خيال علمي تيسير النجار - أمي والحب.. قصة قصيرة

طرق الباب طرقًا عنيفًا، أفزعني فلم نعتد زيارة أحد في مثل هذا الوقت وخاصة في ليالي الشتاء. تلفحت أمي بحجابها وفتحت الباب، كان رجلًا غريبًا سأل عن والدي، قال إن أبي مطلوب من قبل مسئول في الشرطة، حالة من الحيرة غلفتنا، ذعر أبي وجمع أوراقه الشخصية وبعض الأوراق المتعلقة بحالته الصحية، كنت أصغر من أن أسأل الرجل عن هويته فارتباك أبي شككني في براءته من أي تهمة، ولن أخفيكم سرًا، وددت لو أنه لا يعود، يتم نفيه أو قتله، ملأني شعور الإثارة أكثر من الخوف، لكن ذلك لم يمنعني من إبداء القلق واختلاس النظرات الحزينة له وهو راحل، أخوتي كانوا أشد انفعالًا وخوفًا مني، طلبوا أن يطمئنهم عليه، وحدها أمي كانت في الركن البعيد على جانب شفتيها ابتسامة مترددة بين الظهور والاختباء خلف ملامح اللامبالاة المعتادة، خرج أبي مع الرجل الغامض، فصرخت أختي بوجه أمي:

– ألم تستطيعي السيطرة على مشاعركِ، بدوتِ فرحة بالقبض عليه؟

ابتسمت أكثر، وتساءلت:

– أنا؟

– نعم أنتِ، لابد من تمثيل القلق أمامه حتى لا يعرف كم نحن نكرهه.

– سيعود ولم يلحظ شيئًا.

غفوتُ مـدة لا أعرفهـا، أيقظنـي البـرد حــين قــرص

أطرافي، سألت أمي:

– هل من أخبار عن أبي؟

– نعم، اتصل وأخبرنا أن صديقه كان يمازحه وسيقضي معه يومين.

لم أجب؛ فأبي كالقدر لا فرار منه، سحبت اللحاف على جسدي المنكمش وأطرافي الباردة، شردت مع أفكاري التي أطوعها دائمًا لسعادتي، مثلًا شعور الدفء والترابط داخل الأسرة هذا من نسيج المؤلف فكل ما نراه على الشاشة كذب وأحلام وكذلك الكتب التي أقرؤها مجرد خيال، أما الواقع فهو حياتنا، مجموعة من البشر تجمعهم صلة رحم ومنزل واحد. الأب كالحاكم الذي يجهل أحوال شعبه، عندما أرى الحب في الأسر الأخرى يتبادر إلى ذهني أنهم يمثلون أيضًا، فأنا طالما كذبت على صديقاتي قائلة أن أمي تساعدني في الدراسة وتحتضنني ليلًا، تشكو لي صديقاتي من الخناق بين أهلهم بسبب الغيرة والشك وخلافه، سألت نفسي لم لا تصادفنا مشاكل أو يعلو صـوت أمي ويتبادلان السبـاب، أو يترك أحدهمـا المنزل؟!

حالة من الركود واللاشعور تسكن منزلنا، يغضب أبي عند مطالبته بالمال فقط وسرعان ما يلتئم على اللاشيء، أمي لا تبالي وأبي يتهمنا بالغباء دون الاقتراب منا، أردت معرفة السبب هل نحن فقط هكذا؟

هل حين أتزوج سألاقى ذات المصير؟

سألت أكبر أخوتي:

– لِمَ أمي بهذه الحالة؟

– أي حالة؟

– ألا تفهمين أنها لا تفرح ولا تحزن أكاد أظن أنها لا تشعر؟

– كبرتِ، الآن فقط لاحظت حالتها؟

– هيا أخبريني ما الأمر؟

– في الماضي، أرغموها على الزواج من أبي وعمرها تجاوز العاشرة قليلًا، لم تكن تدري شيئًا عن الزواج وإدارة المنزل، حتى الطعام كانت تجهل إعداده، ألقوا بها في حياة أبي وهى ابنة المدينة المدللة، تركوها في قريتنا دون سند، ومنذ حينها فقدت الشعور وأصبحت جامدة.

لم أجبها، ولم تنتظر جوابي تابعت مشاهدة التلفاز، أما أنا رأيت مشكلة أمي تافهة؛ فهي لم تتعرض لحادث اغتصاب أو اليتم ثم التسول، إنها تزوجت، لكنها لم تتزوج رجلًا، بل تزوجت أبي، قالت خالتي:

– إن بإمكان المرأة تغيير طباع الرجل.

لكن أمي كانت طفلة مجردة من الخبرة كيف لها أن تروض وحشًا وهى مازالت تحن إلى دميتها؟

ذكرت لي أن أمي بلا قلب، فهي لم تبكِ موت والدتهــا؛

إنها عاقة، سألت أمي:

– لماذا لم تبكِ موت أمكِ يا أمي؟

قالت بجمودها المعتاد:

-لأنني بكيت موتها في المرة الأولى بلا دموع، بكيت بنزيف من روحي التي ماتت، لم تكن أمي فقط تشبهها، أمي ماتت حين تخلت عني وتركتني بمفردي.

أراقبها دائمًا تتقبل تطاول أبي عليها بصمت ظننته الخوف من بطشه، لكن الأمر لم يكن كذلك، حتى أخوتي تخضع لرغباتهم، أنا أتمادى في طلباتي ودلالي لم تعترض أو تتذمر، تقبل إن كان بيدها تنفيذ طلبي أو تبدي السبب عند الرفض، كنت أحبها لكن لامبالاتها تستفزني دائمًا في وضع رد الفعل لا تبادر بأي شيء، قالت أختي الوسطى:

– إنها تحبني أكثر منهم.

وقالت الكبرى:

– إن أمـي لا تعرف الحـب، فقـط تبحث عن راحتهـا،

وأن أكف عنها.

ما كنت لأكفّ، أود أن أعرف هل تشتاق إلينا فهي لا تزور أخوتي المتزوجين؟ أتحبني حقًا؟ هل أخرجتني من دائرة اللامبالاة ولامستُ قلبها الذي يجهل الحب؟

يخال إليّ كثيرًا أن بوفاة أبي سأجد سعادتي، فهو كالقيد الثقيل الذي يعيقني عن أي شيء، فكل شيء عنده مرفوض، وأنا عاجزة إلا عن تجرع الحسرة، هل بوفاة ظالمينا يموت الظلم؟ بالطبع لا، فالظالمين يتركون جروحًا لا تشفى وإن شفيت ندوبها لا تمحى، وتذكرنا بمرارة الظلم، فأمي تدفع ثمن جريمتهم بالحبس الانفرادي مع أبي، وتسدد فاتورة زواجها فينهب إرثها كل عام، امتص الحياة منها حتى ذبلت أهي ضحية أم تواطئت معه ضد نفسها؟ أتكره ضعفها أم تحتمي به؟

قالت أختي:

– إن أمي ماتت منذ زمن، وما نراه ما هو إلا جسد ضل

طريق قبره.

تمنيت لو أسكب من روحي فيها لتحيا، فأنا بحاجة لأم، تمنحني المال أحيانًا، يراودني شعور أن هذا حقي ولا إحسان في ذلك، إن كان أبي ظالمًا فهي تحاول أن تكون عادلة، لكنها كانت تنتظر الشكر، عملتُ في مطعم ولم أعد آخذ منها إلا عند الحاجة كسلف، فاشلة في الادخار وتتبعثر أموالي سريعًا فتأخرت في سداد ديوني، طالبت بجزء منها أمام ضيوف أتوا لزيارتنا، أعطيتها ما معي وقتلني شعور اليتم، وأنني عالة حتى على أحب الناس إلي قلبي، تجمعنا أخوتي وأطفالهن وهناك طالبتني بالأموال بطريقة قاسية، كنا في بداية الشهر، وتعرف أنها معي، كنت أنوي دفعها لكن لمَ التعجل، وليس هناك ضرورة لذلك؟!

ثرت عليها وأخبرتها أنها تتعمد إهانتي، فهي تعطي أبي

دون مقـابل فتلك الأمـوال التي ادخرتهـا دون علمـه،

سلمتها له لأنه يمر بضائقة، صرخت بها:

– ولماذا تبخلين عليّ وأنا ابنتكِ؟

دخلت مسرعة وعدت ألقيت عليها الأموال بغضب، رأيت الذعر بعينيها لم أحاكمها من قبل، كنت دفاعها، لكنني سئمت وغضبت، تخضّبَ وجهها بالحزن وبكت أمي التي لا تبكي، بكت واتهمتني أن المال قد حجر قلبي عليها، كانت تظن أنى سندها وهاأنذا خذلتها، هربت مني الكلمات، أسعفتني دموعي، رحت أقبل يديها وقدميها سعيدة أنها تحبني، حزينة لأني أوجعتها، كانت تدعي اللامبالاة، إنها تحبني، بارحني شعور اليتم، ألقيت نفسي بحضنها ولا أدري ما حدث وجدتني ممدة على الأرض وجهها مذعور وبه بقايا دموع منسابة، قلت:

– سامحيني يا أمي.

هزت رأسها “نعم”، خرجت. بعدها عاد أبي.

قالت أختي:

– إن انفعال أمي لم يكن سببه الحب لي بل شعورها بالظلم مجددًا.

قلن حديثًا طويلًا لم أعِه لكنه سرق فرحتي وأعاد الشك؛ هل أمي لا تشعر ولا تحبني؟ جددت عهدي بعدم تركها إلا حين أصل إلى اليقين، أي يقين في عالم ثوابته معرضة للشك؟!

جاءت صرخة أختي معلنة سقوط أمي، هرعنا نحوها كانت مسجاة كما هي، سخونة أطرافها قد بارحتها. أمي إنه كابوس وسينتهي ونعود إلى عالمنا الذي أحلم به أب وأم وأطفال يجمعهم الحب يتسامرون ويتضاحكون، لمسة يدهم تقطر دفئًا حبًا أمي هل سامحتني؟ هل تحبينني؟ أمي ما بال دموعي تعصيني ولا تبكيكِ يا أمي.

(تمت)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى