عبد الجبار العلمي - " بذور الشيطان" للكاتبة السورية لينا كيلاني: رواية إنسانية تدعو إلى المحبة والعدل والسلام..

تتناول رواية ' بذور الشيطان' للكاتبة السورية لينا كيلاني موضوعا جديداً، قلما خاضت فيه الرواية العربية المعاصرة، حسب علمي، فقد انصبت هذه الأخيرة بشكل عام على معالجة القضايا الاجتماعية والمشاكل المختلفة التي يتخبط فيها المجتمع العربي... أما هذه الرواية، فتنسج على منوال آخر. إنها تعالج قضية ذات بعد إنساني عميق يتمثل في نبذ الغرب بحضارته ومنجزاته العلمية الموظفة في مجال الاستعمار والهيمنة على الشعوب المستضعفة الفقيرة، وتصحيح صورة الإسلام والمسلمين لغير المسلمين في العالم الغربي، لا سيما في زمن عرف هجوماً غير موضوعي على الإسلام والمسلمين نتيجة طغيان وجبروت الغرب الاستعماري، وامتلاكه سلطة الإعلام ووسائلها الجهنمية الخطيرة القائمة على التمويه والخديعة.
إن الأعمال السردية التي تؤلفها المرأة العربية، عادة ما تصنف في إطار الكتابة النسائية أو الأدب النسائي. وفي أغلب هذه الأعمال، يطغى صوت الساردة المشاركة بضمير المتكلم المؤنث.
والملاحظ أن المنظور السردي في رواية ' بذور الشيطان' للينا كيلاني يخرج عن هذا النمط من الرؤية السردية التي تطغى عليها الذاتية والأنا. وهو يقوم على تغييب الذات، واستبعاد الأنا. ذلك أن المؤلفة الضمنية تختفي، وتترك دفة السرد لسارد مشارك ذكر أمريكي الجنسية هو' فرانك' الذي كانت الكتابة هوايته المفضلة ( ص : 7 ). ويبدو أن الكاتبة بعدم إسنادها مهمة السرد لساردة مشاركة أنثى ( امرأة)، أرادت أن تقدم أفكارها وقناعاتها من خلال الأحداث الروائية بشكل موضوعي بعيد عن الأنا والذاتية، خاصة أن القضية التي تطرحها الرواية هي قضية عامة لا تخص المرأة وحدها ولا تهم الرجل وحده. إنها قضية تهم الإنسان بما هو إنسان، بغض النظر عن الاختلاف بين الذكر والأنثى، والشعوب والقبائل.
والشيطان في الرواية ليس هو الشيطان الذي يوسوس في صدور الناس، بل إنه ' شيطان العلم الذي سلب العلم براءته وقدسيته .. إنه علوم الشر التي ستحكم قبضتها على الجنس البشري' ( ص: 77) إن هذا الشيطان قادم من أمريكا بالذات، أمريكا الحاملة لكل شر إلى العالم، والمصدرة للحروب المدمرة، والمتحكمة في دول العالم المتخلفة التابعة لها بحكم عدم استقلاليتها اقتصادياً وتكنولوجيا ،ولفظ البذور الذي يرمز إلى الخير، يدخل في ملفوظ العنوان، في تناقض تام مع لفظ الشيطان الذي هو رمز كل شر في كل الديانات، وعند كل شعوب العالم في كل زمان ومكان.
تمتلئ الرواية بالشخصيات الرئيسية والثانوية، بيد أن الدراسة ستنصب أساساً على الشخصيات الأكثر حضوراً وبروزاً فيها: - السارد المشارك الذي يسرد أحداث الرواية، أمريكي الجنسية من أصل أسيوي ( هندي). هاجر جده المباشر إلى كاليفورنيا. توفي والده وقبله والدته، وبقي وحيداً يعيش في كنف صاحب المزرعة ( جو). يحس بالغربة، رغم أن هذا الأخير اتخذه واحداً من أفراد الأسرة. وأنفق على تعليمه في الجامعات الراقية، حيث تخصص تخصصاً علمياً نادراً هو 'مزيج من علوم النبات أو تخصيب النبات وعلوم أخرى. ' ( ص: 7)، لذلك سيبعثه للقيام بمهمة في أفغانستان تتعلق بتخصيب أرض بوار. وتجدر الإشارة هنا إلى أن البلاد القوية المتقدمة علميا، تعمد إلى وسائل أخرى للسيطرة والغلبة، وقهر الشعوب الفقيرة المقهورة مثل سلاح التلوث الجيني بما يفوق التلوث النووي والكيمياوي. ( ص: 143) صاحب المزرعة ( جو) الأمريكي ليس له أبناء ذكور، لذلك قرب الفتى الهندي إليه. و( جو) هو صاحب ذلك المشروع الخطير الذي يتعلق بتجربة علمية مشبوهة. تتمثل في زرع بذور غريبة في أرض' قاحلة جرداء لم تعرف الزراعة منذ أمد بعيد'. ( ص: 13 16) ولم تكن تلك الأرض إلا في أفغانستان. و( جو) ينتظر أن يجني من خلال تحقيق هذا المشروع هو والشركة التي ينتمي إليها أرباحاً خيالية. ولا يأبه بما يمكن أن يلحق الإنسان من أضرار ومخاطر تهدد حياته.. - ' موهاد' الشاب الغريب المتشرد المتعلم يلتقي بالسارد المشارك في مقصورته بالقطار في رحلته إلى أفغانستان حيث مجال التجربة العلمية ( ص: 30 وما بعدها) آيشا : صبية أفغانية جميلة، من سكان الخيام. وصفها السارد ' كأنها عود من العنبر، أو تمثال من الشمع الأسمر الوردي'. ( ص: 48) تعاطفت مع ' فرانك'، فكانت تهتم بشؤونه، وتساعده في أعمال البيت، من دون أي مقابل، وبعلم أهلها ساكني الخيام بعد أن تأكدوا طبعا من سلامة نيته وعفته وكرم أخلاقه. ( ص: 90 )
إن آيشا تمثل في الرواية المرأة الأفغانية الإنسان. تتعامل مع الآخر مهما اختلفت معه في الديانة والجنس والانتماء الحضاري، تعاملا إنسانياً راقياً يتجاوز كل الحساسيات والخلفيات الأخرى. ' ميريام' كريمة ( جو) أخذت تحس بنشوء عاطفة حب نحو' فرانك'، إلا أن هذا الحب كان من طرف واحد الرجل الأفغاني المسن الذي صادفه السارد المشارك في القطار.استضافه في بيته البسيط الفقير، وأبدى نحوه عطفاً وحدباً كأنه أحد أحفاده. والد ' آيشا' شيخ القبيلة المتنور الذي يحسن الحديث باللغتين الإنكليزية والروسية سيفاجأ حينما يعرف من ' فرانك' أن البذور المعول عليها لإعادة الخصوبة والينوعة إلى أرض بلده الجرداء القاحلة، إنما هي بذور شيطانية لا تصلح للزرع إلا مرة واحدة، ولا تختزن لزراعتها من جديد. ( انظر ص: 95 )
والملاحظ أن الرواية ( النص الكبير) مثل العنوان ( النص الصغير)، تمتلئ بالتناقضات والمقابلة بين الأضداد سواء على مستوى الشخصيات أو الفضاء و الزمن الروائيين.
فعلى مستوى الشخصيات، نلاحظ تقابلا ضدياً بين فريقين: فريق يمثل قيم الخير، وفريق آخر يجسد جانب الشر، وذلك كما يلي: السارد المشارك ' فرانك' ' آيشا' ' موهاد' ' ميريام' الشخص الأفغاني المضيف. يقابلها ( جو) وشركاه فريق العمل المشرف على زراعة البذور والنباتات الشيطانية الشيطان الذي يتراءى في أحلام ويقظة ' فرانك'. والملاحظ أن ( جو) في الوقت الذي نتلقى فيه خبر إصابته بالشلل، نجد أن ' فرانك' أخذ يبحث عن البرء لروحه القلقة بمحاولة اطلاعه على الديانة الإسلامية والقرآن الكريم، والحياة بين ظهراني هؤلاء القوم البسطاء كرام النفوس.
على مستوى الفضاء الروائي، نلاحظ أن الفضاءات تتناقض وتتصارع كما يلي: فضاء الضيعة الأمريكية التي يملكها ( جو)، وهو فضاء الحياة المادية. إنه فضاء الخصوبة والنماء والثراء، بيد أن تلك الخصوبة عقيمة روحياً، ولا يستعمل منتوجها في الغالب، إلا لخدمة أهداف استعمارية واستغلالية ضد الإنسانية بصفة عامة، والشعوب المقهورة على وجه الخصوص. إنه فضاء الخبث والقبح والحقد والأنانية وسيادة روح السيطرة والهيمنة على الآخر وخيرات أرضه. ويقابل هذا الفضاء الجهنمي الغني بما يملكه أهله وبما يستحوذون عليه، فضاء بلاد أفغانستان ذات الأرض الجرداء، والجبال الصلدة، والمسالك الوعرة، والطبيعة القاسية، والفاقة والبؤس. ولكن هذا الفضاء رغم قساوته وشظف الحياة فيه، يعبق بالأجواء الروحية، وتغمر أناسه القيم الإنسانية النبيلة التي كانت مثار إعجاب بطل الرواية ' فرانك' القادم من العالم المادي الذي جفت فيه الروح الإنسانية، وعمه الانسياق وراء حياة مادية لا تكاد تعبأ بالعواطف وروح التكافل العائلي والاجتماعي. إنه فضاء البراءة والتعاون والتآلف التي تجسدها حياة الناس في الخيام كأنهم أسرة واحدة، كما تجسدها الفتاة النبيلة ' آيشا' بصنيعها تجاه الضيف المغترب ' فرانك'. كما أن فضاء الضيعة المفتوح الذي عاش فيه ' فرانك' نوعاً من الاستقرار النسبي، يقابله فضاء القطار، وهو فضاء مغلق، بيد أنه يحرره من الفضاء الآخر، منطلقاً به نحو عوالم المجهول. إن فضاء الضيعة يمثل فضاء الثبات والجمود وعدم القدرة على التحول. أما فضاء القطار فهو فضاء القلق والتوتر والاضطراب والتحول وعدم الاستقرار. إنه بما هو كذلك، يعكس الحالة النفسية للسارد المشارك ' فرانك'، وبداية أزمته الروحية التي تنتهي به إلى الإيمان، وقراره الاستقرار في أفغانستان حيث ألفى الحب وسكينة الروح. يقول: ' ولماذا لا أتزوج من ( آيشا) وأعيش في هذه البلاد مع ناسها البسطاء الطيبين بسماحة نفوسهم..' ( ص : 128 )
بالنسبة للأزمنة، ثمة تقابل بين الليل والنهار، زمن الجهل وزمن المعرفة، فقد قضى السارد المشارك مدة طويلة لا يعرف سر المهمة الخطيرة التي أرسله ( جو) ليضطلع بها في تلك الأصقاع النائية المليئة بالأخطار التي لا تهدأ فيها الحروب والمعارك، يقابل هذا الزمن، زمن المعرفة والكشف عن أسرار المهمة الحقيقية. إنه زمن النور والضياء والمعرفة التي أنارت سبيله إلى الفعل الإيجابي خدمة للإنسان وإنقاذه من شرور البذور والنباتات الشيطانية.
إن رواية ' بذور الشيطان' رواية إنسانية هادفة، تدعو إلى المحبة والسلام وتحقيق العدل في العالم، وإقامة علاقة إنسانية بين البشر جميعاً، بغض النظر عن اختلاف الجنس أو الدين أو الأوطان.
تقدم لينا كيلاني رواية إنسانية جميلة في زمن تخلى فيه الإنسان عن إنسانيته، وعانق شيطانه.


د.عبدالجبار العلمي
أكاديمي وباحث مغربي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى