محمد عزيز المصباحي - غواية

محمد عزيز المصباحي.jpeg

من نقطة ما، لا تدركها الأبصار، تنطلق كل الخطوط، منعرجة، منحنية، متداخلة، تائهة... تنبثق كل الألوان صافية، غامقة، ناعمة، غامضة، ملتبسة... في البدء، ترسمني وردة وتسميني "وردة"، تنيمني في حضن حديقة أبي، وترعاني حتى أصير سمكة ذهبية، أمرح في مسبح الفيلا الغناء، وعندما يأتي الربيع الوسيم تحوّلني حمامة بيضاء، أحلق وأقفز وأحول كل شيء تقع عليه عيناي إلى بياض... وأنا وردة أحب الصفاء والبياض والنكهة، أشرب البيرة ولا أشرب الماء ولا الحليب. وعندما أينع وأصبح امرأة كاملة العنفوان يهديني بابا الرؤوف الرحيم سيارة "بورش"، اختارها بنفسي حمراء كالدم، وعندما تزورني العادة مرة في الشهر أرسم بالأحمر الداكن أجسادا لكائنات لا أعرفها. وعندما تينع الأنوثة في عيني يخصص لي بابا الرؤوف الرحيم غرفة تطل شرفتها على الحديقة. أملأ جدرانها صورا لممثلين ومغنين أجانب. عيونهم زرق كعيني، وأخرى لرجال ونساء حفاة عراة..من هواياتي السباحة الحرة وركوب الخيل الإنجليزي وارتياد الفنادق الفخمة في المدن البعيدة، وان أطير ببورشي الحمراء خلف حمرة الشهوة. إني لا أحب أن أثرثر عليك، أنا وردة متحررة وأمريكية الطباع... ولا شيء يعكر صفو هذه اللوحة الجميلة سوى أن أضطر لقراءة صفحة أو صفحتين من كتاب أو أجلس وجها لوجه أمام أستاذ مكبوت وإذا دعت الضرورة فأنا مثقفة، مولعة بالمسرح العالمي وأدخن النكهة الأمريكية.إنها الحقيقة، لا تثق بمن يشيع أن شابا يفوقني كبرياء قد أغواني. ضبط نقطة ضعفي، قطفني، ثم رماني قشرة موز... إني بالفعل أكره كل الرجال. أقسم بشرف بابا. كنت أعتقد أن الرجال كلهم ذئاب وفي أحسن الأحوال كلاب- باستثناء بابا بالطيع- إلى أن ظهر على الشاشة وجه هذا القرد الرث، المتسخ فاحترت، هل هو ذئاب أم قردة؟ وكأنه كلبي الشخصي، يلتصق بظلي طوال النهار، وطوال الليل يربض تحت شرفتي. ماذا أفعل؟ إنه الآن-بدون شك-يتلصص علي بعينيه القرديتين من خلف ستائر صالون الحلاقة. كيف تسول له نفس؟ قرد مسكين أغوته وردة. سأعتبره كلبي الشخصي... وألون ألواني، أصب الأحمر على الأحمر، والأزرق على حافة الزرقةـ، أحرر الشعر الرصاصي المذهب... ثم انفلت من بين يدي الحلاق، عطرا وألوانا منعرجة، مائلة منسابة.
(... إلى آخره)
الوقت... لا أهمية له، تقف عين الكاميرامان في قبة السماء وتلتقطه من الأعلى يعانق أشعة الشمس كالقط الخارج لتوه من مغارة باردة يود العثور على أي تافه مثله، يريد أن يشعر كالبشر بحرارة الإنسانية الزرقاء، أن يهرب من قفص هذا الجسد، من أمه ومن الكوخ العفن، يتيه في رماد العراء... قردا رثا يجلله سواد الإقصاء... حمرة الكراهية... تنزل عين الكاميرامان من قبة السماء ببطء، تتمدد نظرتها، تتفحص الألوان الداكنة... يود أن يقدم النفس والروح هباء في سبيل جرعة كحول، ليكون..من يعترف به في هذا الخلاء؟ من يعلمه أن يكون ويأخذ روحه؟... بياض الوقاحة... لم يكن يعرف أن الحقد أبيض ناصع إلا بعد أن احتضنته "الفاركونيت" البيضاء... لماذا هي بيضاء؟ تهشمت أسنانه الأمامية بمقدمة حذاء أسود لامع... لماذا هو لامع؟... شعر لأول مرة بحرارة الإنسانية الزرقاء... قال لهم بفم أحمر: أنا وحيد القرن الوحيد، أنا لست قردا وما ينبغي لي أن أكون أن أحب أمي... يخضر الخوف، وتزداد حمرة الكراهية..هل لا سبيل إليك أيها الخبز سوى القوادة؟ أين جلالك أيها الأب الجليل؟ كيف تنام تحت خضم هذا الخضم؟...
تتحرك عين الكاميرمان، يكتفي وحيد القرن الوحيد بوجهه، يتباهى بقرنه الرمادي المصقول..ويتوهم... ويحلم... يطير بسيارة "البورش" الحمراء، يصطدم بجذع شجرة، يتهشم رأسه يختلط لحمه بأشلاء الحديد... سكاكين كثيرة تقطع أوصاله، تخرج أحشاؤه إلى العراء. تكز عين الكاميرامان على الأحشاء مبرزة لونها الوردي الجميل، الهادئ. تختلط دماؤها بدماء "البورش" يصيران جدولا أحمر صغيرا، يسيل على أرض سوداء، تشربه حمامة بيضاء، يجري في عروقها مجرى الشيطان، يراودها. تدور عين الكاميرامان على نفسها، تقف عند باب الكابوس الصلصالي، يفتح وحيد القرن الباب ويخرج، مهندما، يضع على عينيه نظارتي"رابيان".
(... .إلى آخره).
يجاذبني خيط دقيق من عطر فاخر، يشد عنقها العاري النابض إلى أنفي، وهي أمامي، على بعد خمس أو ست شجيرات من أشجار المقفر، مضطربة الخطى تكاد تجري فزعا، ترهف السمع لوقع خطواتي، تكاد تمضغ قلبها... منذ ساعة وبالأمس ومنذ سنة وأنا وراءها، وهي حمامة بيضاء تحلق في سمائها الشاسعة، وأنا وحيد القرن، وأنا قرد رث، أصفر أطير بجناحي القصيرين خلفها، وأسقط وأكابر، لأنقض على عنقها الدافئ الأحمر، لا أودع خنجري الحادة في أحشائها الوردية... ماذا أريد منها؟ لا أعرف وليس من المفروض أن أعرف، ولا أن تعرف. هل لابد لإنسان أو حتى قرد يقتفي أثر احد، أن يريد منه شيء، الآخرون يريدون ونحن ننفذ فقط... وهل أستحق أن أقتفي أثرها هي؟لا أعرف... أليست هناك نقطة ما حمراء، دموية، رائعة كالغسق، تنبثق منها كل الألوان، تتقاطع عندها السكين الناصعة باللحم الأبيض... والجمال الفتان بالبشاعة الفاتنة؟... لا أعرف.
بالصداقة الخالصة خلقت وبالصدفة مشيت في مناكبها ومواكبها، بالصدفة أيضا أصبحت موظفا، حارسا لمستودع الأموات. تتشبث بي نشوة غامضة لا لون لها. هنا بين الأموات تزهر وردة وجودي. هنا أكون. أتخشب طوال الوقت على باب المستودع. أترك الفرصة لأحلامي عسى أن تضيء ليل الكابوس. كل نشوة لابد أن تذيل وكل حي لابد أن يموت أصب الحمراء على عتبة المستودع. وعندما أتيقن أن الموت ليس سوى امرأة شهية، لذيذة، باردة، صفراء... أخدر السمع والأبصار بالكحول القتال... وأنتظر.
(... إلى آخره)
لا أهمية للزمان وللمكان، المهم أنه كان فيلما رائعا، فيلم عمرك بكامله ، كان يكفي أن يظهر البطل أمامك حتى تسقطي بلا مقدمات في حبائل عشقه كان يلتفت مرارا إلى القاعة شبه المظلمة، وبالضبط إلي يوجه كلماته الرقيقة الخضراء. وعندما يغني كان يغرق في زرقة عينيك. ومنذ ذلك الزمان والمكان المبهمين جرى حبك له رقراقا أزرق كالجنون، تقتنين أخباره، تغطين جدران الغرفة بعيونه الخضراء وبالملامح الشقراء، وتناجين وتحلمين معه نفس الأحلام البنفسجية... وكل شيء كان يجري بسرعة خارقة، كأنك على "بورش" الحمراء، جميع اللحظات والوجوه الجميلة... وفجأة نزل عليك الخبر الفظيع، وماتت الآهة الفاتنة وانطفأت خضرة تلك العيون في لحظة خارج الزمان والمكان والحلم البنفسجي، رحلت النشوة بالحبيب ولم يعد... لم تستطيعي تلك الليلة أن تجودي بآخر دموعك ولا أن تبوحي بكلمة. كنت مشلولة تماما، كأن أشياء عدة تتكسر بداخلك أو ترتجف بفعل رياح قاسية لا مصدر لها... وفي الصباح أعتقد أنهم وجدوك نائمة تماما، أو هكذا تخيل لهم، لم ينتبهوا للكأس ولعلبة الدواء الفارغتين..بجانب رأسك.
(... إلى آخره).
الريح تعزف موالها القارص. ومن الداخل تفوح الرطوبة ممزوجة بشيء من الدفء، من الراحة، ممزوجة بروائح الند والكافور والعرق والعظام المحروقة والطمث... والموت. يريد أن يدخل ينصت لحظات، يكاد سمع لغتهم الغريبة. هل يتكلمون؟ خليط من نباح ومناجاة وعويل وقهقهة وعواء وخوار وهمس وأنين... من نقطة ما تنطلق كل الأصوات ملتوية، واضحة خفية، خليط من خشونة ونار ونعومة وماء... وثلج أسود... يريد أن ينام. أن يدخل إليهم، أن يفتح باب الكابوس ويصحو... أن يهرب أين جلالك أيها الأب الجليل؟يبيت الليل الطويل يداري خوفه الرهيب بجرعات من خمرته الرخيصة... وينهق... وينهق... ويغرق.
ومع ذلك ورغم ذلك، كانت الأنثى حتى وهي ميتة مغرية... في البداية لم يكن يتجرأ، كان يكتفي بهمس كلمات لا معنى لها، ثم بدأ يمد يده إلى الموت، يعريها من أكفانها يرتشف كحوله، يسرق نظرة أو لمسة أو يمعن النظر في الجسد الأصفر العاري. الحرام، الحرمة، الصورة، النهد، العانة، الزغب، يمتزج الأبيض بالأصفر والأحمر والأزرق والبنفسجي والبني والأخضر والوردي والرمادي والأسود... يرى كل الألوان، ويكتشف كل القارات والمناطق البعيدة المجهول والشهوة والنكهة والنتانة والبرودة والنار والخوف والسكينة... واللغة الأم. يشعر أنه بالفعل بدأ يتحول إلى جنين يطل باندهاش من مغارة الرحم على العالم الجهنمي، يريد أن يعرف لكن الشهوة تعطل كل الحواس... .يجلس على عتبة رحم أمه، لا هو من سلالة القردة ولا من سلالة البشر ولا الذئاب ولا حتى وحيد القرن... هو مزيج من كل السلالات وكل الألوان وكل الأتربة والمياه والنيران والرياح..وكان ذلك يحدث ببطء شديد مخدر.
(... إلى آخره)
من اخترع المستودع؟ من سقطت عليه لأول مرة هذه الفكرة الجهنمية، مستودع خاص بالأموات؟ لا شك أنها فكرة فرعونية ولا شك أنهم فراعنة.وإلا لماذا يتشبثون بالجسد حتى وهو ميت؟ هل يبحثون، كما يدعون عن حقيقة ما. وهل يملك الميت نفس الرغبة ونفس الوهم؟ عند كل هذه المحطة اللعينة المتسخة، النتنة، لابد أن نتوقف بعض الأجساد، قبل أن تبلعها الأرض من جديد، ليلة، ليلتين، دهرا، تشرب البرودة حتى الثمالة، ثم تستأنف الرحيل نحو الأعماق.
(... إلى آخره)
وأنا هنا... تغويني الغواية، تستفزني رائحة الموت الناعم، انتظر امرأة لابد أن تأتي، لابد أن تفلت من يد المراقب ومن هيمنة الآخر... كانت لا تزال دافئة، رفعت الكفن عن الجسد الساكن... كانت هي، بلحمها ودمها وشعرها الرصاصي المذهب... تفاحة على وشك أن تتعفن سمعت أنينها الخافت، كأنها تناديني، كأنها سقطت كفي المرتعشة على نهدها الأيسر، أحسست بكفي تقبض على كومة قطن لين أصفر... وابتسمت لي لأول مرة... ووردة فرحة نزقة، مرخية الشعر،، فوضوية رخيصة وأنا أكابر... تتمزق أحشائي، تنفرج الشفتان وتبتسم الزرقة في العينين.
(... .إلى آخره)
نعم. ما جئت إلى هنا إلا لأقول كل شيء... كل شيء، منذ سنين عديدة وأنا فاطمة، منظفة مستودع أموات المدينة... أخاف الله وأخاف المخزن والأموات... نعم المكان مقدس جليل... نعم من الأموات من تغسّله الملائكة ومنهم من تقيم له حفل زفاف صاخب، يدوم الليلة بكاملها... كان يحدث هذا دائما، إلى أن أصبح هذا الذي يشبه وجهه وجه قرد حارسا للمستودع... نعم أعرفه..لا، لا أعرفها..نعم رأيت وسمعت ما أخرس لساني وطار بلبي..نعم.، أحسست في البداية بلذة حلوة ثم بماء فاتر ينزلق من بين فخدي... نعم تمنيت الموت بين يديه في تلك اللحظة، أن أكون ميتة...
نعم، جئت بمحض إرادتي... أقسم لكم أن ما قلت هو الحق.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى