نغوغي وا ثيونغو Ngugi wa Thiong'o - الزوجة الخامسة.. قصة قصيرة - ترجمة: عمر تركيت

وقفت موكامي على عتبة كوخها، يشد رأسها شال أملس زيتي اللون. يمنع شعرها من أن ينسدل فوق كتيفيها النحيلتين.
كان الظلام خارج الكوخ موحشا ومخيفا. أدارت رأسها تنظر ناحية الموقد. بدت لها النار الخامدة جوار الموقد كما لو أنها تدعوها للعودة... انتابها التردد لحظة قصيرة...

حسمت قرارها... دلفت إلى الفناء، بخطوات مسرعة، حريصة على ألا يصدر عنها أدنى صوت....
الفناء خارج كوخها هادئ، يعمه الصمت. أحست الهواء يغمره سحر يتهددها. انتابها الفزع من اتساع رقعة الظلام الموحش العنيف وقد لفها في سرابيله... بدا له الفناء، كوخ زوجها، كوخها وأكواخ ضراتها الأربع، تترنم جميعها في صمت، وفي آن واحد بلعنة أبدية على ما تنوي فعله... وفي ذلك الصمت المتسم بالازدراء الممزوج بالرثاء سمعت الأكواخ تقول:” لا تهجري زوجك.. لا تغادريه!”.
ولكنها... حسمت قرارها. عبرت الفناء في إصرار نحو البوابة اليسرى، بهدوء فتحتها، ثم وهي تغلقها، أدركت أنها تسدل الستار على جانب من حياتها. حبست دموعها وأدارت ظهرها لبيت فيه رجل تزوجته حبا...
تسأل نفسها:
"إلى أين أذهب الأن؟"
_ لا أدري، ولا أهتم ... بغيتي أن أهرب ... أن أبتعد عن الموقد والفناء والأكواخ و من ينام فيها... ليكن أي مكان... أذهب إلى أرض ماساي أو إلى كامباني... أبتعد... لن أعود إلى زوج يسعى إلى تحطيمي وقتلي ... لا ... لم يعد زوجي... لم يعد الرجل الذي أحب...
واستمرت الأفكار تتدفق في رأسها وكأنها طوفان عارم...

عادت إلى ذاكرتها صور حياتها القصيرة مع موثرجا زوجها. الرجل العصامي صاحب الزوجات الأربع، موثرجا الشديد الغلظة في معاملتهن... حضره أبوها يمانع زواجها منه. وهي ترفض بعناد أن تستجيب لاعتراضاته، لأنها أحبت موثوجا بجنون... كان كل ما يحيط بموثرجا، يوحي بالغموض والقوة، فتاقت نفسها إلي الانضمام إلى حاشيته... زوجاته وأبنائه... أحبته سرا مذ تفتحت عيناها على الحياة، تهيم به كله وبتفاصيله، خطواته، صوته الجهير، مظهره الرياضي...

حين جاء لخطبتها لم تعد الدنيا تسع سعادتها... تتذكر خفقان قلبها وبسمتها العريضة وترددها في قبول عقد أصداف المحار عربون زواجها...
تتذكر رفض أبيها زواجها من شيخ معدد، وكيف لم تهتم بتحذيراته ونصائحه، تتذكر أن لا أحد من أقاربه صدق أن تقبل الزواج من موثرجا، موكامي التي يهيم بها شباب القرية المحاربين، تجاهلت عروضهم للزواج منها، وهاهم ينظرون إليها بسخط واستياء، يتحسرون متسائلين:
” هل يعقل أن تضحي فتاة في ريعان الشباب وبمثل هذا الجمال من أجل رجل مسن”؟... وسرعان ما ساد بينهم اعتقاد أنها وقعت أسيرة سحره. أصبح اعتقادهم موضوع أحديثهم... لا أحد صدق حقيقة أنها تهيم به.
كانت فترة الخطوبة قصيرة وغريبة... ولم يكن النهار السابق ليلة دخلتها أقل إثارة وانطباعا في ذاكرتها من الكوخ الجديد، الذي شيد موثرجا خصيصا لها.

كانت في طريقها إلى مزرعة أبيها، حين ظهر فجأة أمامها ثلاثة رجال وكأن الأرض انشقت فخرجوا منها، لم تكد تفتح فمها بالصراخ حتى كانت محمولة على أكتافهم ترتعد من الخوف، تصرخ، تقاوم لتتخلص من قبضات أيديهم المحكمة والرقيقة في ذات الآن.
لم يهتموا لصراخها المهتاج. تجاسر أحدهم وقرصها في وقاحة قائلاً بلا اكتراث لزميليه: ” فقط كي تهدأ”.
أثارتها القرصة بطريقة غريبة، كانت ممتعة للغاية. كفت عن صراخها حين أخبروها إنهم رسل موثرجا، جاءوا المزرعة من غير سابق إخبار ليحملوها إلى بيت زوجها، وعلى غفلة منها كما هي عادة زواجهم... لم تكن تعلم بهذه العادة، ولم يخبرها أحد من أقاربها بها وهم في حمى الغضب من قبولها الاقتران برجل لا يريدونه لها، كما لم يخبرها أحد من أهل قريتها، كي تعد نفسها لليلة دخلتها محمولة على أكتاف وكأنها أكواز ذرة ناعمة مليئة بحبوب، تدغدغ قدميها وجنبيها… أحست بسعادة حقيقية، قرص جنبها رجل منهم يقول:
العادة الا تظهر العروس الفرح، أن تولول طوال الطريق إلى بيت زوجها، وأن تواصل هذه الولولة أسبوعاً كاملا... فهمت؟
في الموسم الأول... أغرقها حب موثرجا وغمرها برعايته. ولصغر سنها وجمالها صارت هدفاً لحسد وبغض زوجاته الأخريات.
تذكر أن الأكبرهن سناً ضربها زوجهن حين رفضت السماح لها بالحصول على وقود من كوخها... ومن يومها توقف الشجار والعراك والتصرفات العدائية، وأصبح الصراع يدور في صمت...
وهي في غمرة سعادتها بزواجها من رجل تحبه... لم تعد تأبه لوقاحتهن، وتجاهلهن... كما لم تهتم لحركتهن من أجل انخراط أهالي القرية بكاملها في نبذها واحتقارها ...

مضى موسمان ولم تنجب...
انتظرت الموسم الثالث... لم تنجب... وانطلقت حملة ضراتها العدائية معلنة عن نفسها من جديد:
_ موكامي، امرأة عاقر!.
_ موكامي لا طفل لها حتى الآن، طفل يقوي ما بينها وبين موثرجا من أواصر!
_ موكامي لا طفل لها تشغف به، تعانقه وتفرح به!
_ موكامي لا طفل لها يخلد ذكري الأرواح الراحلة، أرواح أسلاف رجلها وأرحام أبيها!
يتهامسن... يبتسمن في سخرية وتشف... لم يؤلمها كلامهن الساخر ولا ابتساماتهن، بما تحمل من وقاحة وخيلاء، فهي ما زالت تستحوذ على قلب واهتمام رجلها...
في الموسم الرابع تبدل موثرجا دون سابق إنذار، ومع الأيام هجرها تماماً وهجر كوخها ... أحست بالمرارة... تلح في طلبه... يرفضها... تبكي... تتألم... لم يعد موثرجا الزوج الرقيق الهامس لها في حنو بالحب، عاد موثرجا المحارب، الفلاح الراقص قلبه قساوة، تلك التي بسببها رفض أبوها اقترانه به...

لم يقف الأمر عند حد الهجر والاهمال، تحول إلى العنف والضرب... بدأ ضربها حين رأى كبرى الزوجات تتشاجر معها، واجدا في تهشيم أضلعها متنفسا لكل غضبه المختزن واستيائه وإحباطاته. ومن ثمة اصبح ضربه سلوكا يوميا يكاد أن يفضي بها إلى الموت... بزورها في كوخها في وقت مبكر من كل يوم، وينهال عليها ضرباً دون توضيح للسبب. كان الضرب مبرحاً، يتركها على شفرة الموت ويخرج.
لم تكن تصرخ... تظل مرمية على الأرض تنتظر خروج روحها، في لحظات الموت هاته أدركت كم تعاني زوجاته الأخريات... لقد رأتهن يتعرضن للضرب ويصرخن التماسا للرحمة وما رحمهن...

تمر الأيام، يزداد يقينها أن هذه الدار لاتصلح مكاناً تعيش فيه، ولكنها لا تستطيع العودة إلى موطنها لتواجه مرة أخرى أباها العزيز المسن الحذر دوما... إنها لا تستطيع تحمل خزي العوده إلى بيت أهلها، إلى قريتها...
أخرجها نسيم الليل البارد من شرودها، انسابت على وجهها دموع طال احتباسها وهي تسرع هابطة في ذلك الممر الذي يتلوى داخل الدغل منحدراً إلى الوادي ومخترقاً الغابة.
كان الظلام كثيفا، فشق عليها أن تجد طريقها في متاهة الأشواك والأحراش...
تتساءل:
أيتعاطف معي هذا الجدول الدامع وهذا الشجر الساكن الذي يحيط به، أم يشارك قرية موثوج استنكاره لهروبي...؟
سارت على ضفة الجدول، ثم عبرته عند بقعة أكثر انخفاضاً، بها أحجار تمكنت من الخطو فوقهما.
كانت تحت سيطرة الإحساس بالمرارة والحزن فلم تلحظ الأخطار المحدقة بها، في أرض يلقى فيها بالموتى... ترفرف أرواحهم في الهواء، تمتزج بالأشجار، تتحرش بالغرباء والدخلاء...
كرهت نفسها ونقمت على الدنيا وعلى زوجها... تتساءل:
أ هذا هو الثمن الذي يجب أن أدفعه بسبب تشبتي برجل أحببته بلا خيار... وقدمت له هدية شبابي وجمالي؟.ً
تبكي نائحة من شدة حزنها:
أواه يا أرواح الموتى.. تعالي إلي!
أواه يا مورونجو! يا أيها الرب جيكوبو... !
يا أيتها الإلهة مومبي!
يا من تسكنين كرينياجا العالية، وأنت في كل مكان.
خلصيني من الشقاء؟.
يا أمي الأرض العزيزة ، لم لا تنشقين وتبتلعينني
تماماً كما ابتلعت جومبا- جومبا الذي اختفي تحت جذور الميكونجي؟.
استمرت تستغيث بأرواح الأحياء و الموتى ترجو مجيئها... تحملها إلى مكان بعيد حيث لا يراها أحد ثانية وإلى الأبد .
في غمرة صلاتها اخترف سمعها صوت حزين، مثير للشجن آت من بعيد... ثم انطلقت الريح تهب بعنف.
اختفى آخر نجم، ذاك الذي بقي يرافقها بغرابة شديدة، تركها وحيدة وسط ظلمة الغابة. أحست بلمسة يد على قفاها وجنتيها، يد غير مرئية ولا صاحبها . قفزت من الرعب تصرخ بلا انقطاع، هي التي ما صرخت أبدا من الضرب المبرح الذي أنزل زوجها على جسدها...
الغابة ترجع صدى صراخها... رعب قاتل تملكها... جسدها كورقة عارية يرتعد... تغمض عينيها، تفتحها، ترى عيونا بلا عد تتوهج على طول جدول الماء... وأيادي كثيرة خفية تدفعها إلى الأمام وإلى الخلف... حينها أدركت أنها في أرض الأشباح. تهاوت عل الأرض مغمى عليها... أعاد لها وعيها صياح بوم وزئير ضبع يتردد بعيدا في الأفق... علا الصوت الحزين وازداد اقترابا منها... وكانت السماء تمطر والأرض تحتها تتصدع وتنفلق... أبرقت السماء وقصف الرعد. لمحت من خلال ضوء البرق شجرة بعيدة عنها، شجرة ضخمة، تنحني على جذعها في رقة و إجلال كل أشجار الغابة. أدركت موكامي بحدسها أنها شجرة التين المقدسة، موكويو- مذبح مورونجو البصير...
صرخت من فرح مياغث: ” وأخير هاهو موقع الحرم المقدس”.
نهضت تركض تتحدي المطر والرعد والأشباح. تركض داخل الدغل الشوكي، تصطدم بالأشجار، تهوي على الأرض ثم تنهض... ذهب عنها إحساسها بالعجز، وتبدد قلقها... اختفى من ذهنها الزوج ومعه أهالي مرتفع موهرويني، تلاشت صورهم وانمحت من رأسها ... تلاشى حزنها . صار كل هدفها أن تصل إلى شجرة التين، تحت أغصانها التراب المقدس، أرض الملاذ والطمأنينة أرض إلاهها مورونجو.. رب قبيلتها، وزوجته الإلهة مومبي ربتها...
تركض وتركض رغم ما أصابها من هزال، وقد أحست بتوهج ممتع ولذيذ يسري في حناياها ويتراقص معه رحمها...
هي الآن قريبة من موضع الحرم المقدس، مذبح أعلى العليين ، موضع الخلاص...
تركض تجاه المذبح، لا بل تطير، تشعر أنها خفيفة، كأنها ريشة تدفعها الريح... المطر مازال يهطل...
وصلت البقعة التي تريد لاهثة متقطعة الأنفاس. نامت تحت أذرع شجرة الإله الحانية...
صحت موكامي من نومها تتساءل، أين ذهبت مومبي؟ لقد كانت تقف هنا، وبقربها زوجها الإله مورونجو حين عانقتني قائلة :
” موكامي أنت حبلى من مدة... كيف لم تشعري بذلك... عودي إلى كوخك وزوجك، فأنت أم القبيلة... ”.
ربما كنت أحلم... حلم جميل وغريب!. ولكن لمسة يد مومبي الرقيقة على وجهي لا زلت أشعر بها ...
تلتفت موكامي حواليها تبحث عن مومبي، تبحث عن مورونجو. كان الجو بارداً مظلما، لم تر غير شجرة التوت المقدسة، عتيقة كالزمن، قوية فتية...
تقول، وهي تمسح وجهها بجذع شجرة التين: ياه كم من الأسرار تحتفظين بها؟!... ” يتردد داخل رأسها صوت الربة مامبو: عودي إلى كوخك وزوجك، فأنت أم القبيلة...
تجيب، "سأعود إلى القبيلة...هناك بجوار زوجي وسط الزوجات الأخريات، متماسكات نساند القبيلة، نمنحنها حياة جديدة، مثلها قلت بالحرف..,"

ثم استغرقت في النوم من جديد...
كانت الشمس ترتفع في المشرق وخيوط الضوء تتخلل الغابة، تنفذ إلى حيث كانت موكامي متكئة على الشجرة. مست بشرتها خيوط الضوء الشاردة،جرى الدم في عروقها وانتابها إحساس بهيج، إحساس سرى في كل جسدها،
صاحت قائلة:
_ واه واه …! أشعر بالدفء...! وبالسعادة تتراقص منها روحي... أنا حبلى، حبلى من مدة ولم أشعر ...
تتحسس بطنها... تجد مكان الرحم متفخا قليلا...
_ آه صحيح أنا حبلى، حبلى من مدة ولم أشعر ... لم أشعر بسبب الخوف والقهر
حذقت في الفضاء تتساقط على وجنتيها دموع امتنان وخشوع عميقين، رأت ما وراء الغابة وما وراء جدول الماء رأت أهل مورهوريوني، رأت ضراتها... رأت رجلها فتياً قوياً يقف بينهن ...
” يجب أن أمضي” قالت
تحركت عائدة و ما زالت شجرة التين منتصبة في صمت... ضخمة... يكتنفها الغموض.

نغوغي وا ثيونغو / كينيا


* نقلا عن:
الزوجة الخامسة قصة قصيرة للكاتب الكيني نغوغي وا ثيونغو

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى