إدورد وليم لين - 34 - المصريون المحدثون شمائلهم وعاداتهم في النصف الأول من القرن التاسع عشر - عدلي طاهر نور

تابع الفصل الحادي عشر - (الخرافات)

هناك شعائر درويشية كأشكال الدعاء، وطرق الذكر لا يراعيها غير طوائف خاصة، كما توجد شعائر أخرى تقوم بها الطوائف المختلفة. ونذكر من هذه طقوس (الخلوتية) و (الشاذلية) وهما فرقتان كبيرتان لكل منهما شيخ. والفارق الرئيسي بينهما أن لكل منهما أسلوبه الخاص في الأدعية التي يرددونها صباح كل يوم، وأن السابقين يتميزون عن الآخرين بالخلوة أحياناً، ومن ثم سموا خلوتية. وهؤلاء يتلون دعاءهم قبل الفجر ويسمى (وِرْد السحر) أما دعاء الشاذلية فيقرءونه بعد الفجر ويسمى (حزب الشاذلي). وقد يعتكف الخلوتي أربعين يوماً وليلة في خلوته صائماً، من بزوغ الفجر إلى غروب الشمس طول هذه المدة. ويعتكف جماعة منهم أحياناً في خلوات مسجد الشيخ الدمرداش شمال القاهرة ثلاثة أيام وليال بمناسبة مولد هذا الولي، ولا يتناولون أثناء ذلك غير قليل من الأرز وكوبة من الشراب عند المساء. ويشغلون أنفسهم بقراءة أدعية لا يعرفها غيرهم؛ ولا يخرجون من الخلوة إلا للصلاة جماعة في المسجد، ولا يجيبون أبداً من يكلمهم إلا بقولهم: (لا إله إلا الله). ويتبع هذا النظام تقريباً أولئك الذين يعتكفون مدة الأربعين يوماً فيقضون الوقت مرددين الشهادة سائلين العفو حامدين الله.

يكاد دراويش مصر جميعهم أن يكونوا تجاراً أو صناعاً أو مزارعين. وهم لا يحضرون طقوس بعضهم إلا مصادفة؛ غير أن بعضهم لا عمل له غير الذكر في الموالد والحفلات الخاصة والإنشاد في الجنازات. ويطلق على هؤلاء لفظ (فقير)؛ ومعنى ذلك المعوز عامة، إلا أنه يطلق على الأتقياء المساكين خاصة. ويعتاش البعض من تقديم الماء إلى المارة ف شوارع القاهرة وزوار الأعياد الدينية. فيحملون الماء على ظهورهم في أباريق من الفخار أو من جلد الماعز. والقليل منهم يسلكون حياة التجول ويعيشون على الصدقات بلجاجة ووقاحة شديدتين. وبعض هؤلاء يميزون أنفسهم على طريقة الأولياء المشهورين بلبس (الدلق) أي السترة المرقعة، وحمل العصا المعلق في أعلاها قطع النسج المختلفة الألوان، ويلبس البعض الآخر ملابس غريبة مختلفة الألوان

ويتخذ بعض الرفاعية ممن لا يحترفون إخراج الثعابين من المنازل، حياة التجول في بلاد القطر مستفيدين من خرافة مضحكة أذكرها الآن: كان سي داود العزب وهو ولي مبجل من بلدة تفاهنه في الوجه البحري يملك عجلاً يقوم على خدمته. فتعود بعض الرفاعية منذ وفاته تربية العجول في بلدة هذا الولي أو مدفنه وتمرينها على صعود السلم والاضطجاع عندما تؤمر بذلك، ثم يذهب كل منهم وعجله متجولاً في البلاد لجمع الصدقات. ويسمى العجل (عجل العزب). وقد دعوت مرة أحد هؤلاء الدراويش إلى منزلي. وكان العجل - وهو الوحيد الذي رأيته - جاموساً يتدلى منه جرسان، أحدهما في طوق حول عنقه، والآخر في حزام حول جسمه. وقد صعد السلم جيداً، إلا أنه أظهر ضعف مرانه من كل الوجوه. ويعتقد العامة أن عجل العزب يجلب إلى المنزل لبركة الولي الذي سمى هذا الحيوان باسمه

وفي مصر دراويش جوالة من الترك والفرس، والى هؤلاء الدراويش تنسب صفة اللجاجة والوقاحة أكثر مما تنسب إلى القلائل من المصريين الذين يعيشون معيشتهم. ويحدث كثيراً في شهر رمضان خاصة أن يذهب درويش أجنبي إلى مسجد الحسين الذي يتردد إليه كثير من الترك والفرس، وقت صلاة الجمعة فيمر بين المصلين عندما يخطب الخطيب ويضع أمام كل امرئ قصاصة من الورق كتب عليها بعض كلمات تحث على الصدقة. وبهذه الطريقة يتناول من المصلين كلهم أو غالبهم قطعاً من ذوات الخمسة فضة أو العشرة فضة أو أكثر. ويحمل الكثير من دراويش الفرس في مصر ملعقة خشبية وطاسة مستطيلة من جوز الهند أو من الخشب أو المعدن حيث يتناولون الصدقات ويضعون الطعام. ويلبس أغلب الدراويش الأجانب ملابس خاصة تبعاً لطوائفهم. وأهم ما يميزهم لباس الرأس، وأكثر أنواعه شيوعاً ما صنع من اللبد على شكل قالب السكر المخروطي. وتتكون ملابسهم الأخرى من صدرية وسروال واسع أو آخر ضيق، أو قميص وحزام، وعباءة غليظة.

ويتظاهر الفرس هنا بأنهم سنيون. ويعتبر الأتراك أكثر الطائفتين إزعاجاً ولجاجة. وأذكر هنا خرافة أخرى هي اعتقاد المصريين والعرب عامة بأن للطيور والحيوانات لغة تتفاهم بها وتسبح بحمد الله

ومن أهم المميزات في خرافات المصريين المحدثين اعتقادهم بالتمائم والاحجبة التي يستند أكثرها على السحر، ويشتغل بكتابة هذه التعاويذ أحياناً جميع مدرسي الكتاتيب القروية تقريباً. على أنه قلما يدرس من يقوم بهذا العمل شيئاً من السحر أكثر من الحصول على بعض صيغ من الاحجبة يتألف معظمها عادة من آيات قرآنية وأسماء الله مع أسماء الملائكة والجن والرسل، أو الأولياء المشهورين يختلط بها تركيبات عددية وأشكال هندسية ويتوهم الناس أن ذلك كله خاصية خفية عظيمة

وأكثر الاحجبة اعتباراً مصاحف القرآن، وقد جرت العادة أن يحمل أتراك الطبقتين الوسطى والعليا وغيرهم من المسلمين مصحفاً صغيراً في غلاف من الجلد المزركش أو المخمل يعلقونه على الجانب الأيمن بخيط من الحرير يمر فوق الكتف الأيسر. غير أن هذه العادة لم تعد شائعة كثيراً. وقد لاحظت أثناء زيارتي الأولى أنه قلما يرى تركي فاضل من السلك الحربي لا يحمل الغلاف السابق ذكره، مع أنه كثيراً ما لا يحوي حجاباً؛ ولا يزال النساء يحملن المصحف وغيره من الاحجبة، فيضعنها في أغلفة من الذهب أو من الفضة المذهبة أو الساذجة. ويعزو المسلمون إلى المصحف وأكثر الاحجبة قوة كبيرة، ويعتبرونها حافظة من المرض والسحر والحسد وغير ذلك من البلايا

وهناك كتاب أو دَرج يجيء بعد المصحف مكانةً به سور قرآنية تكون في العادة سبعاً كسور: الأنعام والكهف ويس والدخان والرحمن والملك والنبأ أو غيرها. ويوجد حجاب آخر يوضع عادة داخل غطاء الرأس، ويعتقد أنه يقي حامله من الشيطان ومن كل جن شرير. وهذا الحجاب قطعة ورق كتبت عليها الآيات التالية: (ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم): (سورة البقرة آية 255)؛ (فالله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين): (سورة يوسف آية 64)؛ (يحفظونه من أمر الله): (سورة الرعد آية 11)؛ (وحفظناها من كل شيطان رجيم): (سورة الحجر آية 17)؛ (وحفظاً من كل شيطان مارد): (سورة الصافات آية 7)؛ (وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم): (سورة يس)؛ (والله من ورائهم محيط بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ): (سورة البروج الآيات 20، 21، 22). وكثيراً ما تكتب أسماء الله التسعة والتسعون، في ورقة يحملها الشخص، فتجعله كما يعتقد محلاً خاصاً لرعاية هذه الصفات الكريمة جميعها. ويعتقد كذلك أن كتابة أسماء الرسول التسعة والتسعين على أي شيء تكون حجاباً كما روى الإمام علي عن النبي (ص) يبعد كل مصيبة ووباء ويحفظ من الضعف والحسد والسحر والحريق والدمار والقلق والحزن والضيق. ويضيف المسلم بعد ذكر كل من هذه الأسماء قوله: اللهم صل وسلم عليه. وتنسب مثل هذه الخصائص إلى حجاب يتضمن أصحاب الكهف واسم كلبهم. وتنقش هذه الأسماء أحياناً في قاع طاسات الشراب، وغالبا على صينية الطعام المستديرة من النحاس المبيض. وهناك حجاب آخر يظن أن له تأثيراً مماثلاً. ويتألف هذا الحجاب من أسماء مخلفات النبي وهي تتألف من سبحتين ومصحف في أجزاء غير مرتبة، ومكحلة وسجادتين ورحا وعصا وسواك وحلة والإبريق الذي كان يستعمله النبي صلعم للوضوء، ونعل وبردة وثلاث حصر ودرع ورداء طويل من الصوف، وبغله الأبيض (الدلدل) وناقته (العضباء). وتكتب أيضاً بعض الآيات القرآنية على قصاصات من الورق يحملها الناس وقاية من الشرور، واستشفاء أو اكتساباً للحب والصداقة الخ. ويحمل الكثير من المصريين المحدثين رجالاً ونساء وأطفالاً هذه الاحجبة وغيرها من أغلفة من الذهب أو الفضة أو القصدير أو الجلد أو الحرير الخ.

ومن الشائع أن ترى الأطفال المصريين يحملون احجبة ضد الحسد داخل غلاف مثلث الشكل يعلق في أعلى غطاء الرأس. وكثيراً ما يعلق على الجياد معلقات مماثلة. ويتقي المصريون الحسد بشتى الاحتياطات ويسعون قلقين لدفع نتائجه الوهمية عنهم. وقد يعبر البعض عن إعجابه بشيء إعجاباً يعتبر غير لائق فيعنفه من أزعجه هذا بقوله: (صلي على النبي) فإذا امتثل الحاسد وقال: (اللهم صلي عليه) لا يخشى شر. ومن غير اللائق أيضاً أن يعبر الشخص عن إعجابه بآخر أو بأي شيء لا يملكه بقوله: (يا سلام) (ما أجمله) ويستحسن في مثل هذه الأحوال أن يقول: (ما شاء الله) التي تشير إلى الإعجاب والخضوع لإرادة الله أو الرضا بها. فكثيراً ما يكون الأجدر بالمبدي إعجابه أن يقول ما شاء الله ويصلي على الرسول.

وقد بينت في الفصل الثاني من هذا الكتاب خوف نساء مصر من أثر الحسد على أولادهن.

والعادة في هذا البلد أن يقول من يحمل ولد غيره بين ذراعيه: بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صلي على سيدنا محمد، ثم يقول ما شاء الله. والشائع أيضاً أن يقول المصري عندما يبدي إعجابه بصبي: (أعوذ برب الفلق لأجلك) مشيراً إلى سورة الفلق التي تنتهي بالتعوذ من شر الحسد. وقد ينظر بعض الناس إلى طفل أو يلوح أنه يحسده فيعمد الوالدان أحياناً إلى قطعة من أطراف ملابسه فيحرقانها مع قليل من الملح. ويضيف البعض إلى ذلك الكزبرة وحجر الشب الخ ويبخران الطفل بالدخان ويذران عليه الرماد، ويجب عمل هذا على ما يقال قبيل الغروب عندما يحمر قرص الشمس

ويستعمل المصريون الشب كثيراً لمنع أثر الحسد، فيضعون على الجمر قبيل الغروب قطعة منه بحجم الجوزة تقريباً حتى تنقطع عن الفوران، ويتلو من يقوم بهذا العمل أثناء احتراق الشب الفاتحة والسور الثلاثة الأخيرة ثلاث مرات. ويبدو كما قيل أن الشب عندما ترفع من النار تتخذ شكل الحاسد، ثم يسحقها ويمزجها بقليل من الطعام يرميه إلى كلب أسود ليأكله. وقد شاهدت هذه العملية يقوم بها رجل ظن أن امرأته نظرت إليه نظرة حاسدة. وقد اتخذت قطعة الشب وقتئذ شكلا يشبه شكل النساء كثيراً فقرر الرجل أنه وضعٌ خاص تعودت عليه امرأته. إلا أن الشكل الذي يتشكل به الشب يكاد يتوقف على ترتيب الجمر ومن الصعب أن يكون هذا الشكل بحيث لا يرى فيه الخيال بعض الشبه بالإنسان - وهناك طريقة أخرى يتوهم الناس أنها تدفع تأثير الحسد وهي أن توخز قطعة من الورق بإبرة ويقول المواخز هذه عين فلان الحاسد. ويعتبر الشب حجاباً ناجعاً ضد الحسد. وقد يعلق الناس أحياناً قطعة من حجر الشب مسطوحة ومزينة بشراريب في أعلى غطاء رأس الطفل. وتستعمل الأصداف والخرز بالطريقة نفسها وللغرض نفسه. وهناك أصداف صغيرة تعتبر واقية من الحسد خاصة تعلق في عدد الجمال والجياد وغيرها من الحيوان وعلى غطاء رأس الأطفال أحياناً. ولاشك أن هذه المعلقات يقصد بها جذب العين فتمنعها من رؤية الشيء المراد حفظه من الحسد

عدلي طاهر نور

مجلة الرسالة - العدد 465
بتاريخ: 01 - 06 - 1942

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى