بانياسيس - تراجيديا البرابو المتحذلق - قصة قصيرة

تراجيديا البرابو المتحذلق -قصة قصيرة

.
.



لقد ظهرت كل الاعراض على أمي ، جفت الثيران رغم مرور ثلاثة اسابيع على آخر تسافد لها ، وصارت أكثر هدوءا معتزلة القطيع في الحظيرة ، سمنت وزاد وزنها حينما أصبحت اكثر شراهة للأكل ، رغم ذلك فتانجونا الأحمق الكسول لم يفهم ذلك ، لقد ورث تركته من والده الذي كان يدلله فأهمل كل حيواناته الطيبة ، وحينما قوست أمي ظهرها وحنت كفلها ورفعت بطنها ثم أخذت تحزق بألم ، أكتفى تانجونا بالوقوف مرتخي الجسد ، حائر النظرات...كانت كل الابقار تراقب مخاض أمي أما الكسول تانجونا فنام واقفا ، رأيته وأنا انهمر على الأرض بسوائل المخاط المختلطة ببعض الدماء ، في تلك اللحظة لمحت عيني تانجونا تنفتحان ببطء كنت أنظر اليه محاولا تنفس الأوكسجين ، رأيت باقي الأبقار وقليلا من الثيران يلتفون حولي بصمت ، ورأيت أمي تمد خطمها وتتشممني وتلعق جسدي المحمم بالمخاط والدماء..تلك لحظة دافئة حقا ، لحظة وحيدة أحسست بها ولم تتكرر حتى هذه اللحظة التي تقرر فيها إعدامي.
كنت متعبا ومفاصلي محطمة ، غمرني ضوء خفيف تخللته ظلال الابقار وظل أمي ، لم أستطع إدارة رأسي أو الوقوف إلا بعد فترة من الوقت...كنت أسأل نفسي: ما المطلوب مني؟ هل أقف؟ أم اظل ممدا؟ نظرت الى أمي ورأيت عينيها تطلبان مني الوقوف ، نظرت الى تانجونا والابقار والثيران ولكنهم كانو متجمدين. أعدت النظر الى عيني أمي الحنونتين ، رأيتها تقرب انفها وتتشممني ، فهمت أنها ترغب في التأكد من قدرتي على البقاء حيا .. وكان على أن امنحها طمأنينة القلب.
دفعت بسيقان مرتجفة من الوهن الأرض من تحتي لأتمكن من رفع جسدي لأعلى .. رأيت عيون القطيع تبحلق تجاهي ببلاهة..ثغوت لأدفعهم إلى تصديق نجاتي ولدهشتي ابتعدت أمي عني وانفض سامر القطيع...فبقيت وحيدا منذهلا: ما لهؤلاء لا ينطقون؟
حتى تانجونا غادر وهو يجر قدميه من النعاس. كان التبن مشتتا بشكل فوضوي فتشممته قليلا غير أن رائحته كانت حادة جدا ، نظرت إلى أمي التي كانت مستلقية على بطنها والتعب واضح على عينيها شبه المغمضتين. خطوت نحوها لكنها لم ترغب في لمسها. لم أجد بدا بعدها من الجلوس والنوم. أعدت السؤال:
(لماذا هم صامتون هكذا)

***

في صباح اليوم التالي وجدت يدين قويتين تدفعانني نحو ضرع أمي...كان شابا قويا يعمل مع تانجونا على نحو متقطع.. تشممت الضرع ومصصت حلمته فتدفق اللبن إلى فمي...كان طعما كريها جدا.. لفظت اللبن وأخذت أدور حول نفسي كالمجنون فتراجع الشاب مذهولا إلى الوراء ثم هرول وهو ينادي على مخدومه...حينها حاولت مسح لساني بالتبن وبتراب الحظيرة لأطرد طعم اللبن القذر...رأيت قصعة ماء فاندفعت نحوها وغطست برأسي فيها .. أخيرا شعرت بالطمأنينة...
ورائي تماما كان تانجونا والشاب يتحدثان:
تانجونا: كيف ذلك...؟
الشاب: هذا ما حدث يا سيدي..
تانجونا: لا تخبر أي أحد في القرية بذلك أنت تعرفهم قد يعتبرونه شيطانا...مدغشقر كلها تؤمن بهذه الخرافات...
صمت الرجلان وهما يراقبانني ، أخرجت رأسي من القصعة وارتميت محاولا تهدئة أنفاسي.
الشاب: إذا كان رافضا لأكل التبن أو رضاع اللبن فسينفق لا محالة من الجوع...
تانجونا: المهم أن ينفق بهدوء...ابحث عن أنواع أخرى من العلف واعرضها عليه...
ثم قال بتأمل عميق:
- هذا الثور سيتسبب في دماري..
قال الشاب: فلنذبحه إذن؟
إلا أن تانجونا قال:
- سيكون فألا سيئا إن ذبحنا عجلا وليدا...راقبه جيدا فقط..
ثم خرج..

***

البشر يتحدثون كثيرا كثيرا وقطيع البقر صامت دائما...البشر يفعلون أشياء كثيرة متعددة .. البقر يأكلون ويتسافدون فقط... أمي أصبحت تخاف مني ، تتجنبني وكأنني شر ، اقترب منها فتبتعد عني.. أخور لكنها تظل صامتة وتنفض أذنها اليسرى لتطرد الذباب عن وجهها.
هناك خطأ ما... درت حول نفسي وأنا أفكر... هناك خطأ ما...تذكرت أنني حين غطست برأسي في قصعة الماء رأيت قبلها بثوان وجهي.. عرفت أن الماء يعكس صورتي فاتجهت مرة أخرى نحو القصعة ووقفت أتأمل شكلي.. إنني ثور..ثور دون شك... إنني أشبه هذا القطيع.. فلماذا ينبذونني..لماذا أشعر بالغربة بينهم... دققت النظر وحركت أذني كما تفعل أمي فانتفضت أذني ثم عادت واستقرت.. نظرت الى أكارعي ولم تكن تختلف عن أكارع باقي القطيع....أريد أن افهم ماذا بهم؟ تقدمت نحوهم وأخذا أقرب وجهي الى وجه كل بقرة وثور أنظر اليه فلا أرى سوى نظرة متبلدة بلهاء...إن تانجونا يبدو أكثر ذكاء من هذا القطيع....داهمني اكتآب مفاجئ .. رفعت رأسي وتشممت الهواء... "الحظيرة خانقة"..قلت لنفسي ودفعت جسدي نحو الباب المفتوح نصف فتح ...مرقت رأسي من الفتحة ورأيت السهول الخضراء...كان هناك طفلان من بني البشر يلعبان ويضحكان ضحكات سعيدة مرحة...وكانت هناك ناقلة فورد صغيرة قديمة ذات عجل مكسور منحنية نحو الأرض على يمين المشهد.. أما منزل تانجونا الخشبي الصغير فكان على اليسار... دفعت جزعا خشبيا كان يقسم فوهة الباب بالعرض... ثم خرجت..وشعرت بالحرية... خطوت خطوات بطيئة وأنا أراقب الأرض الخضراء الشاسعة... واتمتع بشم النسيم العليل....رفعت رأسي وشددت خطمي ورحت أتنفس الهواء البارد وأراقب الأفق الأزرق ..
"من أنا؟ .. من أنا ؟"
سالت..
"لست كباقي القطيع .. ولست بشريا .. فمن أنا..." ..
حلق نسران بشكل دائري في أعالي السماء ، ومرت بينهما سحابة بيضاء تشع أطرافها بلون أشعة الشمس الذهبية.
"إن وعيي بهذل العالم رائع..رائع حقا..." ...
لم اكتف من أكل العالم بحواسي كلها لكنني خفت أن أشبع فقررت العودة أدراجي تاركا ورائي عالما لا يشعر به لا القطيع ولا تانجونا... كم هم عمي ومجدبون وفقراء... سرت مطأطأ رأسي بحزن وقلبي يمور برغبة غير مفهومة بفعل شيء ما....كنت أشعر بنقص عظيم.... وفجأة انسربت داخل منخري رائحة قوية... رفعت رأسي...يا إلهي... أمعائي كادت أن تتقطع .. ارتجفت أقدامي... وتقعرت عيناي بغضب... فاندفعت كالمجنون نحو منزل تانجونا... ركضت بقوة معتليا السلالم الخشبية ... ثم قفزت نطحت الباب الخشبي برأسي فاقتلعته بعنف.. ورأيت تانجونا يلتفت نحوي برعب وفي يده مدية طويلة ولم يلبث إلا أن وجد نفسه يطير بنطحة من رأسي لأهجم على قطعة حمراء كانت أمامه والتهمها بشراهة... كان جسدي يرتعش من النشوة وأنا أمزق اللحم بفكي القويتين....همس تانجونا برعب:
- اللعنة ... إنه يفترس اللحم..
ثم أغمى عليه.

***

- إنه شيطان يا سيد تانجونا...
قال تانجونا بصوت مبحوح:
- أسكت.. لا تتحدث بما أخبرتك به لأحد... لا أحد من أهل مدغشقر كلهم .. هل تفهم...كلهم وليس سكان هذه القرية البائسة فقط .. كلهم سيحرقونني مع هذا الثور الشيطاني إن عرفوا.. وإن لم يحرقونني سيلفظونني..ستبور تجارتي .. سأفلس وقد أموت جوعا....أنت لا تعرف كيف تعمل أدمغة أهل هذه الجزيرة...
قال الشاب: إذن عليك قتله...أنت أيضا تؤمن بهذه الغيبيات...
كانا ينظران نحوي بهلع. شعرت بأن تانجونا قد بدأ يميل إلى رأي مستخدمه الشاب فكان علي أن أتدخل...تحركت نحوهما بخطوات بطيئة.. كانا خائفين..لكنني أخذت أتمسح في جلباب تانجونا...ثم جثوت على الأرض بخضوع ومسكنة.. حينها قال تانجونا:
- يبدو طيبا الآن...دعنا نؤخر اتخاذ قرارنا النهائي حوله بعض الوقت...
ثم مسح أسفل فكي وقال:
- عليك أن تعود للحظيرة يا صغير...
رفعت رأسي وحدجته بنظرة حائرة حزينة ثم نهضت ومضيت نحو الحظيرة وسط دهشة الرجلين.
"كل شيء سيسير على ما يرام..إن تانجونا أكثر شفقة من أمي.. وهذه نقطة ضعف مهمة يمكنني أن أستغلها أفضل استغلال..".
حين دخلت إلى الحظيرة رفع القطيع رأسه لوهلة وقد ظنوا أن العلف قد حضر فلما ألفوني أنا طأطأوا رؤوسهم وعادوا يجترون طعامهم كما يفعلون طوال الوقت. درت ببصري نحوهم..وقلت في نفسي:"كم أنتهم تافهون..كم أنتم حقيرون..". حتى أمي بت أكرهها مثل كرهي لباقي القطيع...أمي التي لفظتني .. بحثت عنها فلم أتمكن من تمييزها من باقي القطيع ، حينئذ أدركت أنني أصبحت حر نفسي...وأنني يجب أن أغادر هذه التفاهة بأسرع وقت وبأي ثمن وبأي وسيلة.
"مكانك ليس هنا...ليس هنا يا..."
وانتبهت إلى أنني لا أحمل إسما لأنادي به نفسي؟ يا إلهي...لست منبتا عن هذا العالم لهذه الدرجة. سرت قشعريرة خوف داخلي وقررت أن أطلق على نفسي إسما...
- إسمي منذ اليوم سيكون (كائن)..

***

مرت أشهر اعتنى بي فيها تانجونا بسخاء رغم بخله ، كان يخرجني من الحظيرة ليقدم لي قطعا ضخمة من اللحم ، وكنت أفضل أن يكون لحما طازجا مضرجا بالدماء ، كان يراقبني وهو يبتسم ابتسامة واسعة ، ورآني وأنا أكبر ، كان جسدي يزداد قوة ، عضلاتي تتمدد بمرونة عالية ، قرناي ينموان بسرعة ... وعيناي .. عيناي كانتا حمراوان بلون الدم....أنفخ الهواء الساخن من أنفي ومزاجي يتعكر بسرعة .. كنت أبحث عن شيء ماء.. شيء أفرغ فيه قوة عقلي وجسدي.. وقد جاء ذلك الشيء بسرعة غير متوقعة.
ففي ذلك الصباح مسح تانجونا قرني ورأسي بيده وهو يقول:
- ستشارك في السافيكا اليوم..ما رأيك أيها الشاب العفي..؟
لم أتمالك نفسي من الفرح فرفعت رأسي عاليا ورحت أخور بعظمة تنفخ أوداجي.
قال تانجونا:
- لا تكن مغرورا .. رجال بيتسيليو أقوياء .. سيطرحونك أرضا...
خرج الهواء الساخن من منخري .. وأحمرت عيناي من الغضب وصحت بدون صوت:
- سأهزم كل رجال بيتسيليو... سأهزم كل رجال مدغشقر .. بل سأهزم كل هذا العالم الأحمق...

***

قادني تانجونا بهدوء نحو الساحة التي احتشد حولها سكان القرية ؛ الفتيات ينتظرن الفتيان المصارعين لكي يقعن في حب أقواهم...سخرت في سري...فلن تقع فتيات هذه القرية إلا وهن فاقدات للوعي..فرك تانجونا رأسي بحيوية وقال:
- لقد راهنت وحدي عليك... ليس رهانا بمبلغ كبير ولكنني أفضل ألا أخسره... صفعني على كفلي صفعتين فتقدمت بثبات إلى وسط الساحة ثم توقفت منتظرا ما سيحدث بعد ذلك...كانت الجماهير تضج بالصياح والقهقات والنشوة ... حتى تلك اللحظة التي أحسست فيها بكف قوية تتشبث بسنامي والذراع الأخرى تلتف حول رقبتي بعنف مؤلم...
احمرت عيناي .. وفكرت في انهاء هذه المهزلة على نحو يترك صدمة في الجماهير...وبسرعة قفزت إلى الأعلى وهبطت بجانبي الأيسر حيث يتشبث الشاب مفتول العضلات.... تركت جسدي يسقط بكل حرية... وسمعت أضلاع الشاب تتكسر وهو مرتم تحت جسدي الضخم... وصمتت الجماهير....مرت ثوان قليلة ... تأكدت فيها أن الشاب قد لقى حتفه فنهضت .. ووضعت قدمي فوق صدره العاري ..رفعت خطمي إلى السماء وخرت خوار النصر العظيم....
تمالك الناس بعدها أنفسهم فهرولوا نحو جثة الشاب وجروه .. وسمعت أحدهم يقول:
- لقد قتله هذا الشيطان...
وحينها تبعته الجماهير بالهمهمات ثم ازداد جنونهم وهم يهتفون مطالبين تانجونا بقتلي...كانوا يتحلقون حول تانجونا وقلوبهم ممتلأة بمهل الجحيم .. شعر تانجونا بالخطر .. ورأيته ينظر لي مستجيرا....لكنني ركضت وغادرت الأرض الملتهبة دون أن اهتم بشج الجماهير لرأس تانجونا ثم سحله حتى الموت....

***

كنت أسابق الزمن ...فرغم أنني ابتعدت عن القرية الغاضبة بما فيه الكفاية إلا أنني كنت راغبا في الوصول إلى مكان ما..مكان مجهول.. مكان أجد فيه ذاتي... أقهر فيه نصفي الحيواني المتبلد....كنت أشعر بغضب يجتاح كل عضلة ومفصل من مفاصل عظامي....
"سأهزم هذه الكائنات التافهة"..
كانت الجبال ترتدي سترتها الخضراء الرطبة والسهول تنفتح سكرى بالحرية ، والسماء مصقولة كالمرآة بالزرقة الصافية...أبطأت من سيري ورفعت رأسي محاولا أكل هذا العالم الرائع...كنت أقضم أطراف السماء وامتص رحيقها الطيفي وأبتلع السهول والوديان والجبال. وفي أوج لذتي رأيت مروحية تحلق فوق رأسي .. لقد صنع البشر هذه الآلات الغريبة لكنهم لم يتمكنوا أبدا من أكل العالم...إنهم لا شيء سوى كائنات توازي كل ما حولها ولا تتصل به...كائنات ناقصة عقل....إنهم ليسوا مثلك يا كائن...ليسوا مثلك أذكياء..
ترنحت المروحية هنيهة وهبطت على السهل أمامي مباشرة واستقرت..لا أخاف منها..قلت ذلك وتوقفت.. وحين سكنت مروحة الطائرة عن الدوران تدلى منها رجل أحمر الوجه.. تقدم نحوي وهو يبتسم ابتسامة تمزج بين الخبث والإعجاب...أدركت أننا سنعقد صفقة ما..صفقة سأربح فيها ... توقف أمامي وقال دون ان يفقد ابتسامته
- انا بيدرو...أنا صديق ولست عدو...
ثم وضع راحته على صدره حيث القلب...رمقته بنظرة ساخطة...حاولت ان أخبره بإسمي..لكن تركيب خطمي وفكي التشريحي لم يسمح لي بذلك...رأيته يقترب مني أكثر ثم يتوقف:
- أنت لست ثورا عاديا .. لقد رأيت ما فعلته بالشاب...أنت ثور أذكى مما يمكن لبشر أن يتصوره.. سأعقد معك صفقة...إن كنت تفهمني وموافقا على إبرامها فتقدم نحوي...
وبثبات تقدمت نحوه خطوات ورأيت اساريره تتهلل...فقال بنشوة وهو يعض على أضراسه:
- كنت أعلم أنك لست ثورا عاديا...

***

البحر ينطبق بلا نهاية مع السماء ، الأمواج تتدلل وتتغنج مصدرة جرسا مكتوما لا يكمل لحنه أبدا ورغم عدم تناسق أجراس كل موجة إلا أن ذلك التنافر خلق سيمفونية لا تنقطع وسكين مقدمة السفينة تشق سطح الماء نصفين وهي تمضي بسرعة ، بعض الحيتان كانت تختلس ظهورا فجائيا على البحر ثم تغوص مخفية ظهرها الأسود الأملس بعد أن تطلق نافورة ماء عجلى. كنت أراقب كل ذلك حتى أنني نسيت أكل كومة اللحم التي تركها لي بيدرو الخبيث . فتحت فكي وأخذت أبتلع العالم بنهم مدمن. ورأيت الرجل الأحمر يقف إلى جواري ويتأمل البحر الشاسع.
قال:
-فيم تفكر وأنت تقف متأملا هذا المشهد الرائع..إنك تتحدى ذكائي يا رجل...
قال كلمة رجل دون أن يلتفت نحوي كنت أعلم أنه محتال يحاول كسب ثقتي وكان علي أن أفهمه خطأ اعتقاده هذا فتركته واتجهت نحو كومة اللحم الحمراء .. أخذت التهمها بتأن وبطء .. ماذا يطلب كائن مشوه مثلي من هذه الحياة...بقرات حمقاوات أضاجعهن؟...مزيدا من اللحم الأحمر...؟...حظيرة دافئة تخلو من الرطوبة؟ كل هذا لم يكن يهمني في شيء....كنت أرغب فقط في ابتلاع العالم .. ابتلع هذا العالم بوعي شمولي....وعي تنتفض له كل حواسي المرهقة ... ولتكتمل اللذة فلا بد من القتل..أن أزهق مزيدا من أرواح تلك الكائنات المغرورة بجهالة...إنني أملك فعل ذلك... واسبانيا ستحقق لي أكبر قدر من المتعة... هكذا كانت صفقتي مع بيدرو الخبيث...أن أمنحه المال ويمنحني أرواح البشر....
توقفت عن الأكل حين شعرت بحزن يتدفق إلى صدري الضخم...قلبي ذو العضلات الصلدة تهدل ووهن فجأة فأخذت أبكي بغير دموع....كم أنت غريب عن هذا العالم يا كائن..كم أنت غريب...

***


قال بيدرو الخبيث:
- هذه بامبلونا ... أدرك أن الرحلة من الجنوب إلى أقصى الشمال ليست سهلة يا صديقي .. لكن بامبلونا تستحق.. أقسم لك بشرفي...
لأول مرة شعرت بأنه كان صادقا فبامبلونا تستحق بالفعل...
اضاف: أدرك أنك تحب الطبيعة بعنف..رأيتك تتأمل العالم من حولك بشغف وسوف أضع خطة سياحية لطيفة لك ...
كنا نسير جنبا إلى جنب والفتيات اللطيفات يرمقننا ضاحكات ، وعندما يزدحم المكان يصيح بيدرو:
- هيا لا تخشو شيئا..إن صديقي هذا أذكى منكم يا أغبياء..
ثم يقول لي:
- هذا طريق كامينو دي سانتياغو يتجاوز طوله تسعمائة كيلو متر من الجنوب الى الشمال حتى فرنسا.. تأمل كم هو رائع...
الخضرة الغامقة وجداول الماء تترقرق ونحن فوقها نعبر فوق الجسر الحجري صغير ، توقف فاحترم بيدرو وقوفي ؛ تأملت الخضرة وأوراق الأشجار الملونة والظلال الوارفة من حولها.. رفعت خطمي عاليا ... وفتحت فكي وبدأت آكل العالم....في حين ظل بيدرو يرمقني بطرف عينه محاولا عدم اثارتي بأي تصرف قد يخدش أحاسيس ثور مرهف..
مضينا سويا حتى البلدة القديمة قال بيدرو:
هذه إحدى القلاع القديمة .. ويمكنك الآن أن تعيش حياتك في حديقة لا فيلتا دي كاستيلا .. أنظر لهذه الورود والأزهار الرائعة يا صديقي... هل تشم رائحتها... قيل بأن الثيران لديهم عمى ألوان ..لكنك لست ثورا عاديا كما أعتقد...
هذا البيدرو الخبيث يحاول فهمي بشتى الطرق .. لاحظت أنني بدأت أتخلى عن ذكائي وأنا أنقاد له بسلاسة... والأسوأ من ذلك أنني لم أعد احاول فهم بيدرو الخبيث... كان علي أن أحطم اعتقاده بأنه قد سيطر علي ، وبغتة هرولت بسرعة خارجا من الحديقة.. وسمعت صرخات الفتيات أما بيدرو الخبيث فلابد أنه يقف الآن متسمرا من الصدمة....
كانت الشوارع ضيقة وحجرية ، سمعت أصوات ركضي تثير إزعاج المارة ، صاح أحدهم:
- هل بدأ مهرجان سان فيرمين مبكرا أم ماذا؟
هرولت نحو شارع واسع ثم توقفت والتفت خلفي..بضعة سيارات توقفت لتسمح لي بالمرور .. ورأيت بيدرو يهرول والعرق يغرق قميصه وربطة عنقه .. وعندما وصلني توقف وانحنى مسندا كفيه على ركبتيه لاهثا من التعب ثم قال:
- ماذا تفعل.. هل جننت...
صاح رجل من خلف نافذة سيارته:
- هل تحدث الثور؟
لم يعره بيدرو التفاتا وقال:
- كن متحضرا يا صديقي..إنني أحاول مساعدتك فساعدني أنت أيضا بالسلوك الذي لا يثير حفيظة البشر هؤلاء...
هدأت أنفاسه وواصلنا السير ببطء...
قال:
-سنزور بضعة متاحف يا صديقي...
تجولنا بأقدامنا حتى بلغنا متحف جامعة نافارا كما اخبرني بيدرو..دخلنا وأنا ارفع رأسي فهمس بيدرو الخبيث:
- لا تكترث لاعتراضات أي شخص...
بالفعل اعترض حارسان شابان أحدهما قصير نحيف والآخر طويل ذو وجنات محمرة..غير أن بيدرو قال بحسم:
- هذا ليس ثورا عاديا..لو كنتما تملكان نفس عقله لما عملتما مجرد حارسين بائسين..
شعر الحارسان بالخجل ولم ينطقا بعدها ، وبعد جولة قصيرة زرنا متحف كاتدرائية بامبلونا...وانتشر الخبر بسرعة..ثور يتجول في الأماكن السياحية ويتأمل اللوحات والتماثيل كما لو كان بشرا...قال بيدرو:
- علينا أن نختفي إلى يوم المهرجان يا صديقي...الصحافة والجماهير الفضولية لن يتركوننا أبدا...
هرولنا بسرعة وأخذنا نعبر الأزقة الضيقة حتى بلغنا نزلا صغيرا وقد صمت مالكه حين أخرج بيدرو رزمة من المال وقال وهو يلقيها امامه:
- إياك أن تخبر الصحافة باستضافة نزلك لي وللثور ...
ثم قال ونحن نصعد الدرج:
- لو ملكت عقل هذا الثور لكنت تمتلك فندقا من سبعة نجوم وليس نزلا صغيرا كهذا...
شعر المالك بالخجل وطأطأ رأسه بحزن.

***

"هذا هو اليوم المشهود يا صديقي"...
نظر بيدرو من خلف نافذة الغرفة وقال:
- الصحفيون وكل وسائل الإعلام والجماهير الفضولية متجمعون عند مدخل النزل..لقد غدر بنا الحقير... اليوم هو يوم المهرجان... لقد قيدتك كثور مصارع...
أمسكني من رأسي وهزني فأنسدل شعره البني على جبهته:
- لقد راهنت بكل ما أملك باسمك يا صديقي... هذه ليست مدغشقر .. هنا إما أن تموت وأخسر أنا .. أو تنتصر ونربح سويا الملايين..لذلك ارجوك... أرجوك يا صديقي لا تخذلني...لا تحطمني...
ثقبت عينيه بنظرة قاسية فشعر بالطمأنينة.

***

(الحشود تملأ مقاعد بلازا دو توروس دو بامبلونا...الساحة تنتظر الأبطال.. المقاعد ممتلأة وهناك من يقفون فوق ظهور بعضهم ، مئات من الفتيات الحسناوات يرفعن صورة الثور الغريب...الثور الذي فر من مجاهل مدغشقر .. ليكون اليوم بيننا.. إن اسبانيا كلها ترحب بهذا المصارع القوي الذكي.. ولكننا نحذره.. ضيفنا العزيز.. بامبلونا ماتدورس هم الأشجع في العالم..هم الأذكى... لذلك لا تتوقع أنك ستتنزه في هذه الحلبة كما كنت تفعل في الأيام الماضية... هنا ليس متحفا..هنا الدم.. هنا الموت يا ضيفنا المتباهي بنفسه)...
كان صوت المذياع عاليا عبر مكبرات الصوت يخترق ضجيج الجماهير المتحمسة...دخلت إلى الحلبة... رفعت رأسي ورأيت الحشود الضخمة... الفتيات الحسناوات يرفعن صوري...ليس الماء وحده إذن ما يعكس صورة الكائنات...وليست تلك الصور هي أنا.. إنها لثور غبي أحمق... أما أنا فلا .. أنا شيء آخر... إنني أعظم من تلك القطعان الكئيبة التي تركتها خلفي..بل أعظم من كل هذه الحشود البشرية التي تحاول الاستمتاع برؤية الدماء تنفجر من جسدي...
ارتفع خطمي إلى السماء وأصدرت خوارا طويل.. خوار الأبطال ... خوار الموت... خوار الدم... خوار النصر ... فأصابت الجماهير لوثة من الجنون وباتت تصرخ بهوس... وازداد الصراخ حينما رأيت المصارع البشري يدلف لواجهتي واقفا من على البعد حاملا خرقته الحمراء... لقد أراني بيدرو كل حلقات المصارعة السابقة وشرح لي القانون الوحيد الذي يحكمها.... قانون الموت...
كان المصارع شابا متوسط الطول رشيق البنية .. كان جميلا جدا .. لم يكن وسيما بل كان جميلا... فحزنت عليه....
رفع المصارع يده للجماهير فتعالى صراخها .. ثم وقف أمامي وتبادلنا النظرات .. كانت نظراته ساخرة وابتسامة متعجرفة ترتسم على ثغره...أما أنا فرمقته بنظرة قاسية ومتأملة...أيها البشري الأحمق.. أنا من غادر قطيع الحمقى من الأبقار والثيران لأنني ذكي..وأنت من ستغادر قطيع البشرية لأنك غبي...
وكما كان الماتادور يتوقع هرولت نحو الخرقة الحمراء فبقى ثابتا وهو ينتظر أن أبلغها وأنطحها بقرني العظيمين...كنت أعطيه ما يرغب حتى تلك اللحظة التي ظن فيها أنه قد حقق مراده.. تلك اللحظة التي كانت الخرقة الحمراء لا تبعد عني سوى نصف متر فقط... اللحظة التي فاجأته فيها بانحراف سريع منقضا عليه مباشرة .. وقبل أن يفهم شيئا كانت قروني تنغرس في صدره وتحمله إلى السماء ثم تلقي به على الأرض ميتا... وألجمت الصدمة الجماهير ... كان الصمت قد ضرب الأرض والسماء.. وبكل غرور تقدمت نحو جثة الشاب..رأيت وجهه الجميل شاحبا..والدماء لا تزال تنساب من قلبه...وضعت ظلف رجلي اليمنى فوق صدر جثته ورفعت خطمي إلى السماء ثم أطلق خوارا مرعبا... كانت الشمس فوقي تتكدر بالسحب الرمادية... وكان ظلي على الأرض يتعملق ...
بدأت الحشود تستعيد وعيها.. الفتيات اللائي فقدن وعيهن تم إخراجهن من المدرجات .. ورأيت بيدرو يهرول نحوي ثم أمسكني من رأسي وهزني قائلا بنبرة قاسية:
- أحسنت يا صديقي... لقد اصبحنا مليونيرات... سننتقل سويا عبر يختنا الخاص حول العالم... ستشاهد تلك الطبيعة الحمقاء التي لا أعرف سبب عشقك لها...
كان يتعرق رغم أن قطرات من المطر بدأت تغسل شعره البني الناعم...
عض أسنانه وهو يقول:
- هناك مهمة أخيرة.. هل ترى هذه الجماهير .. إنها تطلب نزالا مع مصارع ثان رغم أن هذا مخالف للقوانين...إنهم يرغبون في قتلك .. يريدون رأسك..فلا تمنحه لهم.... عندما يدخل المصارع لا تهاجمه.. ابتعد عنه فقط.. ابتعد ليشعروا جميعا بنصر وهمي يخفف كارثة مقتل الماتادور...كن ذكيا يا صديقي...
لطمنى على رقبتي وغادر الحلبة مرفوع الرأس...
بيدرو ذكي جدا .. ليس أحمقا كما كنت أظن... لا تستمر في معركة تعلم أنها خاسرة... انسحب قبل فوات الأوان...
انتظرت دخول المصارع ورائيته بالفعل... رجلا أربعينيا قبيح الشكل.. مستطيل الرأس أصلعه إلا من شعيرات متطايرات خلف أذنيه....كان متجهما... كانت عيناه تحملان اصرارا عجيبا على قتلي...مسح رزاز المطر الخفيف عن جبهته ولوح بخرقته الحمراء... كنت انظر في عينيه دون أن أبدي أي حراك...استمر يلوح بخرقته حتى شعر باستفزاز شديد فهجم علي والجماهير تصرخ....
(اقتل الشيطان..اقتل الشيطان.. هذا ليس من سلالة البرابو بل من سلالة الشيطان)
قلت في نفسي وأنا اعدو محاولا مغادرة الحلبة:
"كم أنتم همج .. كم انتم رعاع... لم تتخلصوا أبدا من ماضيكم المظلم المليئ بالدموية..."..
تزحلق ظلف قدمي اليسرى حين وطأ بركة ماء صغيرة ووجدت جسدي يتهاوى على الأرض... ازداد جنون الجماهير .. كانت ساقي محطمة ورايت المصارع القبيح يتقدم نحوي والحقد يلون قسمات وجهه...رفع حربته الصغيرة وغرسها في ظهري بقسوة...كان الألم شديدا... حاولت النهوض لكنه عاجلني بطعنة أخرى وكانت الجماهير تتجاوب مع كل طعنة بالصياح المنتظم بصوت ونغمة واحدة... غرس الثالثة .. فانسالت خيوط الدماء واختلطت بقطرات المطر.. والحشود تزداد وحشية... رأيت بيدرو يقف مذهولا من بعيد..عيناه متسعتان بفزع عظيم...المصارع الحقير لم يمنحني فرصة النجاة.. كان يغرس سهامه فوق ظهري وعلى جوانب رقبتي.. سنامي وكفلي ..لم اجد بدا من محاولة النهوض .. ورغم الارهاق الشديد.. دفعت بساقي المكسورة على الرمل... ثم صلبت جسدي والمصارع يستجيب لصياح الجماهير فيغرز المزيد من الحراب في جسدي...وحينما شعرت باقتراب الموت رفعت خطمي إلى السماء وأطلقت خوارا كئيبا .. خرج من أعماق صدري.. ثم قفزت قفزة واحدة إلى الخلف وسددت رفسة بآخر ما أملكه من قوة....ثم تهاويت على الأرض ولم أر شيئا بعد ذلك...

***

فتحت عيني لأجد جسدي مقيدا بالجنازير القوية ، وملقى فوق ناقلة متوسطة الحجم... رأيت بيدرو واقفا في الأسفل ينظر لي بحزن...
اقترب مني ومد يده ومسح خطمي قائلا:
- لقد مات المصارع الثاني أيضا.. رفستك العنيفة أصابت حجابه الحاجز وقلبه فمات على الفور...
نظرت إليه بصمت...طأطأ رأسه ونظر إلى الأرض بحزن:
- الناس هنا هم أيضا كسكان مدغشقر يا صديقي...
نظر نحوي بعينين دامعتين وهمس:
- تفهم قصدي طبعا....
هززت رأسي وأغمضت عيني...
أما بيدرو فقد طبع قبلة بين عيني وغادر....
تحركت الناقلة ببطء واهتز جسدي...تذكرت تلك اللحظة التي سقطت فيها من مؤخرة أمي مكسوا بالمخاط والدماء ...
تذكرت نظرات القطيع البلهاء ..
فهمست بألم:
- كم كانوا طيبين... كم كانوا طيبين حقا...




(تمت)
images-18.jpeg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى