محمد برادة - في الربيع

كان شتاء يدلف إلى أيامه الأخيرة، والأمطار قد خفت وطأتها، والرياح تعزف لحنا حزينا، وسحب دكناء تغلف السماء، والطبيعة رغم الصمت الذي يلفها، يوحي إليك مرآها أنها تتأهب لاستقبال موسم جديد.
لم يكن المساء قد حل عندما كنت واقفا في حديقة البيت مستندا إلى فرع شجرة توت.. ولم يكن في البيت إلا ((أم عبده)) والدة الفراش، وكنت ألمحها من بعيد وهي تتوضأ لتصلي المغرب. وكان الكلب تستشيره أصوات الرياح، فيندفع صوب الباب، ولكنه سرعان ما يتبين خطاه فيعود ليقعد بجانبي.
كنت أحاول ألا أفكر في شيء، وأن أنسى عالمي الخاص، وأظل مستغرقا في هذه الصورة الكئيبة للطبيعة، ولكن نفسي لم تكن تقل عنها كآبة وحزنا.
كان الحب لم يعرف بعد طريقة إلى قلبي، ولم يتسلل طيفه إلى حناياي ليوقظ فيها البهجة والانطلاق.. كان الحب بالنسبة لي ملاكا جميلا، نصبت له محرابا في فؤادي، ورحت أنشد على مسامعه الأنغام والصلوات... ولكن انتظاري طال، بلغت العشرين من عمري ولقائي بهذا الحب لم يتم، فهل هو وهم وخيال؟؟ لطالما انتظرته عند كل فصل ربيع، إنهم يقولون أن الربيع موسم الحب، ولكن، كم ربيعا مر دون أن يهبني الحب، لاشيء غير الحسرات.. هو ذا الربيع يعود وأنا لازلت أمني النفس بلقاء معه.. لابد من الحب لأجرب مفعول هذا الساحر العجيب، إني أشعر بقلبي يكاد يعلوه الصدى، وأخشى أن يضل الحب طريقه إليه فيتجمد ويتحول عن وظيفته. إني لا أستطيع أن أستقبل شتاء آخر وأنا خالي الوفاض من الذكريات. ((يا ويله من لم يحب، وكل الزمان حوله شتاء)).
وانتشلتني من خواطري ضحكات الطفل ((فؤاد)) وهو يتأرجح في مشيته متجها نحوي، كان في عامه الثاني، وحيد أبويه، وقد أتوا من الحجاز ليقضوا بضعة أشهر، وأجروا الجزء العلوي من المنزل.
وأقبلت على الطفل كالعادة أرفعه بين يدي وأقبله وأغريه بالتلفظ بكلماته المبهمة وهو يحاول أن يعبر عن شيء ما. وبعد لحظات تناهى إلى سمعي صوت رقيق يهتف:
ـ فؤاد .. فؤاد أين أنت؟؟ .
ورفعت رأسي مندهشا، فلم يكن الصوت الذي سمعته يشبه صوت المربية التي كنت أعرفها. ورأيت فتاة تقترب وهي تصطنع الخفر، فقلت لا بدد الارتباك الذي بدا عليها:
ـ أهلا وسهلا، أشرقت الأنوار.
ـ ناولني فؤاد من فضلك فموعد أكله قد حان
ـ وتذهبين هكذا دون أن أتعرف عليك؟
ـ سأنزل بعد قليل..
قالتها وهي تبتسم، فناولتها الطفل مثبتا نظراتي في عينيها وقد لفتني فيهما شيء غير عادي. كانت عيناها من النوع الذي يكفي أن تنظر إليه فينقلك إلى أجواء بعيدة.. إلى بحيرة ساجية تنعكس عليها ظلال الزيزفون.. العيون التي تستشعر فيها ألما كامنا، ولكنه ليس بالألم الذي يهد صاحبه، وإنما هو أشبه بالندب الذي تخلفه معركة الحياة طابعا يسم الشخص بالعناد والمجالدة.
لم يكن ملبسها يوحي بمظهر ترف يجعلني أظنها واحدة من الأسرة الحجازية. ولم تكن حداثة سنها تسمح بأن أعتبرها مربية جديدة.. وظللت هكذا يتأكلني الشوق لمعرفة حقيقة صاحب هاتين العينين الدعجارين ذات الأهداب الوطف.
وبخطى وئيدة اقتربت من المقعد، وركزت بصري في الطابق العلوي أتسمع الحركات مستبطئا نزولها كنت متأكدا أنها وحدها مع الطفل، فقد اعتاد الأب والأم أن يرجعان إلا عند ما يوغل الليل. ورأيتها في الشرفة وهي تداعب ((فؤاد)) فأشرت إليها أن تسرع بالنزول.
كانت الظلمة قد انتشرت، وأشعلت مصابيح الشارع فاستطالت خيالات الأشجار. وكانت هي ((سميرة)) واقفة بجانبي تترصد حركات الطفل وهو يلعب فوق حشائش وتحدثني في نفس الوقت. أخبرتني أنها أتت لتنوب عن أمها في مهمتها لبضعة أيام، وهي غير متعلمة، ولها أخوان في الجامعة، تشتغل هي وأمها لتوفرا لهما ما يحتاجون إليه...
واكتشفت فيها شيئا آخر، وعذوبة متناهية في الصوت، فكنت أمطرها سيلا من الأسئلة عن أتفه الأشياء فتفيض في الحديث غير ناسية التفاصيل، وأنا أتلذذ بموسيقى صوتها. وانتبهت إلى أنها لا زالت واقفة، فأمسكت يديها وأشرت لها أن تقعد بجانبي، ثم أجلست ((فؤاد)) بيننا وقد بدا عليه التعب. كانت يدها دافئة فاحتفظت بها بين يدي... واستمرت في حديثها، ولم أكن أنتبه إلى ما تقوله بقدر انهماكي في الاستماع لنغمات صوتها. وكانت تنتقل من موضوع لآخر سواء وجدت رابطة أم لم توجد. وسمعتها تتكلم عن الحب، قالت أنها أحبت منذ سنة أحد أصدقاء أخيها، أحبته حتى العبادة، وبادلها نفس الشعور، وأبدى استعداده في أن يتقدم لخطبتها، ولكنها رفضت، أعلنت له رغبتها في عدم التزوج به، وعندما أسألها عن السبب، أجابته: ـ لأني أحبك.
ولفت نظري جوابها الغريب، فسألتها عن المصدر الذي استقلت منه فلسفتها هذه، فأجابت:
ـ أنه مجرد شعور داخلي.. يخيل إلي لو تزوجت ذلك الذي أحببته لانطفأت جذوة العشق في قلبينا.
وانتبهنا إلى أن الطفل قد داعبه الكرى فعلت وجنتيه حمرة خفيفة، وارتسمت على شفتيه ابتسامة رقيقة.. وفي نفس اللحظة أحنى كل منا رأسه ليقبل ((فؤاد)) فتقارب وجهانا، وشعرت بأنفاسها تلفحني، ودون شعور أمسكت بذقنها وأهويت على شفتيها بقبلة عميقة جدا.. فقد كنت أقبلها بشفتين شققهما الظمأ، وعاشا في الحرمان عشرين سنة.
وعند كل مساء أجدني أتملص من كل المواعيد والأصدقاء لأذهب إلى مقعد الحديقة في الركن القصي، منتظرا قدومها ومعها الطفل ((فؤاد)) وفي كل مرة كنا نجد موضوعا تحدثني فيه بصوتها العذب، ولم تكن تحكي فقط، بل كانت تعيش كل ما تقصه علي، كل جارحة فيها تشارك في إخراج حكاياتها... وكانت شيئا يتسلل إلى قلبي، ولم أستطع حتى الآن أن أجد له إسما دقيقا.. حقيقة أنني كنت أشعر بسعادة تغمرني فتجعلني أتمنى في قرارة نفسي لو أن الزمن يبطئ، فهل هذا ما سمونه الحب؟ أم أن مجرد ((الفراغ)) الذي كنت أعيش فيه هو الذي جعلني أحس هذا الإحساس؟ إذن فكل واحدة غيرها في تلك الفترة كان من الممكن أن تخلق في نفسي مثل ذلك الشعور
وذات صباح وأنا ذاهب إلى الكلية، وجدت ((سميرة)) واقفة عند الباب، فسألتها عن وقفتها غير المعتادة، فأجابتني:
ـ إني أنتظرك لأودعك.
ـ تودعنني؟
ـ نعم فقد تخاصمت مع ((الأمير)) جاء أمس متأخرا ورائحة الخمر تفوح منه، وفتح باب غرفتي وحاول أن يعتدي علي.. ليست هذه أول مرة، وقد شتمته، وقررت القطيعة معهم.
كانت تتكلم ببساطة كأنها تنهي إلي خبرا عاديا، ولم أرد أن أعلق بشيء... وطلبت منها موعدا نلتقي فيه ولكنها فاجأتني قائلة: ـ لا أظن ذلك ممكنا، فأنا مخطوبة ولا أستطيع أن أقابلك في الخارج.
ـ مخطوبة ؟ ولكنك لم تقولي لي ذلك من قبل.
ـ وما جدواه ؟ ألم نقض أياما طيبة كنت لي فيها خير أنيس، والأفضل أن نقف عند هذا الحد قبل أن تتأجج النار فتحرقنا.. أليس كذلك؟
ولم أرد أن أعترض بقوة وأصرخ في وجهها بكلام يقتضيه الموقف.. لم أرد أن أصطنع شيئا، فقد كنت أعلم أنني أمام إنسانة لها فلسفة تتبعها، ولا يستطيع اعتراضي أن يجعلها تحيد عنها.. كانت تؤمن بأن وظيفة القلب هي أن يحب كلما دعاه الحب، ثم طوى ضلوعها على الذكريات وتمضي في طريق الحياة.
ومددت يدي أودعها فأعطتني قارورة عطر صغيرة وهي تقول:
ـ للذكرى.. كلما تعطرت اذكرني، وأذكر الطفل ((فؤاد)) والحديقة والكرسي.
وعندما كان الربيع يحسب آخر أيامه، ولم أكن أودعه مكتئبا متفكرا بليالي الشتاء الطويلة، فقد كنت أحضن بين ضلوعي ذكريات جميلة..


* دعوة الحق - ع13

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى