دريني خشبة - 5 - نشأة المسرح الإنجليزي.. (معلومات طريفة كثيرة عن نشأة هذا المسرح)

أشرنا في الفصل الأول من هذه الفصول عن نشأة الدرامة الإنجليزية إلى المسرح المتحرك (المتنقل) أو ال ونتكلم في هذا الفصل عن نشأة الفرق التمثيلية، ثم عن المسارح البدائية وأول ما عرفت إنجلترا منها. وقد قدمنا أن رجال الكنيسة هم الذين اضطلعوا أول الأمر بتمثيل الروايات الإنجيلية والدرامات القديسية، وأنهم أصحاب الفضل في تربية الذوق المسرحي وطبعه في وعي الجماهير حتى انتقل زمام التمثيل من أيديهم إلى أيدي رجال النقابات وما قامت به تلك النقابات من مجهود مشكور في تشجيع المؤلفين والممثلين المحترفين، ثم نوهنا بما كان لرجال البلاط الإنجليزي والأمراء والنبلاء وأعيان البلاد من فضل في الأخذ بيد هذا الفن الناشئ ومد رجاله بما يفتقرون إليه من المال الذي لا ينجح مشروع بدونه. ولقد نشأ الاحتراف في المسرح الإنجليزي من ناحيتين، الأولى هي ناحية صبيان الكنائس الذين كان يتألف منهم الخورس أو المنشدون - وقد عنى بتدريب هؤلاء الصبيان على التمثيل منذ نعومة أظفارهم لكي يتفرغوا لأداء الأدوار التمثيلية في مختلف الروايات خصوصاً بعد أن أصبح إقبال الجماهير على مشاهدة التمثيل إقبالاً رائعاً، وما حدث نتيجة لهذا الإقبال من استغلال التمثيل استغلالاً اقتصادياً كانت أول موارده تلك المزادات التي أشرنا إليها سالفاً، والتي كانت تدر على النقابات الأرباح الطائلة. من هنا رؤى انقطاع هؤلاء الصبيان لهذه الحرفة الجديدة التي جمعت بين شرف العمل وشرف الكسب مع صلتها المتينة بالأدب الإنجليزي الذي كان وما يزال نوط العزة على صدر كل أديب في إنجلترا. أما الناحية الثانية التي نشأ عنها الاحتراف فهي تلك النقابات التي تكلمنا عنها آنفاً. هذا، وقد تألفت بعد ذلك جماعات من أولئك المحترفين كانت باكورة (الفرق التمثيلية) في إنجلترا، وكانت كل جماعة تتمتع برعاية أحد النبلاء حتى لا تقع تحت طائلة قانون (المتشردين!) وذلك لكثرة تقلبهم في البلاد، وتنقلهم من قرية إلى أخرى، ولأن الحكومة الإنجليزية لم تكن قد اعترفت بعد اعترافاً رسمياً بهذه الحرفة الجديدة، فكان أفراد الفرقة من هذه الفرق يجيئون ويروحون تحت اسم: (خدم فلان من اللوردات أو الدوقات أو رجال البلاط!) حتى يكونوا بنجوة من معاكسات رجال الإدارة (!) ومشاكستهم، فهذه فرقة (خدم الأيرل أوف ليستر)، وتلك فرقة (خدم البلاط الملكي)، وهذه فرقة (خدم دوق أوف سومرست)، وهكذا. . . والحقيقة أنه لم تكن ثمة أية علاقة بين هذا الدوق أو ذاك الأيرل، وبين الفرقة التي انتحلت لنفسها رعايته انتحالا. ولقد كان المسرح الأول الذي تؤدي فيه الدرامة، هو إما بهو من أبهاء البلاط وإما رواق من أروقة قصور الأمراء أو النبلاء أو عظماء الشعب، فإن لم يوجد هذا أو ذاك ففي بهو من أبهاء الفنادق، أو في أحد أروقة جامعتي أوكسفورد وكمبردج. على أن أبهاء الفنادق كانت أحفل الجميع بالتمثيل المنتظم المستديم - في جميع أيام الأعياد بالطبع - لأنها لم تكن أبنية خاصة كقصور الملوك أو الأمراء مثلاً، ولذا كانت أقرب إلى الارتياد الحر وأيسر إلى أفراد الشعب من غيرها. وكانت فنادق المدينة تبنى كلها في موضع واحد منها حول ميدان، أو ساحة كبيرة تنتظر فيها العربات والدواب، وما إلى ذلك من وسائل النقل والحمل؛ فكانت شرفة الفندق الأوسط تستعمل مسرحاً، ويقف النظارة من أفراد الشعب في الساحة أو الباحة أو الميدان. أما السفر من نزال الفنادق فكانوا أسعد حالاً؛ إذ كانوا يجلسون في عظمة وإدلال وأبهة في شرفات غرفهم فوق الأرائك والكراسي الفخمة، حيث يطوف عليهم الخدم بالأطايب والأشربات. ولم تكن المناظر المسرحية قد عرفت بعد، بل كانت تحل محلها (سبورة)! يكتب عليها بالخط الكبير اسم المنظر الذي يجب أن يتوهمه النظارة توهما، فيكتب مثلاً: (هذه قلعة جلوم!) أو (هنا غابة آردن!) وهكذا. . .

أما كيف أنشئ المسرح الأول فلذلك سبب عجيب مضحك في آن معاً. . . ويجب قبل إيراده الرجوع قليلاً إلى التاريخ الاجتماعي لإنجلترا، وإلى هذه العصور التي كانت (مسز جراندي!) رمز الحفاظ والتمسك بأهداب التقليد والآداب المرعية تتحكم في المجتمع البريطاني تحكما جباراً لا يسهل الفكاك منه. . . ويجب كذلك أن ننذكر ذلك الروح الطهرى الذي كان يسود الحياة في المدن الإنجليزية عامة، ولندن - أم القرى! - على وجه الخصوص. . . ذلك الروح المتزمت الرجعي الذي كان يضيف التمثيل إلى شعبذات المهرجين ومساخر الحواة وأكلة الثعابين ومروضي الوحوش ومراقصي الدببة والقرود ومصارعي الثيران، ومن إلى هؤلاء جميعاً من سائر البهاليل (!!). . . هذا الروح الطهرى هو الذي دفع محافظ لندن إلى محاربة التمثيل والممثلين بالقوانين. . . فأصدر تشريعاً صارما يخطر على رجال النقابات والفرق التمثيلية غشيان أبهاء الفنادق إلا بتصريح خاص - قلما كانوا يحصلون منه على هذا التصريح - كما حضر عليهم التمثيل في الميادين والطرقات العامة أو المتنزهات التي ما جعلت في زعمه إلا للراحة والترفيه عن الشعب اللاغب المتعب من عناء العمل؛ وكذلك حضر عليهم التمثيل مطلقاً أيام الآحاد. . . ولم يشأ رجال الفرق أن يشاغبوا جبروت هذا التشريع التعسفي، بل آثروا السلامة، وانتقلوا بقضهم وقضيضهم إلى الضفة الجنوبية من نهر التيمس، حيث لا سلطان لهذا المحافظ الجاهل ولا لتشريعه الخانق عليهم. وهناك استأجر جيمس بربيدج قطعة من الأرض في بلاك فرايرز لمدة إحدى وعشرين سنة وأقام عليها (تركيبة!) من الخشب سنة 1576 أطلق عليها اسم (التياترو) فكان هذا أول المسارح الإنجليزية التي مهدت لأعظم مسارح العالم

ثم أنشئ قريباً من هذا المسرح فيما بعد مسرح الكرتين (الستار الذي اشتغل به الشاعر الكبير بن جونسون ممثلاً بسيطاً في صدر شبابه. ولم يكن الكرتين يتمتع بالسمعة الطيبة التي كان يتمتع بها المسرح الآخر، بل كانت العلية تصد عنه وتعتبر الذهاب إليه نقيصة أدبية. . . والظاهر أ، هـ لم يكن يعرض إلا الدرامات الثانوية (روايات الدرجة الثالثة!)، وذلك بالرغم من أنه أخرج درامة شيكسبير الخالدة (روميو وجولييت) سنة 1596. وكانت أجرة الدخول في هذا المسرح بنساً واحداً يضاف إليه بنس آخر لمن أراد كرسياً في الأبهاء أو فوق المسرح

ومن المسارح الأخرى التي أقيمت بعد هذين المسرحين الروز (الوردة) والسوان (البجعة)، قريباً من السوان كان يوجد ملعب البير جاردن حيث كان الناس يستمتعون بمشاهدة مروضي الوحوش، وتقاتل هذه الوحوش نفسها ضد بعضها. . . أما مسرح السوان فكان يمتاز من مسرح الجلوب العظيم (الذي سيلي وصفه) بما كان فيه من مسرح إيضافي لتمثيل الروايات التي من طراز (هملت)، وحجرة نوم للروايات الت يمن طراز عطيل حيث تنام ديدمونه، وكان به شرفة لتمثيل روميو وجولييت، كما استعملت فيه الستار لأول مرة لقسمة المسرح وذلك لتبديل المناظر. وكان يحتوي غرفة للممثلين خاصة تتصل بالخشبة بباب فلا يراهم النظارة حين ينتهون من أداء أدوارهم - ومن الظريف أن حجرة الممثلين هذه كانت بأعلى التياترو!، وكان لها سلم لولبي لكي لا يشغل حيزاً كبيراً، كما كانت إلى جانيها حجرة المؤذنين الذين يدقون الطبول إيذاناً ببدء التمثيل. وكان الصوان كبيراً جداً بحيث يتسع لثلاثة آلاف من المتفرجين!

ونعود إلى المسرح الأول - التياترو فنذكر أنه لما رفض صاحب الأرض تجديد عقد الإيجار، اضطر بربيدج إلى فك أخشاب مسرحه ونقلها مع جميع أدواته الأخرى إلى الشاطئ الآخر من النهر، في سوثوارك حيث أنشأ مسرح الجلب العظيم سنة 1598 - وكان عمر شيكسبير إذ ذاك أربعا وثلاثين سنة بينما كان عمره عند إنشاء المسرح الأول اثنتي عشرة سنة فقط

أما هذا المسرح الثاني (الجلوب)، فقد كان من خارجه سداسي الأضلاع، أما من الداخل فكان مستديراً، ولم يكن مسقوفا إلا من فوق أبهائه التي كانت تذكر بأبهاء الفنادق، وكانت هذه مغطاة بنوع من القش المعروف عندنا بالسمار، وهو الذي تصنع منه الحصر؛ أما البت - أي خشبة المسرح، فقد كان موضعها في الوسط على ارتفاع أربعة أقدام، ولم تكن حولها مقاعد من نظارة الذين كان شيكسبير يسميهم وكان عليهم أن يقفوا طول وقت التمثيل - أما نظارة الأبهاء (البناوير والألواج) فقد كانت لهم مقاعد خشبية، كما كانت توجد مثل هذه المقاعد أيضاً فوق خشبة المسرح نفسها، وكان فرق ما بين الواقفين والجالسين هو أن يدفع هؤلاء ستة بنسات أكثر على أن يسمح لهم بشرب الجعة (البيرة) والتدخين بالغلايين. وكانت هذه الطبقة المنتفخة الممتازة تسمى طبقة ال وكان منها عدد من الشباب الظريف المثقف يجلس هناك مجلس الصحافي المسرحي، لينقد المناظر والإخراج وأداء الممثلين في فترات الاستراحة بين الفصول. وكان التمثيل يبدأ عادة حوالي الساعة الثالثة بعد الظهر، وكانت تسبقه ثلاث دقات تنبيهية بالطبلة النحاسية (الترمبيته) وكانت البرامج تطع بالمداد الأحمر إذا كانت التمثيلية مأساة، وإلا فبالمداد العادي. ولم تكن هناك أية مناظر في أول الأمر. ولم تكن ثمة أية عناية بالتوزيع الضوئي. وكانت السبورة أو لوحة الإعلانات تقوم مقام المناظر بكتابة أسمائها عليها كما ذكرنا. ولشارلز لامب في ذلك تسجيل أدبي رائع من شعره الظريف. وكانت الأدوار النسائية تسند إلى ولدان من ذوي الجمال في الجسم والوجه والصوت. وكان لكل فرقة بهلول (بلياتشو!) يشعبذ في فترات الراحة بين الفصول، فكان أحياناً يغني أو يشهر ببعض الشخصيات التي يثير التشهير بها كثيراً من الضحك بين النظارة، كما كان يعلق بأسلوب فكه على أهم حوادث اليوم. فإذا انتهى الممثلون من آخر فصول الدرامة اجتمع كل أفراد الفرقة في ركن من أركان المسرح، ثم ركعوا تحية للملك والملكة، وهو ما يشبه السلام الملكي اليوم. . .

هذا، وقد بدئ باستعمال المناظر المتحركة بعد النهضة الإصلاحية، وكان الفضل في استعمالها لسير وليم دافنانت وكذلك حل النساء محل الولدان في تمثيل الأدوار النسائية سنة 1661. ذاك وقد كان لكل مسرح من المسارح الإنجليزية علامة مسجلة؛ فعلامة الجلوب صورة للبطل اليوناني الخرافي الجبار هرقل حاملاً بيديه المريدتين كرة أرضية، وكان على مقربة من الجلوب مسرح البلاك فرايرز، وكان شكسبير يؤلف دراماته لهذين المسرحين خاصة، كما كان يساهم في التمثيل وفي الأرباح على السواء. وقد كان الجلوب هو المسرح الصيفي، أما الآخر فكان مسرح لندن الشتوي العتيد، وبذلك امتاز عن الجلوب الذي كانت المسارح الأخرى تنافسه منافسة شديدة، ولا سيما مسرح الفورشون (الحظ) الذي أنشئ سنة 1599 لمنافسة شكسبير. وكانت كل هذه المسارح الصيفية ما عدا الفورشون قائمة وسط مستنقعات كبيرة، وكان المتفرجون يصلون إليها فوق جسر طويل. وقد حدث في سنة 1613 أن شب حريق كبير التهم المسرح العتيد كله، ولم يلبث صاحبه أن جدده في السنة التالية. وقد انتهز الفرصة فاستبدل بالخشب الملاط، وبقش السار الإردواز، واصطنع خشبة المسرح من ألواح السنديان، كما خص الممثلين بغرفة كبيرة خلفية يستجمون فيها، وزاد في عدد الأبهاء (البناوير) فجعلها ثلاثة صفوف بدل صف واحد. وقد كلفه المسرح الجديد ثمانين وثمانمائة من الجنيهات قيمتها الآن ثمانية آلاف. ذاك وقد كثر عدد المسارح في أواخر عهد الملكة اليزابث داخل لندن نفسها، فكان ثمة مسرح الكوك بت أو الفونكسن ومسرح الردبول. . الخ. وقد أحصيت هذه المسارح فكانت أحد عشر مسرحاً. على أن المنافسة الشديدة الحق كانت بين اثنين منها فقط، وهما: الجلوب وكانت تحت رعاية اللورد تشمبرلن، والفرشون وكان تحت رعاية اللورد أدميرال؛ وكانا كلاهما يتمتعان برعاية الملك المباشرة. وكان من هذه المسارح ما هو خاص وما هو عام. وكانت الهيئة التي تشرف على المسارح الخاصة، مثل الكوك بت والسالسبري والبلاك فرايرز، هيئة منتقاة يراعى في اختيارها شرائط لا داعي لذكرها هنا. وكانت المسارح الخاصة على العموم أصغر بكثير من المسارح العامة كالجلوب والفرشون والردبول، كما كانت مسقوفة دائماً ليستمر التمثيل فيها طول العام، بعكس المسارح العامة التي كانت مكشوفة الوسط لاتساعها، ولم يكن يستمر التمثيل بها غير أشهر الصيف، من ثلاثة أشهر إلى خمسة. أما في الشتاء، وهو سبعة أشهر تقريباً، فقد كان الضباب الكثيف يحول دون التمثيل فيها، خصوصاً والمشاعل لم تكن قد استعملت بعد. وقد اقتبست المسارح الإنجليزية في أوائل القرن السابع عشر وسائل المسرح الفرنسي الآلي في إخراج المناظر المختلفة. وكانت وسائل فجة غير رائعة، وكانت تستعمل في إبراز الغابات أو القصور أو المدن، كما أخذت عن المسرح اليوناني القديم طريقة الستار الأسود في أقصى المسرح إذا كانت التمثيلية مأساة. . . على أن هذا النقص في الإخراج كانت تستره مكتبة المسرح، إذ كان لكل مسرح مكتبة محترمة تتألف من أصول الدرامات التي يقوم بعرضها، ثم من مئات من أمهات الكتب التاريخية والمسرحية والأدبية، ولم تكن المكتبة حبساً على الممثلين، بل كان الشعب ينال منها نصيباً لا بأس به من الاطلاع. وقد تضاعفت هذه المكتبات بعد نشاط الطباعة وتقدم وسائلها الحديثة، وصار المؤلفون المسرحيون يعنون بطبع دراماتهم والوقوف على طبعها بأنفسهم. ولم يكن أحسن مسارح لندن يشتري من أحسن هؤلاء المؤلفين حق تمثيل إحدى دراماته بأكثر من ثمانية جنيهات (تساوي الآن ثمانين!)، وكان أصحاب الفرق يستغلون المؤلفين استغلالا دنيئاً، فكان المؤلف الفقير يقترض من مدير إحدى الفرق مبالغ تافهة على أن يقدم بها درامة أو درامتين، فإن عجز عن السداد دخل الربا بين الطرفين، وظل المؤلف مستعبداً إلى الأبد. على أن عدداً قليلاً من المؤلفين استطاع أن يقف من هؤلاء المديرين موقفاً حازما، إذ استطاعوا أن تكون لهم حصتهم في ميزانية المسرح، وعلى رأس هؤلاء مارلو وبن جونسون شكسبير

وكان النساء محرومات من غشيان المسارح بادئ الأمر، فلما خفت وطأة المسز جراندي، أخذن في الاختلاف إليه حتى أصبحن عنصراً هاما فيه. . . ممثلات ونظارة!

(يتبع)

دريني خشبة


مجلة الرسالة - العدد 536
ن
بتاريخ: 11 - 10 - 1943

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى