أحمد حسن الزيات - في الأدب والنقد..

لعلك تقول لنفسك سائلاً أو هازلاً ما علاقة الأدب بالسندوتش؟ ولو كنت أريد الأدب الذي تعارفه أولو الجد من الناس لأعيا نفسك وأعياني أن ندلك على هذه العلاقة. ولكنني أريد الأدب الذي تتأدبه ناشئة اليوم؛ والسندوتش أو الشطيرتان بينهما الكامخ كما يريدون أن نقول، لقيمات تشتريها وأنت واقف في المطعم، وتأكلها وأنت ماش في الطريق، وتهضمها وأنت قاعد في المكتب، فلا تجد لها بين ذهول العجلة وتفكير العمل هناءة في ذوقك ولا مراءة في جوفك. وهذا الضرب من الطعام القائم على القطف والخطف جنى على الأسرة فحرمها لذة المؤاكلة ومتعة المنادمة وأنس العشرة؛ وجنى على المائدة فسلبها فنها الطاهي وذوقها المنظم وجلستها البهيجة؛ وجنى على الصحة فأضعف الشهوة وأفسد الهضم ونقص العافية. والثقافة الأدبية اليوم لاتختلف في سرعتها وتفاهتها وفسادها عن هذا النوع الجديد من الأكل، فهي نتفات من الكتب، ولقفات من الصحف، وخطفات من الأحاديث، ومطالعات في القهوة أو في الترام أو في السرير، يلقط الكلم فيها النظر الخاطف، كما يلقط الحب الطائر الفزع، ثم نتاج مختصر معتسر كجنين الحامل أسقطته قبل التمام، وصراخ مزعج في أذني هذا السقط ليستهل وهو مضغة من اللحم المسيخ لا تشعر ولا تنبض، وأصبح مآل غرفة المكتب في البيت كمآل غرفة الطعام وقاعة الجلوس فيه، بغى عليها سندوتش الصحيفة كما بغى على هاتين سندوتش البار والقهوة.

يقول أنصار السندوتش في الحياة: إن المائدة لا تتفق مع الزمن الدافق والعمل المتصل والتطور المستمر والحركة السريعة؛ فإن في طول الجلوس إليها، وقواعد الأكل عليها، وتعدد الألوان فيها، واحتفال الأسرة لها، إضاعة للمال والوقت، وقتلاً للنشاط والحركة، وجلباً للسقام والمرض.

ويقول أنصار السندوتش في الأدب: إن قواعد اللغة قيود لا توافق حرية العصر، وأساليب البلاغة عوائق لا تجاري قراءة السرعة، وبدائع الفن شواغل لا تساعد وفرة الإنتاج. والحق الصريح أن آكلي السندوتش أعجلتهم محاقر العمل ومشاغل الرزق عن النعيم الآمن، والجمام الخصب، والبيت المطمئن، فجعلوا صعلكة المطاعم نظاماً وفلسفة؛ وأن قارئي السندوتش صرفتهم وعوثة الطريق وتكاليف الغاية عن اكتساب الملكة، وتحصيل الأداة وتوفير المعرفة، فقنعوا بهذا الفتات المتخلف ثم تجشئوا من غير شبع، وتشدقوا من غير علم، وطلبوا محوا القيود والحدود والمقاييس ليصبح الأدب كوناً عاماً والفن حمى مباحاً، فيسموا راوي الأقاويل قصصياً، ووزان التفاعيل شاعراً، ونهاش الأعراض ناقداً، وسلاب القرائح نابغة؛ ولكن الطبيعة التي تحفظ سر الكمال، وتحمي ندرة النبوغ، وتبغي بقاء الأصلح، تأبى إلا أن يظل قراء السندوتش وآكلو السندوتش فقراء ذوي عمل، أو أغنياء ذوي لهو، لا تهيئهم الحياة المضطربة إلى زعامة في أمر ولا إلى نبوغ في فكرة.

أثار هذا الموضوع في ذهني طائفة من الرسائل النقدية تلقيتها من أقطار العربية تستنكر بعض ما تظهر المطابع المصرية من لغو الكهول وعبث الشباب، وتشدد النكير على بعض الأحاديث الأدبية التي تبثها الإذاعة اللاسلكية، وبعجب فاضل من بغداد وأديب من حلب كيف تمتهن مصر كرامتها فترفع صوتها الأدبي في العالم من فم شاعر له ديوان مطبوع وذكر مرفوع ثم لا يدري شيئا في قواعد اللغة ولا ضوابط العروض، فكان يقرأ النثر ولا يقيم لسانه، وينشد الشعر ولا يضبط ميزانه، حتى قالوا والعهدة عليهم إنه أنشد قصيدة ابن سعيد المغربي، وهي من بحر السريع على روي الكاف الساكنة، ففتح الكاف وجعل صدور الأبيات من بحر وأعجازها من بحر آخر!

الواقع الأليم أن الذين درسوا لغتهم وفقهوها من الأدباء النابهين نفر قليل، فإذا استثنيت هؤلاء الستة أو السبعة وهم من الكهول الراحلين، وجدت طبقة الأدباء كطبقات الصناع والزراع والتجار يأخذون الأمور بالتقليد والمحاكاة لا بالدرس والمعاناة؛ وكما تجد في هؤلاء من ينشئ المتجر ثم يكله إلى أجنبي ينظمه ويرتبه، تجد في أولئك من يؤلف الكتاب ثم يدفعه إلى نحوي يعربه ويهذبه. ولا نجد في تاريخ العربية قبل هذا العصر، ولا في تاريخ اللغات في جميع العصور، من يحسب نفسه أديباً في لغة وهو لا يعرف منها إلا ما يعرفه العامي الألَف. والغرور المتبجح والادعاء السفيه لا يستطيعان أن يحملا الناس على أن يقرءوا السخف، ولا الزمن على أن يبقي على الضعيف.

إن رسالة الأدباء كرسالة الأنبياء فيها عبقرية وجلالة وسمو. فإذا لم يكن الكاتب أو الشاعر خليقاً أن يسيطر على العقول والميول بمكانه في العلم وسلطانه في الأدب ورجحانه في الرأي كان أشبه بمن يدعي النبوة في مكة، أو بمن يمارس الشعوذة في لندن!

إن المدارس المصرية تعلم اللغة على منهاج غير واضح، والجامعة المصرية تبني الأدب على أساس غير صالح، والجامعة الأزهرية لا تزال تنفض البلى عن كتب ملتاثة التعبير من مخلفات العجمة، إن صلحت لشيء فلن تصلح لتعليم البلاغة. فليت شعري إذا خلت أمكنة هؤلاء النفر الذين نبغوا بالاستعداد والاجتهاد كيف تكون حال الأدب الرفيع في مصر؟ أيذهبون وبُطئان ما يُعوضون على رأي الأستاذ أحمد أمين، أم يذهبون وسرعان ما يُخلفون على رأي الأستاذ العقاد؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى