شهادات خاصة محمد خضير - تغريبة الفهد.. (في رثاء اسماعيل):

على الرغم من أنّ خبر رحيل إسماعيل فهد إسماعيل كان صادماً وصاعقاً، وهو يخلّف في يومه الخامس كدمةً في سويداء القلب، إلا أنّ للخبر تتمّة وامتداداً للحياة الباقية بعد الرحيل. فالأدباء الذين يجتمعون عمداً أو اختياراً يتضايفون ولا ينقطعون: حياةً تَخلِف حياة، وروحاً تسند روحاً، وعموداً من الكلمات يتصاعد من الأجداث الممتدة حتى أفق النهاية. أنتم اليوم هنا أيضاً لتوقيع معاهدة الوفاء للراحلين، أولئك الذين لا أول لهم ولا آخِر. وبين حين وحين حكاية رحيل، ووداع حزين.
بعد وفاة محمود عبد الوهاب، جُمِعت آثاره وأُهدِيت الى جامعة البصرة. احتفظت الجامعة بالكتب وأعادت الأشياء الشخصية الى ذويه؛ وهؤلاء استخلصوا من الأشياء أخلصَها وألصقَها بنفسه - أوراقاً ثبوتية وصوراً عائلية - ووزعوا ما تبقى منها على أصدقاء الراحل الذي انقطع أمله من العائلة والحياة. يملك بعضنا قسماً من آثار الراحل - عصاه وقبعته وساعته ونظارته وأقلامه - ويملك آخرون قصاصاتٍ من أوراقه وذكرياته المدونة عن دراسته ورحلاته، إضافة الى رسائله مع أدباء مدينته وجلاس مقهاه وأقراص مسجلة للقاءاته الصحفية والتلفازية. بعد محمود عبد الوهاب وآخرين توزّعتهم الغبراء، سيخلّف اسماعيل فهد اسماعيل من الأشياء أثمنَها وأرخصَها، ولا أعلم كيف ستُوزَّع هذه التركة على ذويه ومؤسسات الثقافة التي خدمها الراحل أو خدمته بطبع رواياته وتصوير نصوصه التلفازية والمسرحية. ما الذي يتبقّى من الإرث المتنازَع بين الأيدي والخزانات؟ بماذا يخرج المتشاركون في حياة اسماعيل؟ الصور، الذكريات، الجلسات واللقاءات والمحاضرات؟ ما الذي سيُكتم وما الذي سيُشاع؟ وما هو أفضل وأبقى وأكثر دلالة على وجودٍ دام ثمانين عاماً من الحركة والسكون؟ رباه! أيذهب كل هذا سُدى، كما ذهبت آثار الأولين، وتنوهِبت سرّاً وعلانية؟
لا أقوى على رسم بهاء الوجود الانساني والمباهاة بمسك طرفٍ منه. فبين كل السِّيَر المقروءة والمسموعةعن عظماء الكتاب والفنانين، قد تسكن طويتَنا صورةُ شخص اسمه طارش أو فرهود أو زهرة، لفظته أمواجُ الهجرة والغربة على قارعة الطريق. وهذا البهاء الخافت انطبع على نفسي عندما قرأت في كتاب لسِيَر الخطاطين عن حادثة وفاة خطّاط بغدادي شهير، استخدمه البلاط الملكي لكتابة إراداته، ثم لُفِظ آخِر حياته في زاوية مسجد قديم بأحد الأزقة؛ فلما مات الخطّاط جُمِعت أقلامُه ومحابِرُه ورِقاعُه وبيعت بثمن بخس في مزاد صغير بمكان وفاته.
لا ينطبق هذا الانطباع على آثار اسماعيل فهد إسماعيل الثمينة والشهيرة، لكنه قد ينطبق من زاوية ما على غربة اسماعيل الحياتية والاجتماعية؛ هذه الغربة المتسعة التي بدأت بخروج إسماعيل من العراق الى الكويت في أواخر الأعوام الستينية الماضية، مرورا بغربته "الفلسطينية"، ثم حنينه الراجع الذي عكسَه في رواياته لموقع ولادته في قرية "السبيليات" بالبصرة.
وإزاء هذا التوزّع الهوياتي الذي أنتج غزارةً في الروايات، ومواقفَ إنسانية صادقة قلَّ مثيلها بين الروائيين العرب، كنت حائراً في تفسير الرؤى التي تراودني عنه في منامي. ففي مرة حلمتُ أنني كنت محتجزاً في قُطر غريب مع مجموعة من المهاجرين غير الشرعيين، وأنّ الشخص الذي يحقق في هوياتنا هو اسماعيل المتنكر في زيّ مرقّط غريب. ولم أملك من تعبير لهذه الرؤيا المحرّفة إلا نسبتها الى الروح المشتركة بين صديقين، أحدهما مقيَّد ومقيم، والآخر حرّ ومرتحِل؛ وأنهما يودّان حقاً في تثبيت المكان ورسم حدوده الجغرافية، فمَن ينجح فعلاً في تحويل الرؤيا الى حقيقة ابداعية قبل الآخر؟
نعم. لقد نجح القِسم المتحوّل عن مكانه في أن يغدو روائياً عظيماً، مخلصاً لوطنه الجديد، فيما لم يستطع الآخر المقيم إلا مراودة الأحلام عسى تعوّضه بطلاقتها عن قيود الجسد واللسان. وكنت أخشى أن يحدّ الحنين من تغريبة "الفهد" وسرعته في قطع قوس الرمال الممتدّ، وأن يتبعثر بيدر العمل المضني الذي جمعه، هنا في مكان النشأة وهناك في بلد الاقامة الثانية. وكلّنا مقيم وكلّنا مرتحل، بصورة من الصور، أو حالة من الحالات.
لكنني أعترف اليوم بطبيعة اسماعيل الحساسة، المجبولة على حب الانسانية المعذبة وشمولها حالات عربية متفرقة يستطيع الانغمار في أتونها وامتصاص تأثيرها المدمر على طبيعته. فهو في مقتبل حياته احتملَ عذابَ الخروج الدراماتيكي من العراق وأفرَغَه في رباعيةٍ روائية رائدة لأسلوب تيار الوعي؛ ثم شارك التغريبة الفلسطينية بثلاثية "النيل" إضافة الى الثنائية اللبنانية؛ وليس سهلاً عليه أن يغضّ الطرف عن زمن الغزو والاجتياح فخصَّه بسباعية "إحداثيات زمن العزلة" تتأمّل المتغيرات من زاوية آسيوية بعيدة لجأ اليها. وخلال هذا الاتساع الروائي كانت الغربة تحفر لها نفقاً في الروح المرهونة لأحلام النشأة في "السبيليات" موطن النشأة الأولى؛ فقد يكمن وراء ظهره ظِلّ لشخصية مغمورة تضاف الى شخصياتٍ "بدون" هوية تطلب إظهارها للنور. وفوق هذا قد تكون بقية من رفقة وذكريات تطلب استنقاذها من ظلمة الوعي وأعماقه البعيدة.
أيّ غِنى، وأيّة خطوة بعيدة، ولمسة حانية أدّتها هذه الروح الخفيفة المبتعدة دوماً عن ركود المدن وانشطار الهويات واندحار الآمال!
لترقد هذه الروح مطمئنة راضية!

* (فحوى الكلمة التي ألقيت في تأبين إسماعيل فهد إسماعيل باتحاد أدباء البصرة صباح اليوم السبت ٢٩/٩/٢٠١٨)


* محمد خضير

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى