محمد سعيد العريان - أزمة الثقافة!

في مصر أزمة ثقافية شديدة، يحسها في هذه الأيام كل قارئ وكل ذي فكر وبيان. . .

إن الكتاب الجيد لا يكاد يطبع منه الآن أكثر من بضعة آلاف نسخة، في بلد يقولون ن عدد القارئين الكاتبين فيد يزيد على خمسة ملايين، وإن عدد طلاب العلم في معاهده يبلغ نحو مليونين؛ بل إن هذه الآلاف القليلة التي تطبع من الكتاب الجيد لا تكاد تنفذ في أقل من عامين، وأكثر من نصف الذين يقبلون عليها ليشتروها لا يشترونها ليقرءوها، بل لأنهم تعودوا أن يشتروا كل كتاب جيد، أو كل كتاب للمؤلف الذي يفضلونه.

فهل يبلغ عدد قراء الكتاب الجيد في سنته الأولى على هذا الأساس أكثر من بضع مئات؟ فلمن يكتب الكاتبون ويتحدث أصحاب الفكر والبيان إذا كان قراؤهم لا يزيدون على بضع مئات في شعب يزيد تعداده على عشرين مليونا ويصفه من يصف من أهل السياسة بأنه شعب ناهض؟.

الحق أنها أزمة ثقافية شديدة، تدل على مبلغ القطيعة بين هذا الشعب ومفكريه، المتفانين في الحديث عن نهضة هذا الشعب. وأني لأعلم علم اليقين أن حديثي هذا لن يرضي بعض السياسيين ولا بعض الأدباء، بل لعله خليق أن يغضب كل السياسيين وكثيرا من الأدباء؛ ولكني لا أبالي بمن يغضب ولا من يرضي من هؤلاء وأولئك؛ إذ كنت لا أقول إلا الحقيقة التي اعتقدتها ويعتقدها في مصر كل ذي فكر وبيان. . .

إننا نعيش في بلد أمي، أمية مطلة تشمل 999 من كل ألف، على رغم الإحصائيات التي تذيعها وزارة معارفنا في كل عام. . .

إن على رأس وزارة المعارف اليوم في مصر وزيرا له مذهباً في التعليم يقوم على أساس (الكيف) قبل (الكم). وما أحلى هذا العنوان لو كان له مدلول يعبر عن شيء من الواقع؛ ولكن ذلك الواقع يعبر تعبيرا أصدق عن الأمية الحقيقية المطبقة علينا كماً وكيفاً وموضوعاً؛ فليس في مصر اليوم خمسة ملايين قارئ كما يقول في بعض الأحاديث، ولا خمسة آلاف، بل قد يكون من الإسراف في حسن الظن أن نزعم أنهم قد يبلغون خمسمائة. . . وقد أوضحت برهان ذلك في بعض ما سبق!.

إن القارئ الكاتب الذي يصح أن يوصف بأنه قد خرج من نطاق الأمية، ليس هو (المتعلم) الذي اكتسب بالتعليم قدرة على أن يقرأ وأن يكتب، ولكنه القارئ الحقيقي الذي تعود أن يقرأ منذ اكتسب بالتعليم القدرة على أن يقرأ. إنه القارئ بالفعل لا بالقوة. فأين من متعلمينا أولئك القراء الحقيقيون؟ وكم يبلغ عددهم؟ على هذا الأساس ينبغي أن يقوم الإحصاء إن كنا نريد برهانا صحيحاً على أننا نعيش في شعب ناهض، وهو برهان لم نزل نلتمسه فلا نكاد نصل إليه، ولا نأمل أن نصل إليه في وقت قريب، لا بالكم ولا بالكيف، ما دمنا لا نلتمس السبيل إليه من بابه. . .

هذا، وقد كان عدد المتعلمين في مصر منذ ربع قرن لا يتجاوز المليون، ولكني أزعم - وتحت يدي من البراهين ما يؤيدني - أن مصر في ذلك التاريخ كانت أبعد عن الأمية مما هي اليوم؛ فقد كان في مصر من القراء الحقيقيين أكثر ممن فيها الآن وقد بلغ عدد (المتعلمين) خمسة ملايين. . . لقد كان فيها قراء من كل الطبقات يتابعون إنتاج طه حسين، والعقاد، وهيكل، والمازني، والرافعي، وشوقي، وحافظ، ومطران، وغير هؤلاء من ذوي الفكر والبيان، ويتتبعون ما تخرجه المطبعة العربية من كتب الأدب والفن للمحدثين والقدماء؛ ثم يتناولون كل ما قرءوا من ذلك بالنقد أو بالحديث في المجالس الخاصة أو في المجالس العامة أو في الصحف والمجلات. وقد يغلون في ذلك غلوا يقسم القراء إلى معسكرات متقابلة ينتصر كل منها لرأي أو لصاحب رأي، انتصاراً رفيقاً يبدو في أنواع هادئة من الجدل، أو انتصاراً عنيفاً يبدو في بعض المعارك التي كانت تنشب بين تلك المعسكرات فلا تكتفي بالجدل الهادئ دون تناول الموضوع المختلف عليه من حيث صلته بالدين أو بالسياسة أو بالأمور الشخصية. . .

كذلك كان الحال وعدد (المتعلمين) في مصر لا يزيد على المليون؛ فكم قارئا من الملايين الخمسة (المتعلمين) اليوم يتابع إنتاج أهل الأدب والفكر كتاباً كتاباً وموضوعاً موضوعاً ورأياً راياً على اختلاف جو القول والعمل، ليعرف أين يمضي بنا أهل الأدب هؤلاء، أو كيف تتطور بهم الحياة على اختلاف الأجواء التي يقولون فيها ويعلمون ويعيشون؟ وكم قارئا منهم يتتبع ما تخرجه المطبعة العربية من كتب القدماء والمحدثين فيتناوله بالنقد أو بالحديث؟.

وكان في مصر قبل ربع قرن أدباء منقطعون لفنونهم، منهم صاحب وظيفة لا يوصف بها وإنما يوصف من يوصف منهم بالأدب وحده، وقد يكون لبعضهم أو لكلهم مرتزق آخر يعيش من فيضه، ولكنه شأن من شئونه الخاصة لا يتراءى له ظل واضح على ما ينتج من فنونه ولا يدخل في حكم النقاد حين يتناولون ما ينتج من تلك الفنون؛ فكان ذلك نوع من الإيمان بالأدب يرتفع به عن مستوى نراه قد انحدر إليه الآن ويوشك أن يلوث بعض الأدباء ببعض وحل الطريق!.

هي إذن أزمة شديدة تتصل بالمنتجين وبالمستهلكين جميعاً، ويوشك أثرها أن يمتد إلى حياتنا العامة ويتغلغل ويؤدي إلى نتائج بعيدة المدى. . .

ولا أريد أن أسترسل في وصف ما ينتظر أن يكون لو مضت بنا هذه الأزمة إلى غايتها؛ ولكني أريد أن أتتبع أسباب هذه الأزمة من حيث نشأت.

وأول ما أعرف من هذه الأسباب أن المدرسة المصرية اليوم لا ترى من واجبها أن تعلم تلاميذها القراءة، مكتفية بتعليمهم (فك الخط) وفرق ما بين فك الخط والقراءة بعيد جداً، كالفرق بين الأمية والثقافة، أو كالفرق بين درس في السباحة في حجرة الدراسة أو في فناء المدرسة، ودرس آخر يتعلمه بالسبح في البحر الهائج ولو لم يكن معه معلم ولا رائد. وأنا لست أعرف ولا أظن أحدا غيري يعرف سابحا اكتفي في تعلم السباحة بقراءة كتاب ثم ألقي بنفسه إلى البحر يتحدى أمواجه!.

لقد زعموا في الفكاهة أن ثرياً من أثرياء الحرب قصد إلى طبيب ليصنع له نظارة للقراءة، فضبط الطبيب مقاييسه وألقى أضواءه واختبر الجفن والحدقة والقاع والعصب، ثم دفع إلى الرجل النظارة التي طلبها وهو لا يشك أنه سيقرأ بها؛ فوضعها الرجل على عينيه ثم تناول صحيفة من الصحف وهم أن يفك خطوطها ولكنه لم يستطع أن يقرأ حرفاً، فرد النظارة إلى الطبيب مغضباً لأنها لم (تعلمه) القراءة ولم تنقله من أميته العريقة إلى مستوى القارئين الكاتبين.

ما أشبه ذلك الثرى الأمي الذي زعم أن (نظارة القراءة) يمكن أن تنتشه من وهدة الأمية، بالمدرسة التي تكتفي من تعليم القراءة والكتابة بتعويد تلاميذها أن يرسموا الحروف الهجائية وأن تتحرك ألسنتهم بأصواتها معريين، ثم تزعم أنها علمت كذا وكذا ألفا فأصبحوا من القارئين الكاتبين.

إن هؤلاء الآلاف الذين غادروا المدرسة (متممين واجباتهم) ليسوا خيراً من الآلاف الآخرين الذين تخلفوا عن موكب العلم فلم يدخلوا مدرسة ولم يتلقوا العلم على معلم؛ لأن هؤلاء وأولئك أميون بالمعنى العام، لا يمحو وصمة الأمية عن بعضهم أنهم (يستطيعون) أن يقرءوا، ما داموا لا يقرءون بالفعل؛ ولا يستخدمون (نظارة القراءة) التي منحتهم إياها المدرسة في النظر إلى كل صفحة مكتوبة تقع تحت أعينهم!.

إن القراءة في المدرسة المصرية ليست إلا (أصواتاً) تتمرن عليها حناجر التلاميذ وأشداقهم وألسنتهم في دروس المطالعة، ثم لا شيء بعد ذلك. والتلميذ الذي يبلغ درجة النجاح في الدروس القراءة هو التلميذ الذي يحسن أن (ينطق)، وأن يرتفع صوته في موضع وينخفض في موضع، وأن يضع حركات الإعراب في مواضعها من أواخر الكلمات أو من أواسطها؛ وقد يغلو بعض المعلمين بعد ذلك فيسأل تلميذه تفسير عبارة، أو تلخيص جملة أو نقد كلمة، أو ذكر نظير؛ ولكنه لا يمكن أن يذهب في الجرأة إلى أبعد من ذلك فيدفع إليه كتابا يقرؤه وحده ليناقشه في موضوعه بعد ذلك. ولو أن معلما من المعلمين ذهب في الجرأة إلى هذا الحد، لأحيل إلى إحدى لجان التأديب، أو لجان التطهير، متهماً بترويج كتاب غير مقرر للقراءة!.

هذه القاعدة التي تأخذ بها وزارة المعارف المصرية معلميها في المدارس ويأخذ بها المعلمون تلاميذهم، قد أحذ بها التلاميذ أنفسهم، فلم تتهيأ لهم الفرصة ليعرفوا أن (القراءة) شيء غير تلك الأصوات المنغمة التي تتفق مع قواعد النحو، فلم يحاولوا أن يقرءوا، وكان ذلك أول أزمة الثقافة!.

وثمة سبب آخر وثيق الصلة بهذا السبب الأول، هو أن المدرسة المصرية - أيضاً - تكاد تغرس في نفوس تلاميذها أن العلم هو ما يتعلمون فيها، وهو كل ما يحتاجون إليه ليكونوا مثقفين، فليس وراء ما تعطيهم من ذلك العلم غاية لمستزيد؛ فالتاريخ كله في كتب التاريخ المقررة، والأدب كله في كتاب النصوص، والشعر خير الشعر هو ما قرءوه في تراجم الشعراء. وقل مثل ذلك في كل فنون لمعرفة، حتى ليكادون يحصرون علم الكون كله في كتب الصوت والضوء والكهربا التي يؤدون فيها امتحانهم آخر العام!.

وأذكر - على خجل شديد - أن معلما من معلمي المدارس المصرية، لقبني ذات يوم وأنا أقرأ كتاباً حديثاً في الجغرافيا، فأنكر مني ما رأى، وأبدى دهشته لأنني وقد أتممت تعليمي - فيما يزعم - منذ بضع وعشرين سنة، لم أزل بحاجة إلى قراءة كتاب جديد في الجغرافيا.

ومما أعان على إنشاء هذه العقيدة في نفوس بعض المتعلمين من شبابنا، فكرة (الكتاب المقرر) التي لم تزل المدرسة المصرية تأخذ بها؛ فللطبيعة كتاب مقرر، وللكيمياء كتاب مقرر، فليس يسوغ للمعلم ولا يتأنى للتلميذ أن يستعين في مادة من مواد العلم بغير الكتاب المقرر لها، إلا على حذر ورقبة، خشية الاتهام بالخروج على الطاعة أو الاتهام بقصد الاستغلال؛ فنشأ من ذلك الاعتقاد أو شبه الاعتقاد بأن العلم كله في تلك الكتب، وليس في غيرها من الكتب إلا فصول من العلم ليس فيها كبير غناء!.

وهناك سبب ثالث يتصل أوثق اتصال بالسببين السابقين، هو اعتقاد أو شبه اعتقاد في نفوس المعلمين بأن مهمة المدرسة هي التعليم، أي إعطاء العلم؛ وهذا خطأ كبير، يجب أن يزول من نفوس المعلمين ليزول بعد ذلك من نفوس تلاميذهم؛ فإن زمن المدرسة محدود، ضيق أشد الضيق: ساعات في اليوم، وأيام في الأسبوع، وأشهر في السنة، وسنون قليلة من عمر الشباب؛ والعلم شيء كبير، واسع كل السعة، ليس له حدود ولا قيود، وهو لم يزل يزيد كل يوم ويتجدد، فينسخ الجديد القديم، ويصير علم الأمس جهلاً وغفلاً وسذاجة؛ فكيف تتسع المدرسة في نطاقها المحدود ووقتها الضيق لاستيعاب ذلك العلم الواسع المتجدد؟.

ولو أن معلمي المدرسة وتلاميذها قد آمنوا كما نؤمن بأن مهمة المدرسة ليست هي إعطاء العلم بل تمهيد الطريق إليه، لحملهم الإيمان بهذه الحقيقة على الاستمرار في طلب العلم بالقراءة المتصلة بعد الخروج من المدرسة، وعلى متابعة الجديد في الأدب والعلم والفن بالاطلاع الدائب. . .

فالمدرسة المصرية إذن هي السبب الأول لهذه الأزمة الشديدة التي تحس آثارها في أنفسنا وفيما حولنا، ولكنها ليست هي كل السبب؛ فهناك أسباب أخرى مساعدة كان لها أثر كبير في إحداث هذه الأزمة، ولعلنا نعرض لها في حديث تال. . .

محمد سعيد العريان


مجلة الرسالة - العدد 1021
بتاريخ: 26 - 01 - 1953

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى