أدب السجون قاسم علي فنجان - سجن الكرخ المركزي والمعتقلات النازية

(لنزدد قربا من النار حتى نستطيع رؤية ما نقول)

تعد السجون والمعتقلات ومراكز الاحتجاز من اقوى اسلحة القمع للأنظمة السياسية على مر التاريخ, فلا يمكن الحديث عن نظام سياسي ما بدون مركز او مخفر للحجز, وفي كل دول العالم هناك وبالضرورة القصوى موقع جغرافي معين ذو بناء وشكل هندسي محدد, معزول عن العالم, عليه حراس لديهم خصيصة الولاء للنظام والحكم, وفي الاعم الغالب غير متعلمين, هذا البناء يخضع لقوانين ومحددات, اذا ما تم خرقها سيعاقب المذنب بأنواع مختلفة من العقوبات, ففلسفة هذا البناء هي العقاب الجسدي والنفسي, تعذيب لا نهائي لإنسان ارتكب "جرما" ما, او عارض نظام حكم, وهي كما يقول ميشيل فوكو((ان العقوبات بصورة عامة والسجن من مستلزمات تكنولوجيا الجسد السياسية)).
واذا ما القينا نظرة موجزة على بعض المعتقلات والسجون فأننا حتما سنصاب بالدهشة والعجب من بشاعة اساليب العزل والتعذيب والاغتصاب والقتل وكافة انواع الانتهاكات النفسية والجسدية, فمعتقل اوشفتز الرهيب الذي اسسه النازيون في بولندا كان قد قتل فيه اكثر من مليون انسان, ومن مختلف الجنسيات, وكان يحوي غرفا للغاز واخرى للحرق, غير اساليب القمع والاغتصاب البشعة الاخرى, وسجون ومنافي ال " قولاق" في سيبيريا الروسية وقد نالت من الشهرة اكثر من غيرها بسبب الكتابة الادبية عنها, وبالأخص الروائي العظيم ديستوفسكي في روايته " ذكريات من منزل الاموات", وزادت شهرتها اكثر ابان حكم ستالين, وقد كتب عنها الروائي الروسي سولجنستين روايته " ارخبيل قولاق", اما معتقل غوانتانامو الامريكي, وهو معتقل معزول في جزيرة لا يعلم عنه شيء او عن سجنائه, فهو محاط بسرية تامة, وتتحدث التقارير الاعلامية المسربة عن المعاملة البشعة للمعتقلين, وقد نقل الامريكيون تجربة معاملتهم للمعتقلين في سجونهم الى العراق بعد احتلاله عام 2003, فكان سجن ابو غريب الاشهر في العراق, والذي لاقى نزلاؤه اشد واقبح صور التعذيب والعقاب, ومشهورة تلك الصور الفاضحة لمعتقلين عراة, والكلاب تحوم حولهم, للامعان في اذلالهم, وسجن ومنفى " نقرة السلمان" والذي بناه الانكليز بعد احتلالهم العراق, كان الاشهر بسبب عزلته الصحراوية, بل انه كان المدفن الحقيقي للأحياء من المعتقلين الذين يسفّرون له, ولقد كتب الشعراء " المعتقلين فيه" قصائد كثيرة عنه, ومنها قصائد مظفر النواب "البراءة" و "الريل وحمد".
ان القائمة طويلة جدا للحديث عن المعتقلات والسجون في العالم, الا ان ما يلفت حقا في هذه السجون, هي انها مخفية عن الانظار بسبب عزلتها المصطنعة, فلا احد يعرف ما يجري بداخلها, الا اذا انهارت الحكومات المؤسسة لها, كمعتقل اوشفتز الرهيب, فلم يعرف ما الذي كان يجري فيه, والروايات القادمة منه كانت متضاربة, الى حين انهيار النظام النازي ودخول القوات السوفيتية الى بولندا, فكانت المشاهد مروعة, وحتى في معتقل غوانتانامو السري او سجن ابوغريب, فلولا التسريبات الاعلامية من داخل هذه القلاع لما عرفنا شيئا عنها, هنا تصح كلمة مصلح السجون الانكليزي جون هيوارد الذي يقول بحق:
(ان السجن مكان تغمض عنه عين المجتمع وتموت فيه قوة القانون وتختفي فيه المخاوف).
وسجن الكرخ المركزي هو احد السجون الكثيرة في العراق, لأن البلد اصبح بعد احداث 2003 مليء بالسجون والمعتقلات, علنية واخرى سرية, فسجون للداخلية والعدل والدفاع والمليشيات والامن والمخابرات والحشد الشعبي وجهاز مكافحة الارهاب ووو, , وقد نسمع في قادم الايام سجوناً للعشائر, اذا ما انيطت بهم مهمة حفظ الامن في المناطق التي يسيطرون عليها. ومن هذه السجون سجن الكرخ المركزي- الذي تغمض عنه تماما عين المجتمع ويغيب فيه القانون- كان يسمى سجن كروبر, انشأه الامريكان بعد الاحتلال, واضعين فيه جميع قيادات النظام السابق- كمعتقل اوشفتز النازي الذي اسسه الالمان للمعتقلين السياسيين في بداية الامر- والسجن هو في الحقيقة بناء كان صدام قد شيده لتخزين الأسلحة والاعتدة, ويقع ضمن مساحة مطار بغداد الدولي, حتى انه اطلق عليه تسمية " سجن المطار", يقع في الجانب الاخر من طريق المطار, الجانب المظلم والموحش, فيه عدد كبير من مقرات القيادات العسكرية. يتبع هذا السجن لوزارة العدل, وهذه الوزارة ومنذ 2010 وهي تتبع او بالأحرى هي حصة حزب الفضيلة, وهو احد عصابات الاسلام السياسي الحاكم. لا يعرف كم العدد الفعلي لنزلاء هذا السجن, لكن التقديرات تشير الى وجود ما بين ال 2000 - 4000 الاف نزيل, السجناء جميعهم محكومون بالأحكام ال"ثقيلة", من عشر سنوات الى المؤبد, يتوزع السجناء بين قاعات السجن, لا توجد اسرة بل " ثلاثة اشبار" على الأرض فقط هي المساحة المسموح بها للسجين, للاكتظاظ الحاصل في قاعات السجن, ودائما ما يحصل الشجار بين المساجين بعظهم البعض على اي تجاوز- يذكرنا بسجن جيتمارا المركزي في رواندا, تشير الاخبار الواردة منه بأن السجناء يأكلون بعضهم البعض من الاكتظاظ- عندما تنزل زخات المطر فأن السجناء لا يستطيعون النوم, يقتلهم التعب والسهر والبرد, لأن سقوف السجن متشققة فلا توجد اي ادامة او صيانة لسطح السجن, اما في الصيف فالمعاناة تزداد اكثر واكثر, فلا يمكن وصف الحال في ايام الحر, مستوى التغذية سيء جدا, قائمة الممنوعات تزداد يوما بعد آخر, ابرة الخياطة ممنوعة, القلم والكتاب والدفتر ممنوع, قداحة السكائر ممنوعة, اي وسيلة اتصال بالعالم ممنوعة, اي وسيلة تدفئة او طبخ ممنوعة, لكن قائمة الممنوعات هذه وغيرها هي بالحقيقة مسموحة, لكن بأسعار خيالية جدا, فإبرة الخياطة سعرها 10000" "عشرة الاف دينار, ومثلها قداحة السكائر, اما الهاتف " الموبايل" الذي يسمى " الطابوكه" فسعره 700000"" سبعمائة الف دينار, اما سعر علبة السكائر " الباكيت" فيصل احيانا الى " 5000" خمسة الاف دينار, السكائر اغلى من الذهب كما في معسكر الموت اوشفتز, يتنافس الكثير من المتعهدين على استلام " حانوت السجن" ويدفعون اموالا طائلة كرشاوي للمتنفذين داخل وزارة العدل للحصول عليه بسبب الارباح الهائلة, فالسجناء تأتيهم الاموال من عوائلهم وهو ما يثقل كاهل هذه العوائل الفقيرة, تنتشر الامراض الجلدية والصداع وامراض الجهاز الهضمي والتنفسي, مسموح ان تشتري العلاج وتدخله للسجين, لكن بدون المراهم و الشراب, فلا رعاية طبية او صحية داخل السجن, الاستحمام ودورات المياه مشكلة كبرى, فلا يستطيع احد وصف تلك الحالة لبشاعتها, الماء ينقطع بين الحين والاخر ما يسبب ازمة, هذا الانقطاع مصطنع, حتى يباع الماء بأوانً معينه "سطل", كل شيء هناك قابل للبيع, كل شيء في ازمه, معاملة السجناء من قبل الحراس وهي "موصى بها من قبل المرجعية الدينية داخل الوزارة" نمزح اذا قلنا انها سيئة, انها اسوأ من كل شيء, فأي مخالفة من أي سجين فأن العقوبة ستكون شديدة, يحجر في سجن انفرادي لمدة ثلاثة اشهر, لا استحمام لا شمس لا زيارة من الاهل, وهناك ايضا الضرب المبرح والجلد بالسياط "الكيبل" لبعض المخالفات, احصاء السجناء " التعداد" يجري كل اربع ساعات, أي لا نوم مستمر او مستقر, التفتيش يجري دوريا, للبحث عن الاشياء الممنوعة –المسموحة- لكي يتم جمعها وبالتالي يتم بيعها مجددا, عندما يريد احد السجناء ان ينتقل من قاعة الى اخرى فعليه ان يدفع مبلغ من المال يقدر بمليون دينار, اما النقل من هذا السجن الى آخر فالمبلغ يصل حتى ستة ملايين دينار, يود السجناء النقل الى سجن سوسة في السليمانية او سجن العمارة, لوجود كما يقال المعاملة الجيدة. هناك قاعات فيها كل شيء, والسجناء يأملون بالانتقال اليها, انها قاعات ما تبقى من معتقلي ميليشيا "جيش المهدي" انهم يفعلون ما يحلو لهم حتى اقامة الطقوس او الاستعراضات العسكرية
كتب احد الناجين من معتقلات النازية يقول:
(من الصعب تماما على أي شخص خارجي أن يدرك كيف أن الحياة الإنسانية في المعتقل لم يكن لها قيمة تذكر).
اما عن زيارة السجناء من قبل ذويهم, فهي مأساة ومعاناة بكل ما تحمله الكلمات من معانً, يتجمع الاهل عند البوابة الاولى في خيمة مملؤة بالوحل والطين من الامطار, زيارة النساء في يوم محدد, واخر للرجال, تظهر الهوية, ويسألونك عن مدى قرابتك بالسجين, يجب ان تكون القرابة درجة اولى فقط-اخ اخت زوجة ام اب ابن-, يأتي باص نقل "كوستر" لنقل ذوي السجناء الى البوابة الثانية, الطريق الى هذه البوابة موحش جدا, النفايات والانقاض تملأ المكان, والروائح الكريهة تنبعث منه, وخرائب المعسكرات القديمة والجديدة, كأن تسونامي قد ضرب المنطقة, اسراب الغربان فقط هي رفيقة دربنا, حارس الباص يوصي وعلى طول الطريق بغلق ستائر الباص, (توجد اماكن امنية, ممنوع النظر, مقرات عسكرية)) " يعتقد انه داخل دولة", لكن الفضول يدفع الجميع للمشاهدة, عندما تنزل عند البوابة الثانية, تقف في طابور طويل لتسجيل اسمك واسم السجين مرة اخرى, ثم تودع المال الذي تريد اعطاءه للسجين عند متعهد الحانوت, ليعطيك وصلا بالمبلغ المودع, وتعطي هذا الوصل بدورك الى السجين, ثم تمر بحلقة التفتيش الاولي الدقيق, تفتش الاكياس, وتبدا بخلع الساعة و الخاتم والحزام وتخرج محفظة اموالك وتضعها جميعها في كيس, يعطوك رقمه, ثم تختم ذراع يدك اليمنى, وبعد انتظار, يأتي الباص الذي يستقطع منك مبلغ النقل ذهابا وايابا, الباص ينقلك الى المحطة الثالثة, اسراب الغربان والطريق الموحش, هي فقط المنظر المستمر والدائم, في هذه المرحلة تخضع لتفتيش ادق, حتى انهم يخلعوك حذاءك, ثم يختموا ثانية على ذراع يدك, تصعد الباص لينقلك وبمسافة قصيرة الى البوابة الرئيسية, تفتح البوابة وتفتش ايضا, وتدخل ساحة التقائك بالسجناء, هنا تبدأ مأساة من نوع آخر, اسلاك شائكة تفصلك عن السجين والكل تحت مرأى الحراس, لا تستطيع مصافحة السجين, يبعد عنك اكثر من متر, لا حديث خصوصي ابدا, يأتي الحراس ليأخذوا منك ما سُمح لك بإدخاله, ليعطوه للسجين, تستمر الزيارة نصف ساعة, اما في ايام المطر او الحر الشديد, فأنت والسجين تنهيان الزيارة بأقصى سرعة, عندما تخرج يتم ختم يدك اليسرى, هذا اللقاء الذي استمر لنصف ساعة, كنت قد صرفت عليه ثمان ساعات, فأنت تأتي عند الساعة السادسة صباحا او قبل ذلك وتخرج عند الثانية بعد الظهر, بدون ماء او طعام, انها معاناة ستستمر لحين نهاية حكم قريبك, هو في مأساة وانت في معاناة.
ان سجن الكرخ المركزي, او لنقل معتقل الكرخ, هو عقاب جماعي, عقاب للمعتقلين ولذويهم, انها سياسة دأبت عليها عصابات الاسلام السياسي التي تحكم العراق, فهم يعاقبون كل المجتمع, بفسادهم ونهبهم لكل الثروات, بقتلهم واغتيالاتهم, بتدمير وتخريب كل شيء, لقد اصبح البلد ومنذ 2003 سجنا كبيرا للجميع, يقضي محكوميته هذه المرة مع عصابات الاسلام السياسي, كتب الشاعر المصري احمد عبدالمعطي حجازي يقول:
فالسجن باب، ليس عنه من محيدْ
والسجن ليس دائما سورا، وبابا من حديدْ
فقد يكون واسعا بلا حدودْ
كالليل.. كالتيهِ
نظل نعدو في فيافيهِ
حتي يصيبَنا الهمودْ



* الحوار المتمدن-العدد: 6085 - 2018 / 12 / 16 - 22:13
- المحور: أوراق كتبت في وعن السجن

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى