شهادات خاصة جعفر الديري - عبدالرزاق الصافي: بغداد الخمسينات تاريخ وثقافة

أشار الكاتب العراقي عبدالرزاق الصافي الى النهضة الثقافية والوطنية الكبيرة التي شهدتها بغداد أيام الخمسينات والتي أصبحت بموجبها تمتاز بوطنية وثقافة عالية مست جميع أدوات التعبير كالفن والشعر والمسرح. وقال الصافي إن الأسماء العراقية الشعرية والفنية الكبيرة مثل الجواهري والسياب ونازك الملائكة وجواد سليم كانوا يشكلون وقتها حركة ثقافية عظيمة، ممتدة الى جميع المدن العراقية بما فيها كربلاء التي تفاعلت بقوة مع الحركة الشعبية.
وكان الصافي في محاضرة له عن «المدينة العراقية - كربلاء بغداد نموذجا»، أحياها في مركز الشاخورة الثقافي مساء الاثنين الماضي 12 ابريل/ نيسان الجاري قد تطرق الى العاصمة العراقية بغداد وذكرياته عن أيامها العاصفة مردفا الحديث باسهاب عن مدينة كربلاء التي كان له بها اتصال أكبر، اذ كان فيها مسقط رأسه وبيت عائلته.
وقال المحاضر «منذ العام 1948 وحتى العام 1958 و1960 ، عشت في بغداد ورافقت جميع حوادثها النضالية والثقافية، فهي مدينة تمتاز بوطنية عالية، وبحركة نهضوية جديدة على صعيد الشعر والفن والمسرح اذ كانت تشكل جزءا من القوى الوطنية، فلم يكن هناك مسرح تجارب في بغداد وانما مسرح شعبي، وكانت الحركة التشكيلية وقتها تلقى تعنتا من قبل الفئة الحاكمة، الأمر الذي شكل ضغطا على الفنانين العراقيين الذين كانوا يلجؤون الى المعارض المشتركة، كذلك كانت بغداد وقتها تتفاعل بحرارة مع نضالات الشعوب العربية ومن ذلك نضال الشعب المصري العام 1952 والعام 1956 حين حدث العدوان الثلاثي».
ثم تكلم عن مدينة كربلاء، عارضا ذكرياته الطفولية بقوله «ان أول الذكريات التي تطرق عقلي من ذكريات المدينة العراقية كربلاء، أيام الثلاثينات من القرن الماضي، إذ كان بيتنا يقيم ثلاثة مجالس للعزاء الحسيني الأول منذ الصباح الباكر والثاني في الظهيرة والثالث مع المغرب، فتلك المجالس كانت منتشرة في كل بيت من بيوت كربلاء، الأمر الذي يمكننا من القول ان كربلاء هي مدينة الحسين، فهي مطبوعة على المآسي والمآثر أيضا، فقد شهدت واقعة كربلاء الشهيرة حين اتخذ الحسين قراره هو وجمع من أهله وصحبه لا يتجاوزون اثنين وسبعين فردا برفض المبايعة، فكربلاء كانت مهد الزيارات، وخصوصا زيارة الأربعين، اذ يروى أن الامام زين العابدين (ع) عاد برأس والده من الشام الى كربلاء، والغريب أن هناك مزارات أيضا في دمشق والقاهرة لمقام رأس الحسين، فهؤلاء الذين لهم تاريخهم واستشهادهم كثيرا ما حيكت حولهم الأساطير، وتلك الصورة التي علقت بذهني عن كربلاء الحسين منذ نعومة أظفاري، خلقت في نفسي حافزا كبيرا للنضال ضد الظلم والعبودية ومصادرة حق الأمم في تقرير مصيرها، فالحسين ومآثره الخالدة هو جزء من التكوين الثقافي والنضالي العراقي»، مضيفا «ومن ذكرياتي أيضا أنني دخلت المدرسة الابتدائية وعمري ست سنوات، وفي احدى الأيام دخل علينا ناظر المدرسة والدموع تترقرق من عينيه ليخبرنا أننا اليوم في اجازة والسبب مقتل الملك غازي، الذي قال الانجليز إنه مات في حادث حيث كان يسوق سيارته بسرعة فاصطدم بعمود انارة، ولم يصدق أحد من العراقيين هذه الرواية فقد كان الناس يعتقدون أن غازي قتل، وهذا ما أثبتته شهادة الشهود بعد ذلك بسنوات، ومن ذلك أيضا أنه في يوم من أيام الثلاثينات رفع العلم العراقي لأول مرة وكان يوما شديد الحرارة ليس به نسمة هواء واحدة، فرفع العلم ولكنه لم يرفرف عاليا، وفي أواسط الثلاثينات أيضا أيام العاشر من المحرم كان الناس يشجون رؤوسهم بالسيوف، فتدخلت الحكومة وقتها ولكنها لم تفلح في منعهم».
وتابع عرض ذكريات الثلاثينات بقوله «ما أتذكره أيضا أن كربلاء كانت تعاني من الأمية المتفشية والفقر المدقع مع الأمراض، وكانت على عكس النجف التي تسلمت المرجعية منها، فقد اختارت النجف في بداية تأسيس الدولة العراقية فتح مدارس ثانوية بها الأمر الذي مكن طلابها من أن يكونوا مؤهلين لوظائف جيدة مثل التوظف في الحكومة أو الانخراط في سلك التعليم، ولكن كربلاء ظلت مقتصرة على المدارس الاعدادية، وشكل ذلك عقبة أمام من كان يريد اكمال دراسته اذ لم يكن الآباء الفقراء قادرين على ارسال أبنائهم للدراسة في النجف وتحمل مصاريف سكنهم ودراستهم».
ثم روى شيئا من تاريخ كربلاء وحوادثها الجسام بقوله «لقد شهدت كربلاء شأنها شأن المدن العراقية الأخرى أواسط الأربعينات حركة وطنية بدأت بالمطالبة بضمان حقوق الناس، ففي صيف 1946 مع نهاية الحرب العالمية الثانية العام 1945 اذ كان صيفا عاصفا، لم يتم الافراج عن ناشطين اتهموا بموالاتهم للنازية ابان الحرب العالمية، فقامت حركة وطنية فاضطر أصحاب القرار للافراج عنهم، ومات جعفر أبو تمن وكان زعيما وطنيا وهو الوحيد الذي اكتسب هذا اللقب من دون أن تكون هناك جهة معينة تدعمه، وكان هناك احتفال مهيب لوفاته شاركت فيه جميع الأحزاب الوطنية، وكان عريف الحفل هو المرحوم محمد مهدي كبة الذي صار رئيس حزب الاستقلال، وألقى كل من بحرالعلوم والجواهري قصائد عصماء شديدة يومها، تندد وفي مارس/آذار من العام نفسه شكلت الوزارة الجديدة وهي الوزارة الوحيدة التي أجازت الأحزاب، كالحزب الوطني التقدمي وحزب الاستقلال وحزب الأحرار، وفي العام 1946 ابتدعت الفئة الحاكمة شيئا جديدا اذ اعتبرت الصحف أداة جريمة، فلم تعد تكتفي بمحاكمة مسئول الصحيفة وانما بتعطيلها، بل ان السلطة ارتكبت في العام نفسه مجزرة ضد العمال الذين خرجوا في مظاهرة سلمية ضد السلطة، اذ اجتمعوا في مكان يدعى «جاورد باغي» وهو أشبه بالحديقة أو بالغابة، فانقض عليهم جنود السلطة وأعملوا فيهم النار فقتل يومها أحد عشر عاملا وجرح الكثيرون، وكان الرصاص الحي مستقرا في ظهورهم ما يعني انهم كانوا يحاولون الفرار ولكن الجنود لم يمهلوهم».
وأضاف «لقد شهدت كربلاء موجة عارمة من التظاهرات وصدرت صحف جديدة بعد هذه المجزرة، شارك فيها طلبة الجامعات والمدارس اذ قاموا بعمل لجان طلابية واتحدوا فيما بينهم في لجان اتحادية وشاركوا جميع البغداديين بعقد مؤتمر كبير سمي بمؤتمر السباع لأنه كان بساحة تسمى ساحة السباع، وكان يوما مجيدا من أيام كربلاء وبغداد».
الصافي: بغداد الخمسينات... تاريخ وثقافة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى