د. زياد الحكيم - فيودور دوستويفسكي

هو واحد من اعظم روائيي القرن التاسع عشر الذين لاتزال اعمالهم تتمتع باهتمام واسع في اوساط القراء. ولعل السبب في ذلك يعود الى انه تناول في رواياته المشكلات الاخلاقية والدينية والسياسية التي واجهت في ما بعد اجيال ما بين الحربين العالميتين وما تلا ذلك. واعترف الفيلسوف والشاعر الالماني فردريك نيتشه بتأثره به. وقال احد النقاد الالمان ان تأثير دوستويفسكي الروحي في المانيا لا يضاهيه الا تأثير مارتن لوثر. وقال الفيلسوف الفرنسي سارتر ان معاداة دوستويفسكي لطغيان العقل هي التي الهمته معتقداته الوجودية.

ولد دوستويفسكي (1821- 1881) في موسكو. وكان ابوه طبيبا عسكريا مدمنا على الكحول ومستبدا وجشعا. ونشأ هو واخوته الثمانية في بيئة دينية متشددة. ولذلك فان الظروف التي شكلت اهتماماته الادبية كانت تختلف اختلافا واضحا عن تلك التي شكلت الاهتمامات الادبية لكل من منافسيه ايفان تورجينيف وليو تولستوي اللذين كانا من الطبقة الارستقراطية المثقفة.

وبعد ان انهى تعليمه الاولي في موسكو التحق بمدرسة الهندسة العسكرية في مدينة بطرسبورغ. وكان في الوقت نفسه كثير المطالعة للادب الروسي والاداب الاوربية الاخرى. وكان ميالا بشكل خاص الى قراءة القصص الميلودرامية التي تدور احداثها حول العنف والجريمة. وفي عام 1841 اصبح ضابطا عسكريا ولكن بعد ذلك بعامين استقال من الجيش ليتفرغ للكتابة.

كان اول ما الفه رواية قصيرة بعنوان (الفقراء) 1846، واستطاع ان يطلع الناقد الادبي الشهير فيسارون بيلنسكي عليها. فنالت الرواية اعجاب الناقد الذي وصف دوستويفسكي بانه غوغول جديد. وقال له: "لقد تكشفت لك الحقيقة كفنان، وقدمت لك كهدية، فحافظ عليها واخلص لها، وستكون كاتبا عظيما." وكتب دوستويفسكي في رسالة الى اخيه ميخائيل شارحا طريقته في الكتابة قائلا: "اني معني بالتحليل وليس بالتركيب، اي اني اغوص في الاعماق وفي الوقت الذي احلل فيه كل ذرة ابحث عن الكل."

انضم كاتبنا الى حركة الاصلاح السياسي والاجتماعي في اثناء فترة حكم القيصر نيقولا الاول الذي عرف بالتسلط والبطش كما شارك في اجتماعات اسبوعية في منزل الفيلسوف ميخائيل بتراشفسكي لبحث افكار الاشتراكيين الفرنسيين. وهناك ادلة تشير الى انه اشترك في نشاطات سرية تهدف الى نشر منشورات متطرفة معادية للدولة. وامرت الحكومة التي كانت تخشى انتقال عدوى الفلسفات الثورية من الغرب بالقبض على جماعة بتراشفسكي في ابريل 1849. وبعد تحقيقات طويلة صدر الحكم بالاعدام على واحد وعشرين منهم. وكان دوستويفسكي واحدا من هؤلاء. والغي حكم الاعدام في آخر لحظة. واستبدل به حكم بالسجن مع الاشغال الشاقة اربع سنوات في احد سجون سيبيريا. وخلال هذه السنوات قبل دوستويفسكي عقوبة السجن كتكفير لا بد منه لما اعتبره جريمة كبيرة. وتشكلت علاقات انسانية قوية بينه وبين السجناء البسطاء الذين عانى معهم وذاق عذاب العيش في السلاسل. وعزا دوستويفسكي الى هذه الفترة اصابته بمرض الصرع الذي لازمه سنوات طويلة. وكان الكتاب المقدس هو الكتاب الوحيد الذي سمح له بقراءته طوال فترة السجن فقرأه باستمرار وتعمق ايمانه.

ولا شك ان السنوات التي قضاها في السجن كانت على جانب عظيم من الاهمية في تطوره ككاتب ومفكر. فالتطرف الذي يتصف به الشباب حل محله احترام للوضع القائم وايمان بان الخلاص لن يتحقق الا بالتضحية والمعاناة. اضف الى ذلك ان سنوات السجن زودته بمادة غنية عن المضطهدين والمعذبين لكتابة رواياته. وبعد عودته الى بطرسبوغ من سيبيريا نشر رواية (قرية ستيبانشيكوفو) 1860 ورواية (المضطهدون والمعذبون)1861. وهذه الرواية تذكر الى حد ما بالنزعة العاطفية الميلودرامية في روايات ديكنز المتأخرة. ونالت هاتان الروايتان اعجاب الناقد المعروف دوبرليبوف الذي كان يعتقد ان الفن بتصويره المباشر للواقع لا بد ان يقوم بدور في اصلاح المجتمع. ولاقت رواية (مذكرات من بيت الموتى) 1862 ترحيبا من النقاد. وهي وصف واقعي للحياة في السجن.

وفي عام 1861 اسس دوستويفسكي واخوه ميخائيل مجلة اسمها (الوقت) ولكنها ما لبثت ان اغلقت لاسباب سياسية. وفي صيف عام 1862 زار باريس ولندن وايطاليا وسويسرا وكتب كتابا بعنوان (مذكرات عن انطباعات صيفية) 1965 عن رحلته الى باريس ولندن وفيه شجب الحضارة الغربية. ومن ناحية اخرى تعقدت مشكلاته الشخصية فوقع في غرام امرأة جميلة ومثقفة تناصر تحرر المرأة وتراكمت عليه الديون وتدهورت حالته الصحية. وتوفيت زوجته بمرض السل، وتوفي اخوه ميخائيل، وفر الى خارج البلاد خشية الذهاب الى السجن لعدم قدرته على تسديد ديونه. ومرة اخرى وضع امله في القمار كوسيلة للخروج من ازمته المالية.

وواصل دراساته النفسية المستفيضة برواية (الجريمة والعقاب) 1866 وبطل هذه الرواية - راسكولنيكوف - انسان عدمي مادي لا ديني يتخذ موقفا متطرفا في عدائه للمجتمع ويؤمن بالنظرية المدمرة التي تقول ان الغاية تبرر الوسيلة، مما يدفعه الى قتل امرأة عجوز ثرية. ويحكم عليه بالسجن ويدرك اخيرا ان السعادة لا يمكن تحقيقها عن طريق التفكير العقلاني فحسب، ولكن يمكن تحقيقها ايضا عن طريق التضحية والمعاناة. وتقدم الرواية بعدا جديدا مضافا الى عنصر التشويق المعروف في قصص الجريمة وهو بحث الجوانب الاجتماعية والدينية والفلسفية للجريمة.

وفي رواية (الابله) 1869 يدرس هموم المواطن الروسي العادي غير انه استطاع ان يجعل هذه الهموم هموما انسانية تتجاوز المكان والزمان. وكتب دوستويفسكي في مذكراته يقول: "يقولون عني اني عالم بالنفس، وهذا غير صحيح. اني كاتب واقعي بالمعنى الصحيح للكلمة. ولذلك فانا اصور اعماق الروح الانسانية."

وبدأ ينشر الدفعة الاولى من روايته العظيمة (الاخوة كارامازوف) في مجلة (رسكي فستنيك) عام 1879. وتعد هذه الرواية اعظم ما كتبه من روايات لما تمتاز به من تحليل اجتماعي ونفسي عميق. ويشير النقاد الى قسم (المحقق الكبير) في هذه الرواية ويعتبرونه ذروة ما تفتقت عنه عبقرية دوستويفسكي.

وترجمت اعمال دوستويفسكي الى اللغة الانكليزية واللغات الاوربية الرئيسية الاخرى في اثناء حياة مؤلفها. كما ترجم الدكتور سامي الدروبي هذه الاعمال الى العربية ويشهد لهذه الترجمات العربية بالدقة والجمال. وكان للكاتب تأثير واسع لا يضاهيه الا تأثير ليو تولستوي من بين الكتاب الروس في اوربا وامريكا وروسيا. وظهر اهتمام باعمال دوستويفسكي داخل ما كان يعرف بالاتحاد السوفياتي. وقد تعرضت هذه الاعمال لكثير من القدح بسبب ما سمي بايديولوجية صاحبها المعادية للسوفيات. وحذر مكسيم غوركي، شيخ الادب الروسي، من قراءة اعمال دوستويفسكي دون التسلح بسلاح نقدي قوي نظرا الى ما سماه بميول دوستويفسكي الضعيفة وغير الواقعية. وبالرغم من ذلك ظلت هذه الاعمال تعتبر اعمالا كلاسيكية في الاتحاد السوفياتي. وفي الذكرى الخامسة والسبعين لوفاة دوستويفسكي في فبراير 1956 ظهر العديد من الدراسات النقدية حول اعماله واتخذ قرار رسمي باعتبار هذا التاريخ ذكرى سنوية لحدث ثقافي.


[email protected]
لندن - بريطانيا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى