للفواكه، و هنا عامل في حقول الفواكه ، كنت في تادلة أخاف من القوات المساعدة، و من حجز مكيالي، و من تكسير عربتي، و هنا أخاف من بوليس الهجرة و من اقتيادي و طردي ، لم أجد أي فارق بين تادلة ، و إسبانيا سوى ان هناك في تادلة شيء اسمه الدفء العائلي ، و هنا في اسبانيا شيء اسمه الوحدة و الغربة) .
بيوت قريبة ،و غير متباعدة، بيوت يأخذ فيها المهاجرون قسطا من الراحة من عناء العمل المضني. كانت كل جماعة تتألف من شخصين فأكثر تقطن بتلك البيوت التي ذكرتني بدوار الحنانش، إذ كانت تفتقد للماء و الكهرباء ، فكنت أقول في نفسي: ( قدري أن تبقى ظلال دوار الحنانش لصيقة بي حتى و إن ابتعدت عنها بآلاف الكيلومترات). كان كل مهاجر ، و قبل أن ينام ينشغل بشيء ، فمنهم من ينشغل بعد النقود التي سيرسلها إلى أقاربه الفقراء بالمغرب ، و منهم من يدخن سيجارة بنظرات تائهة لينفت دخانا ممزوجا بزفرات الحزن و الغضب اللذان استوطنا صدره منذ أن حل بالديار الاسبانية، و منهم من يستمع إلى أخبار البلد بإحدى المحطاة الإذاعية و يقول بصوت منخفض: ( البلاد بشات فحالها ما بقا لي فين نرجع). و منهم من يحلو له الحديث عن أيامه و لياليه الماضية ببلاده ، و عن حبيبته التي تنتظر عودته من أجل إبرام عقد الزواج، أما أنا، فكنت أفكر فقط في الشقة التي ساشتريها لوالدتي، كم جمعت من المال؟ و كم بقي للوصول الى ثمن الشقة التي من أجلها جئت ، و من أجلها جردت جسدي من جميع الشهوات و الملذات ، و جعلت منه آلة للعمل لحصد الاورو .
مرت عدة شهور و انا اقطن بهذا الكيطو الخاص بالمهاجرين الذين كان يقع باطراف مدينة الميريا .كنت الاحظ باستغراب تلك الحافلة المتوسطة الحجم التي كانت تأتي كل ليلة ليمتطيها بعض المهاجرين ،فتتحرك بهم صوب مركز المدينة ، ثم تعود بعد ذلك في الساعات الأولى من الصباح .كان هذا الشيء يتكرر أمامي دائما، فسألت أحد المهاجرين المغاربة الذي كان يسكن معي في الغرفة، و هو مهاجر قديم جاء في البعثات الأولى للهجرة السرية كان هذا الشخص يحمل اسم الموتشو على اطلاع و علم بكل ما يدور في الكيطو من كبيرة و صغيرة ، لهذا عندما سألته عن قضية هؤلاء الشبان الذين يذهبون كل ليلة في هذه الحافلة ،و لا يعودون إلا في الصباح الباكر قال الموتشو: ( إن هؤلاء الشباب يذهبون في هذه الحافلة للعمل بقضبانهم و حفرهم في الملاهي الليلة ، و بعض الفيلات المعدة للسهرات التي يستباح فيها كل شيء يعملون بثمن غال و باهظ ) صمت ثم واصل : ( لكن عملهم هذا محفوف بمخاطر كثيرة منها انهم قد يصابون بأمراض جنسية مزمنة و اخرى نفسية بالإضافة أن هؤلاء الشباب ليست لهم نية الرجوع إلى بلدانهم الأصلية .). صمت مرة اخرى لعله كان مترددا بين مواصلة الحوار أو الصمت، لكنه فجأة قال: ( كأني أراك تريد أن تعمل مع هؤلاء الشباب) . اغضبني الموتشو بكلامه ، فقلت له بصوت مطبوع بحدة و نرفزة: ( انا أريد أن أعمل فقط بيدي، و لي رغبة جامحة في الرجوع إلى بلدي).
خلال هذه السنوات التي مرت كلها في العمل بالحقول الزراعية الاسبانية استطعت أن أصل إلى المبلغ المالي الذي سيمكنني من شراء شقة لوالدتي في مدينة فاس . جمعت حقائبي ، و ودعت أصدقائي ، و قفلت راجعا إلى بلدي .وقفت الطاكسي الابيض أمام دوار الحنانش، دوار لم يتغير وجهه رغم أنني غبت عنه عدة سنوات ، دوار بقيت صورته هي هي، بل ربما زادت سوءا عما كانت عليه.
أوصلني الطاكسي إلى الطريق المحاذية لدوار الحنانش، فوجدت شقيقي في استقبالي بدون والدتي التي كانت تنتظرني في المنزل كما قال شقيقي. وجدتها داخل المنزل بصورة أخرى غير تلك الصورة التي تركتها عليها، وجدتها في حالة نفسية سيئة تنظر إلي بنظرات غير مركزة، لم تفرح بقدومي ، و لم تبكي لعناقي ، و لم تتأثر بحضوري رغم غيابي الطويل عنها . سمعت أسماء كثيرة تتردد على فمها، و جمل غير مفهوم تنبس بها بين الفينة و الاخرى. تضحك بدون سبب، و تصمت بدون سبب، عندما سألت أخي عما أصابها قال لي أنه عندما عرضها على إحدى المستشفيات في مدينة فاس قال له الطبيب أنها مصابة بمرض عقلي. تألمت كثيرا لحال والدتي و بكيت بكاءا حارا بين يديها . خرجت من المنزل في اتجاه طريق الدوار بدموع لا تريد أن تفتر باحثا عن وسيلة نقل توصلني إلى فاس، توصلني إلى إحدى الحانات، لكي أطفأ فيها لهيب الحزن و الغضب المشتعلان داخل نفسي. في الطريق تذكرت كلام شقيقي الذي قال لي : ( عندما سافرت و انقطعت أخبارك كان سكان الدوار يقولون لوالدتي سعيد مات غرقا ، مثل بعض أبناء الدوار، و لن يرجع ، و هي كانت ترد على سكان الدوار بثبات و ثقة قائلة: سعيد سيعود سعيد سيعود ، فكانت تأتي كل صباح إلى جنب الطريق و تبقى تترقب لعلك تأتي على متن حافلة أو شاحن، أو سيارة اجرة. .. ، و عندما يصيبها التعب من الانتظار تعود إلى المنزل عند مغيب الشمس ،و هي تقول اذا لم يأتي سعيد اليوم سيأتي غدا ، إذا لم يأتي سعيد اليوم سيأتي غدا.

عبدالمولى دليل

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى