قصي الخفاجي - وقتٌ سرّي.. قصة قصيرة

حجارة الدرب المشرئبة إلى الفراغ تستفز المنابت الملتفة حول الأماكن المهملة، كان ذلك رهن وضع نسميه نحن مجالاً عاماً، حيث الموج الكثيف للهواء الأبيض يتدفق عبر محطة تغزوها أقدام المسافرين/ ثمة شرطي جهم الوجه يقف في باب المحطة، بدلته تنسرح على جسمه النحيل، يتطلع إلى حاكم مدني متلفع بمعطف أسود يناسب بنطاله الأسود، وهو يمسك أوراقاً بيضاً (…،،، الوجوه المنتظرة، الحائرة، يغمرها غبار رمادي بارد… في قوس السماء نجوم تتوهج. الأضواء الأرضية تتفتت، تتلاشى في الأعالي المظلمة… هنالك نسوة بعباءات سود مغبرة، يقفن تحت ستارة عالية، يواجهن سكة الحديد التي يقلصها البرد، يندبن حظ أم سليم العاثر… القطار الأول يعلن صفيره/ يليه القطار الثاني/ القطار الثالث يتجه صوب الشمال… أشكال تأتي، وتصطبغ بكثافة زحام مقرف… وجوه مهيمنة، تقترب من مكان الحادث: في الساحة آثار دم متكلس من بقايا جثة مسحوبة.. هنا، وهناك، آثار دم كثيف، معفر بتراب المحطة.. ثمة شاهد عيان، جيء به، وهو حارس خطوط الليل/ وجوه حذرة تقترب.

رجال القضاء، حفاة الأحياء العمالية القريبة، باقات نجوم، كأنها تنحني، تذرف بريقاً فضياً، وتتلاشى، حيث يجري التحقيق سريعاً، لحادثٍ، أخذ الوقت، يطول عليه…،،،).

لم يكن الذي يجري، بعيداً عن خاطري، لحظةً، أنا الذي استدعيت للتحقيق (وراء حائط المحطة، في انتقالة فجائية، يشتعل قهر أوحش، ساعة تثب رغبة الماوراء الفاصلة للموت، ترتسم بحذق، بؤرة ذهننا المهيمن حين يطفح السؤال، حول الذي جرى من الخطوة الأولى للرحلة داخل حدود المدينة. ترى أيكون الهروب من السؤال، من داخل المحطة نفسها..؟ إني أحسّ الضوء ينفلق، والحائط يتفتق، عبر عويل أمهاتنا اللائي يحطن بأم سليم المنكوبة: سليم… يا سليم: حضور الوقت الذي كتبناه، سرياً، في مقاهينا المعتمة، لا زال يغري بالخوف من الأيام. ثمة باعة تعلو وجوههم الممصوصة سحنات صفر شرعوا يرصفون بضاعتهم… أصوات مضغوطة، متداخلة، تهمهم، يعقبها صخب وصراخ: إنها المحطة التي كانت خالية تماماً وقت الحادثة، حيث الكارثة تحل بالمدينة… الدائرة تكبر حول بقعة الدم الساخنة، وتتسع حول رجال التحقيق، ثم تأتي سيارة مرسيدس سوداء تنقل الحاكم المدني، وبعدها ينفرط عقد المحتشدين( ) (في غرفة التحقيق، شرع المحقق يتأمل وجهي وتم طرح القضية بحضور رجال القانون، ألا وهي: فعل المؤثر المعرفي في الآخر… كنت أرتدي قميصاً أزرق وبنطالاً أسود حين قال المحقق أنهم وجدوا في حيازة القتيل كتابا إسمه (وقت سري) والدعوى المرفوعة ضدي من قبل والدة سليم، تذكر إني أسهمت مع آخرين بإرباك مشاعره وإخلال توازنه العقلي ثم الأخذ بيده إلى هاوية الانتحار… حتماً انك تدرك توازنه المتخلخل، باعتبارك صديقاً قديماً: حدّثنا إذن عن شحنة الفكر القاتلة، وعن السموم الهدامة – ثم، لا تنسَ عنوان الكتاب الذي يدلّ على مضامين سيئة وكأنه يذكّرنا بماسونية جديدة. جفلت. صحت به أقرأ الكتاب..؟ وأيّ كتاب..؟ هنالك مسودّة لا غير ثم طفقت أعلن أن عشرات الكتب الخطيرة قد قرأها سليم ولم تؤثر فيه، فلماذا هذا الكتاب بالذات…؟ نحن أصدقاؤه تتلمذنا على يديه، فهو أكبرنا سنّاً، وأغزرنا قراءة، وهو الذي فتح الباب لنا يوماً وقال: ادخلوا جحيم الوعي المرير. باختصار: سليم السراج أب روحي، حقيقي… فلم لا يصاب الآخرون بعقدة المؤثر…؟ قاطعني محتداً: المؤثر موجود، والهدامون موجودون، سأريك الكتاب المزعوم، صحت: لا لا إن (وقت سري) فكرة عادية، حميمة. قاطعني: ماذا تعرف عن عبدالله حسوني..؟ قلت صديق مهاجر، وكاتب جاد، كان أكثرنا موهبة. رغم كتاباته النخبوية التي هي من طراز يتغلغل في عقول حفنة من قراء القصة الحديثة المتمرسين، كنا نسميه الوصاف الحاذق وهاضم الثقافات الكبير مضامينه لا تستقطب إلا القلة… إنه يكتب لزمن آخر، …وماذا بعد…؟ وأجواؤه سكونية…سكت. ثم ماذا عنكم…؟ وأنت واحد منهم. إنه يطريكم… وفجأة أطلق المحقق قهقهة صاخبة، وطويلة، ثم مسح عينيه وأنفه. قال: عجيب أمركم أيها المثقفون… طلب لي شاياً وصرّح أن القضية ليست بالسهولة التي أظن، هناك خطورة في اعتبار الكتاب يسيء إلى البلد… قد تكون جهات الغرب تستخدمه كدعاية مضادة… سوف نمعن بقراءة (وقت سري) ثم نعطي رأينا… ستبقى موقوفاً رهن الانتهاء من القضية.

* * *

غرفة التوقيف ضيقة، حيطانها الرطبة يأكلها الملح… صارت بيني وبين الحيطان إلفة نفسية… تذكرت لغة المسودة الحجرية وهي تنغرز كالمخلب في مستنقع الهواء الذي أتنفس وأقئ… كانت السماء مظلمة والأشجار تصخب على طول النهر. حاذيت الرصيف في طريقي إلى المحطة، هنالك تأملت شكل القطار الجاثم، والبناية الرمادية… كل الوجوه حزينة وودودة/ الصبية يدورون حول الرصيف في أكفهم السجائر والعلكة… أي قوة رعناء فيك أيها الغول المسمّى قطاراً…؟ كيف اخترقت حاجز الموت وتركت المدينة يعصف بها هول الرحيل…؟ كيف انسللت من الغبار وغصت في رمال الأرض الرخوة، يوم تركت وجوهاً شاحبة على جادات المطر…؟

(( نادوا عليّ، أدخلوني غرفة التحقيق، أطلعني المحقق على نسخة مطبوعة من كتاب (وقت سري) ذعرت/ ما كنت أصدّق أن السراج أخفاها عنا حتى ساعة مماته/ أترى المؤسسة التي قامت بطبعه على نفقتها..؟ اقرأ فقرأت: – مؤسسة كولومبيا-،،، تصفحته، سحبه بسرعة مني/ طباعة فاخرة جداً/ قلت لقد عملها ابن الزنى عبدالله حسوني/ لم تكن الرواية بهذه الصيغة… لم تكن كذلك، أنا أجزم/ هذه إساءة أيها المحقق؛ لنا كلنا/ قال أكتب إفادتك)):-

* * *

على رصيف المقهى، نحن جماعة من هواة اللا معقول، كانت أعمارنا دون الثامنة عشر حين كتبنا مسودة رواية تدور أحداثها في مدينة محاصرة/ العصافير الميتة تتساقط على بيوتها/ لا أحد يغادر إلا بإذن رسمي/ ثمة شاحنات قادمة، معبأة بتوابيت الموت/ لا أحد يغادر إلا الموتى فقط/ هنالك قطارات رمادية، تربض في المحطة/ الشاحنات تفرغ حمولتها من الجثث المتفسخة التي تنقل إلى المقطورات/ نحن تطوعنا لإكمال الرواية وإعدادها للمسرح/ بعض الفتية دون السن القانونية يجبرون على تفريغ الشاحنات/ الأجور التي يتقاضونها يشربون فيها خمرة قوية ثم يرحلون في القطارات مع الموتى إلى المرافئ/ هناك السفن تنقل الجثث إلى جزر مجهولة/ ترحيل الموتى إذن لتخليص المدينة من الوباء ثم قبض العملات الصعبة/ تلك الرواية التي فشلت وفتر حماسنا في إعدادها للمسرح، لضعف الإمكانيات المتاحة/ تلك هي الفكرة أيها المحقق الكريم/ لكن الذي جرى هو أن صديقا لنا اسمه عبدالله حسوني، سرق فكرة الرواية، وغادر البلاد عبر فرصة متاحة إلى أوربا/ صاغ الرواية بإسلوبه المتوتر، والمعقلن في آن واحد/ غيّر فحواها/ قلب مضمونها كما يبدو/ وسخّر فنه لأغراض قذرة/ ثم بعث بنسخة إلى سليم السراج ، لا أدري لماذا..؟/ الأخير أخفاها عنا، وصلته النسخة عبر الحدود الجنوبية على ما أعتقد /السراج كان مشغوفا بأسلوب حسوني ، رغم مناحيه الفكرية المغايرة لفكره الواقعي…،،،

* * *

عدت إلى بيتي، ولم أكن أحيا يومها، بالمعنى الحقيقي. الحمى دثـّرت عظامي/ السيجارة بين شفتي وصورة سليم السراج تتأرجح على إيقاع الدخان المتماوج فوق رأسي،..،..، سليم يغفو على موجة مغبرة، يطفح وجهه الأسمر، المدوّر كقرص الخبز، يطفح بالحزن الرهيف، حيث الدشداشة، بلونها الرمادي لا تفارق هامته العالية/ وفي أقرب فرصة يزحف إلى حانة قريبة( ) (الذي هزّ كياني علاقة الحادث الجلل بكتاب عادي… الموتى يرحلون ويتركون أدمغتهم تجترح لنا المصائب والمعجزات… غابت عني الصور وأنا أترنح في موج الهواء الرصاصي/ سكاكينهم اليومية غابت عني عبر حقب بعيدة تتكاثف وتضمخ وجوهنا بنار الفجيعة/ بيوتنا الساجية تحت السعف، بيوت الطين والحجر، إنها مفتوحة دوماً للغرباء، الذباب، القطط، الكلاب/ يغسلها الفيء الحليبي بحزن لا يغيب… هناك تحت المنحدر أشجار خلت من الثمار، والقمامة، حذوها نتماوج… أقدامنا تعلو السطح ثم تنحني للقمم القريبة من هواء الظلام… بيوتنا تشرب أوجاع الأقدام العائدة من ميادين الخيبة، …، …تخامرنا الهواجس رمادية خلف صفائح صدئة/ أو خلف حيطان قديمة متروكة، نلملم أنفاسنا، نمسد عليها، نأخذها بالأحضان/ كل ذلك في غفوة حلم، حلم أبيض، حلم يمحو بياضه بريق الضوء الخاطف…،، طوووط،،، …نُعشِّق أكفنا في حلقات، حلقات، تدور، وندور، وتدور…،،، يا لحلم الطفولة الضائع، أبداً ضائع،،، … ،،، أبداً ضائع حلمنا، يا سليم/ ضائع في فراغاتٍ نجهلها مصائرنا نجهلها/ وقطار العمر الذي يأخذنا إلى البراري، يعود بنا القهقرى، إلى قبور الفجيعة يا سليم… قهر المسافات التي نطويها، تلتف على أعناقنا: قطارنا هو وقتنا السريّ يا سرّاج/ رحلتنا إذن تدور، بنا، في حلقةِ قهرٍ أسود، قبالتنا نهر آسن وخلفنا الممرات السبخاء/ في المداخل نلوذ بحيطاننا المتروكة للغبار الكثيف/ نلوذ لهيمنةِ صوتٍ مجهول يقيؤه صبيّ أسود يترك لنا حصانه ويهرب… ثم يهرب معه تابوت وقتنا السريّ. أن جراح الغد التي خلّفها في نفوسنا عبد الله حسوني لا تندمل إلا بانقلاب المراحل… لم نكن نراه، وهو يهرب، يقيء جهشاته ويهرب، ساحبا معه ذيل الهزيمة ويهـ يهـ يهـ/ ي ي ي ي/ تلكؤ الخوف الذي يحرقنا فنحتمي بالحجرات/ عبد الله حسوني يترك بلاده ويهرب ونحن نترك جراحنا لجيش الذباب ولا نهرب.

* * *

صباحات رصاصية تغرز عتمتها في خشب الأبواب الصلدة… الأفياء السائلة تتوازى باستقامات تطول، تتعرج بين المداخل والساحات. أذكر انه جاورنا ذات يوم شاب غريب، في سنّ المراهقة كان، لأسرة سكنت محلتنا حديثاً، وكان يحمل في الجوانح شيئاً غامضاَ يمكن أن نسمّيه فتنة الروح… كان أنيقاً جداً، يكبرنا بأعوام قليلة… أراه دوماً يرتكن زاوية بعيدة، في طرف المحلة… يطلُّ بقامةٍ مديدة، يحمل في كفه كتاباً: نحن نجهل كلّ شيء عنه. مرة اقتربت منه خَجِلاً يغمرني الفضول، ألقيت التحية فردّ عليها بحرارة لم أكن أتوقعها، صرت قريباً من كتفه، طوقني بصمته المهيب حين حدجت بطرف عيني غلافاً ترتسم عليه ملامح بارزة لشيخٍ ملتحٍ تبيّنت فيما بعد أنه الشيخ همنغواي وفي جيب سترته الأيمن كتاب آخر، تطلّ من منتصفه صلعة رجل ربعة، لا يمكن أن ينسى( ) ذاك الأصلع الذي لازمه أعواماً طالت وطال معها إرث الحزن والعذاب، …، علّمنا هذا الوافد الغريب حبّ الصيد والسباحة في الأنهار العميقة والمشي بشجاعة فوق جمر الحياة/ أخيرا ألقى علينا شباكه وأوقعنا في حبّ الشعر والفلسفة/ هذا هو اسمي بلا إعلان: سليم بن عزيز السراج… جنوبي قادم من الكحلاء، باذخ في حبه للفقراء، والنساء، والفلاسفة… ها ها… قلبي قرارة الفقراء… يُشير بإصبعه إلى قلبه: هنا… كلهم… /ممالكهم/ أوجاعهم/ ثوراتهم/ انكساراتهم… هنا كل العذاب العراقي… العذاب الكوني… التشيليون هنا/ الهنود الحمر/ الأفارقة/ الصعيديون/ هنا السلفادوريون/ هاهاها ما أكبر قلبي وما أوسع عذابي/ … ، يثمل، ويلغو،،، صار يقودنا نحن الفتية إلى مكتبة المدينة العامة، يقرأ لنا شيئاً من ناظم حكمت، التوحيدي، لوركا، يفتح لنا مغاليق الدنيا/ ومعنا الحلاج بجراحه الخضراء، يزيح الستائر الخلفية عن نوافذ تطلّ على شوارع يغمرها الظلام. يقول هي ذي أسرار الحياة، ذي، ذي، ذي أبصروا، حين نخطو ببطء حذرين يشرد بذهنه بعيداً، الدفتر والقلم في كفه، يلصق حروفاً غريبة، يذهلنا بغراباته (حافة جناح أطياف) يكتب (شراشف جادات تراب) يكتب (محمرة غيوم الشمس/ الوقت يصبها في قالب الصيف/ فرن/ فرن/ فرن، يعمل فيه السراج حديثاً) ثمة الجحيم. آآآ ،،،آآآ. وجع ترابي (آب البصرة يهشم أصلاب الرجال) يكتب ( العمال العراة داخل الفرن بعرقهم يسبحون) أول خطوة يخطوها السراج من باب المدرسة المسائية إلى فرن الحلويات،،، حينئذ تطرق في صدغه أجراس الطبقات/ رن نن ننننن/ هو الوعي المرّ الذي جرفه إلى موج اللحظة/ الماضي/ الآتي/ تحت العين التي تدلق نارها/ تشوي الكعك/ الزلابيا/ يدرك سليم أن الفقراء في الشارع لا يقربون زجاج المعارض فيغصّ باللوعة المرّة/ كيلو كعك واحد لا أقدر على أخذه لأمي /أتراهم، يحومون حول البقع الداكنة، فوق الاسمنت عرق يموج ودخان/ ثمة غفوات الحر اللاهبة يا سليم… هه هه هه… ،،،

أ- تابو القهر: طفولة الحالمين:

نمشي معه، ونحن نتطلع بعيون شرهة إلى الشراشف المعلقة على حبال السطوح/ الأطياف اللونية تسحب أخيلتنا آآ. يكتوي السراج آخ خ خ سراويل حمر، أترونها، فوق الحبال، يهزّها الهواء بقوة… تخيلوا كفل المرأة الضخم (الوجوه الخضلة والمشعة فوق أجساد مقدودة بمرمر اللحم، توهج الخلايا الكروية داخل الأقفاص الجسدية المرصوصة بالفرن: من ثقب الستارة الداخلية يلمح السراج التنورات النسائية تنضغط/ دمه يمور، يتنحى/ في العتمة ينهي الرهزة الأخيرة وينهض محطماً، يترك الشغل: يقول للأسطة اقطعها من أجرتي… قرب الجرف يخلع ثيابه ويعوم بمياه شط العرب/ إلى الجحيم بالأسطة، فليقطع ما يشاء من أجرتي… يعوم بالنهر، لكن، تتكسر دوائر الموج هنا فوق موجة تنحني لكفّ الإله، انشد السلوان وحيداً كقطرة بيضاء تلامس بيوض النوارس، وتتلاشى، تتلاشى في الزبد، تلك الرعشة التي تفيض على رمال الماء تن سس – – / تن سس/ تن سس… تنسرح… تنسرح.

ب- تابو الاثم: رغبات البائسين:

الدقائق الطبشورية في السماء التي تنثّ دوائر بلون الحليب تجعله يسترجع صورة الفجر الأول (بيت السراج – بيتنا/ بيت خالته خديجة/ بيت الأصدقاء… كلها تتلاصق، حيطانها تتجاور: في الصيف والناس نيام فوق السطوح، طعم النعاس الأبيض يغشي عينيه… يستفزه أرق دبق… ثمة فحيح… يلمح قطتين فوق السياج: قط وقطة… مواءات تتصاعد… يفتح عينيه على سعتهما… القط الذي بلون الغبار يعتلي القطة البيضاء/ مووو يتسلق ظهرها… مووو… ينبض دم وحشي في عروقه… مو… موو… مووو… ممم/ ترتعش أطرافه… يجرجر جسمه من السرير موو… تلتصق قائمتا الفحل الخلفية بمؤخرة الأنثى الممتلئة… موو… يرتعد مو… يجفل… يحاذر، حين يخطو لصق السياج الفاصل بين بيته وبيت خالته خديجة التي ترقد مع زوجها، عادة في الصيف تكون عرقانة تكتوي بالحر، ولا تحتمل، عادة تخلع ثيابها، وتتعرى… يدرك سليم ذلك/ ندرك نحن ذلك/ منذ الصغر نحن ندرك/ وهو يدرك/ أنا أدرك هي تدرك/ ندرك/ تدرك الأصوات تختلط/ خديجة أيضا تئن أي ي ي … الأصوات تختلط أوووي… آآآه… ي ي ي… أوجعتني أوووي… القط يعلك أذن القطة… مووو… يلوذ سليم بالسلّم المغبش… يهبط سريعاً درجاته المظلمة، لاهثاً، ينزّ… أُفاجئه خالعاً دشداشته… المحلة خالية… يجلس فوق عتبة الباب/ ترتد إلى جفنه دمعة خجلى… سأشرب شايكم ثم نرحل إلى النهر)( ). دورة كاملة من الأخيلة المضببة تكتمل في دم السراج وشرايينه. كل شيء يفرغه الوقت السريّ في فرن العشار. صارت حياة سليم كابوساً فولاذياً يمرّ سريعاً بنا وقد باتت خطانا نحثها على المشي فوق جنازات الزهر/ النهر تلوى في أحشاء الأرض. تفوح رائحة غبار، فنعوم بعيدا عن البؤس اليومي، خلفنا السراج، يُقبّل عيوننا/ نشرع بالإبحار فوق موج التسامي ويبحر هو في خضمّ الندم… اختفى مرة: تركنا واختفى، فوجئنا به يعود ملتحياً، وأزرار قميصه مفتوحة، أخرج من جيبه قطعة بيضاء، دعكها بكفه وقال: في هذه الصدفة التي تحنّ إلى أصداف البحر، سأغيب هناك، كما ترونها بيضاء، سأنام. أترككم وأنام هناك. في داخلها أمسح جراحي، ألملم أفكاري… سأغيب: صدفة بيضاء كما ترونها. تأوّه. جال بعينيه في وجوه الحاضرين. قال ثانية: هي بلون الحليب، تكويرها يلملمني… خطا خطوتين… هاهاها… أنا سليم السراج روحي غيمة من ريش صقيل… وهتف بعصبيّة ذُهِلنا… بتنا صامتين. غبنا عنه ونحن حاضرون.

وحضر معنا وهو غائب. كلانا تائه في لجّة المحنة. هه هه نعوم. آ. نعوم… دورة أخيلة… هه هه. عيونه تغرق في بحر النجوم… نتدحرج بين خيط وخيط، يُعلّق على أعناقنا السُمر: أطواق الضفادع.

* * *

كان احد الرواد في مقهانا يهمس في أذن الصحاب: سليم السراج انعطافة زمنية عبرت على تاريخكم الشخصي، اشتعلت مرة وستنطفئ إلى الأبد (ننقل عيوننا إليه، نراه يصارع طواحين الهواء، فنغوص إلى قاع الطين بينما يرتفع بجنحيه الوهميين إلى ضباب الأعالي… يخاتل أعداء وهميين، يراوغ نفسه، حيث ينزوي في أقصى زاوية في المقهى. أحيانا يدّعي الشرود، علّه يسمع قطرةَ مطر تطرق حافة الزجاج، صداها يقول: سليم نطفة سقطت على ثلمة جرف طويل ثم صارت جرحاً متعرجاً يطول إلى ينابيع المدى… يؤلمنا صلبه أوجاعنا لكي يعري غصون أيامنا من أوراق الضجر… صرنا نكسّر المرايا بأضراسنا، في نوبات المحنة… وهو يثمل على أنغام الشيزوفرينيا ).

ــــــــ ــــــــ ــــــــ

شرع السراج يحرق المراحل… يقرأ بنهم/ الحرائق التي اشتعلت في شرخه النفسي جعلته يهيم في ضباب الرعب… كان يرى الصحب يغيبون، الواحد تلو الآخر، في ظلام النهارات والسلاسل…

ــــــــ ــــــــ ــــــــ

غيّبته المستشفيات وغلّفته الأعوام بشراشف بيض كثيفة، ينام ولم يفق إلا على صحوة غبراء/ ينهض تعباً، زائغ النظرات، حافي القدمين، ضامر الوجه، هزيل الأطراف، يجوب الدروب/ المقاهي/ الحانات/ يقرأ أشعاراً على الأرصفة، يبول على الجدران (في غيابه المحزن كنا قد قطعنا شوطاً واخترقنا مسافات معرفية شاسعة، نحن الذي نحّينا أنفسنا عن الفيضان المدمر… في غيابه الذي هو عادة يطول ويطول ( ) عيوننا بسقت، ورؤانا أزاحت شباك الصيد الأعمى… التهمنا أكداساً من الكتب. كتب الدنيا قرأناها وبرغبة ضارية، وبكل جموح الشباب وحماسه…، حين عاد من المستشفى وجد المسافة بينه وبيننا قد بعدت وطالت. ألفيناه صامتاً. شرع ينسحب ببطء من مقاهينا، صار يتركنا أياما ويعود/ حاولنا ردم الفجوة بيننا، أن نضمّه إلينا، لكنه يلبث فترة قصيرة ثم يختفي/ ألقينا إليه طوق النجاة، دون جدوى/ الهاتف المرّ ينطق فينا/ نشحذ فيه روح العزم/ نغرز براعم الثناء في روحه المنهارة: سلومي أنت بركان حكمة… هاها… … … طُزْ فيكم… سلومي أنت جوهر النار، نراها فيك تتوثّب، تصهل… سلومي تصهل وأنت في أحلامنا تحرث طبقات الحجارة/ بدائية كانت حروفك الديناصورية، أخيلتنا في ممراتها الكثيفة… أي واقع نحّيته… طُزْ فيكم أيها الوحشيّ، العنيف، الهادر، عُدْ إلى صلابة الرايات الغائبة… ها… هـ . هـ … لعبة قديمة… يتطلّع ذاهلاً إلى اكفّنا التي تحمل كتب المشاهير: فوكنر، المتنبي، هيجل، …، …/ …/ …/ سليم يتوحش يداهمنا، ينقضّ علينا ثم يشرع بالصراخ: كلها أوهام… فوكنر بعناده اليانكي القذر استخفَّ بأذهانكم. يا عقول الصفيح، لا تصدقوا أسطورة المسيسبي، واليانكا و بتاوفا. هه هه… إنه يرسخ في أذهانكم عقدة الاستعلاء اليانكية… يتبرم السراج، يغالب الذات الجريحة… لمحناه يلاحق العناوين، يقرأ بنهم أصيل، لكن الشيزوفرينيا المداهمة لم تترك له سوى ذاكرة معطوبة تعوم به فوق قضبان الخذلان، حينئذ تطفح حرماناته، تأخذه من يده عنوة إلى ضفاف تتماوج بعذرية سلاحف يفوح منها عطن الرماد (يغيب بسريّة… في يوم شتائي أسود تتبعنا آثاره. أدركنا الخرابة القذرة التي ينام فيها… دخلنا ساعة ظهيرة، لم يكن موجوداً حين قرأنا على الجدران الداخلية كتاباته المسمارية/ جليد لا يأتي، آ، لألأ. لأ،/// تنحدر تراباً هناك تلال الأعالي// تتلألأ لألأ… تتلألأ، غمائم/ ثمة، آ، ثمة، آ، ثمة، آ/// عيون يدحرجها الوهم/ ينابيع بذور حدائق كنا نحلم بالرحيل إليها/ حدائق، كنا؛ حدائق/// أتدرون، حذارى/،،، في سوح يتركها السرّاج ويهرب، تاركاً شفراته المطحلبة بأحبار كثيفة…

ــــــ ــــــ ــــــ

استدعيت ثانية. اقتادني شرطي إلى غرفة التحقيق. رأيت أمامه نسخة (وقت سريّ) قال لي اقرأ مقاطع من كل فصل لكي تدرك حجم الإساءة…

(1) مقطع فصل الموت: جذر العدم/ محطة التطويق

شاحنات تقترب، تفتح أبوابها العملاقة. التوابيتُ تكسّر بكلاّبات، تنزع مساميرها. رجال بعيون عميقة، مفتولو العضلات، يلقون الجثث الممزقة في نقالات متحركة، تتجه صوب المقطورات المفتوحة، …، وقت ظهيرة. الشوارع خالية الرائحة تموج. الكلاب تطوّق المحطة وتعوي،…

(2) مقطع فصل السفن: قروش البحر/ ضباب الجزر البعيدة

ثمة فتية يحاصرون، يجبرون على التطوّع: السخرة السوداء، نقل الجثث… في المرافئ السفن تتأهب للإبحار: القطارات القادمة، المعبأة بالجثث تُفرَّغ في أحواض أُعدَّت لغسل الأجساد المتفسخة، بمياه دافئة، مخلوطة بمادة كيمياوية زرقاء… تصفّف الجثث مائة مائة/ ألف ألف/ تُغلّف بمشمعات رقيقة ذات لون رمادي/ الرائحة تتدفق على الموج، وهي بلون الوقت، الوقت الثقيل، لا أكثر، لا أكثر، بلون الوقت الميت/ الرائحة تتفتت. في الهواء، في التراب/ ثمة قوارب دائرية، تحمل الجثث وتبحر قبل انطلاق السفن بنصف ساعة عليها الفتية يلقون جثثاً متفرقة في عرض البحر، يشاغلون القروش العملاقة التي تشمُّ الروائح المسكرة وتتصدّى للسفن/ وهناك فوق متون الموج تفتح سدادات الزجاجات، فيكرعون خمرةً بلون التراب، الكل يثمل حدّ الجنون، جنون الوقت المجثّث/ جنون الجثث التي تفرز لزوجتها الخضراء، الصدئة/ ثم تنطلق السفن في غياهب الضباب… وينادي المنادي: ضعوا الكمامات على أنوفكم. ضعوا الكمامات.

(3) مقطع فصل المقابر: أودية الفجيعة/ قهر اللاعودة.

كل شيء يكتمل في انتظار شحنة أخرى. الفتية ينقلون القوارب بالرافعات، إلى القمرات، فوق السفن. القروش تلاحق السفن، تبتلع الجثث/ قروش بلون الفولاذ… تلاحق السفن/ أرتالها/ أنساقها/ قروش عجيبة/ فكوكها تتحدى النجوم/ يُلقي إليها الفتية جثثاً فائضة وهي تتلاطم، تتقافز في الهواء/ قروش بلون معادن تالفة/ قروش، تتشظّى (… ،،، … التراكتورات/ السيارات القلاّبة/ الرفوش/ كلها مرصوفة بين مسافات قريبة، متساوية/ الحجارة أيضا مرصوفة بعناية القبور المحفورة مفتوحة بعناية/ قبور جماعية تبتلع مئات الجثث، تأتي البلدوزرات، والتراكتورات، وتغطي القبور بأكفها الحديدية، تسوّي الأرض، ثم تأتي السيارات الحوضية تفتح خراطيمها، وترشّ المساحات المحروثة، بمياه مالحة، في ظهيرة، جزر، ملح، نار، خرائب، السماوات، تخوم، أرض، لها، حياتها، مواتها، مواتها، مواتها، مواتها، مواتها، مواتها، … ،، موات الفتية الذين، غاصوا أيضا مع الموتى، في ظلام القبور المفروشة على جبهة الأبدية/ أبدية فراعنة ينشرون طقوسهم عبر زمن عاد وسيظلّ يعود…

(4) مقطع فصل الجنازة: حلم التفسّخ/ التشييع اللامعقول

المدينة خلت من ناسها. أخيراً صدرت قوانين بالسماح للناس في الرحيل بعد أن عمّ الوباء الشامل/ آلاف العصافير الميتة تسقط على البيوت/ عصافير بلون الفراغ/ عصافير مبقورة البطون، أعناقها ذابلة، عيونها مفروشة على الزغب/ المحطة خالية/ وهناك جثة… جثة رجل غامض، مرّ عليها آخر القطارات/ الجثة تنتفخ/ حارس خطوط الليل يرقب المشهد/ يقترب منها. يُغطيها ببطانية عسكرية وسخة، يحملها الحارس بيده، يفرشها على الوجه البارد والقدمين/ الجثة تنتفخ/ الذباب يطنّ/ تصير مثل بالون/ تصير بحجم أسد/ بحجم فيل/ جيفة نموذجية/ رجال المخفر تحسّسوا الموقف/ جاءت أم سليم، التي قادها حدسها، ومعها زوج أختها خديجة/ رفعوا الجثة بالبطانية/ موارات/ ديدان تنشطر، سرطانات تتورم، ذباب يتكوّم، جمهرة كائنات طفيلية/ حتى الوقت الذي تمّ فيه إلقاء الجثة في تابوت كانت العصافير الميتة تغمر الشوارع/ ثلاثة رجال حملوا الجنازة: الحارس، والشرطي، وزوج خالة سليم/ في ساعة غروب، عبر درب خال إلا من تلال العصافير الميتة، هنالك خيط من الدم، يمتدّ من المحطة، حتى آخر نقطة استراحة تركت فيها الجنازة/ مئات الكلاب السائبة، قطعان منظمة تسير وراء خيط الدم، تتشممّ الرائحة، تلعق القطرات/ ثم تنتظر لحظة الانقضاض الأخيرة… ، … ، …

ــــــ ــــــ ــــــ

تطلعت إلى ذرات التراب الخيطية التي تفحّ في الغرفة المظلمة، وهي تهمي على الأرض الحجرية. اتكأت على الحائط، وأنا ارتجف من لوعة الذكرى السوداء، لا زالت تهيمن نوبات جنونه السريعة وهي تعصف برأسه ساعة تسكّعه في طرقات الليل، رثـّاً، حافي القدمين… ، …، وفيما كنا نكبر/ نجتاز مراحل الدراسة، عتبات الجامعة، تتجسّم أمامنا صورته الحيّة ويتضاءل عمق الروح:-

يا سليم بن عزيز السراج في الطوايا نار وفي السماء شرخ مائل وأنت تتطلّع إلى غيمة الحديد. تغيب عنا، وأمّك ترفع شكواها إلى الله، الحكومة، العباد. يأتي رجال الشرطة حيث العواصف تهبط إلى الجحيم الأزلي، الكلّ يبحث عنك (من ظلمة الأعماق. في ردهات المستشفى، تأتيني رسالة منه، يطلب فيها مسودّة الوقت السري. أهدي إليه نسختي المصورة. أبعثها بالبريد المسجّل. أدرك أنه مهووس بالرواية. يردفني برسالة ثانية يقول فيها: ماذا لو، آ، ماذا..؟ ويغوص في شرود طويل، حروفه تتثلّمْ، وتتآكل. أراه يهوم على الورق. يهوم ويختفي في أنفاق السطور. أراه يتلاشى بين الحروف/ اللعنة، بعدها يصفو، يريد عمل سيناريو لوقتنا السري. ثم تنقطع رسائله… أرسل إليه كتابات، ألحّ فيها، على العناية بصحته… بعد فترة سراديب موهومة. النجوم تهمي على شفتيه المهشمتين. بعد أيام قليلة ينتكس، يغيب ساعات عن الوعي: لا أريد الرؤية/ لا/ مرة رأيته تائهاً يحدّق في خرائب المدينة، يفترش الأرض، يكرع خمرة توهج له جفنيه. لم يكن يعرني اهتماماً/ كان سليماً آخر/ يومها أدركنا كلنا أن السراج أبحر في جنون مطبق( ) لم أكن راغباً في المنحنى الواطئ لحياته الحزينة… دخل المستشفى من جديد ثم خرج معطوباً تماماً… بعد فترة من الصمت طلب لقاء الأصدقاء. أمّه أوصتني به فقلت لها: يده في أيدينا يا أم سليم، وفي مقهانا القديم التقيناه. شرع يرشف شاي الود ويدخن سجائر الأخوة، وهو يحدّق طويلاً في عيوننا، ثم يبتسم… ها سليم كيف حال الدنيا..؟ يبتسم لنا بشرود ثم يسحب من إبطه ملفاً أصفر: إنها آخر مسرحية، مَن منكم يساعدني على تحويلها إلى سيناريو..؟ الصمت يطبق… يتطلع إلى وجوهنا – مَن يجسّدها معي، نمثّلها معاً، على رصيف الشارع..؟ الصمتُ يطبق. هنا ينذهل سليم أولا ثم يثور علينا:- كسالى – جثث محنطة… ،، وكأن الكسل والوهن بالفعل قد دبّـا في مفاصلنا المتعبة وأرواحنا الشائخة… أتعبتنا الأيام يا سليم وسرقنا الوقت…/ على جادة الكورنيش، بعد جولة يائسة شرع يبكي، ويقول: ماذا لو أتيت معي إلى محطة المعقل نبحث عن وقتنا السري، وقتنا الشائع في أعماق الفراغ الوقت يشيخ، إني أشمّه يفوح من حقائب المسافرين: كل حقيبة تابوت وكل مسافر جثة/ وكل قطار غول للموت القادم؛ أتدري: كان عبد الله حسوني يأخذ شخوصنا التي التقطناها من الرصيف… عبد الله لص موهوب… وناقل الواقع سارق كبير… تركته في المحطة (… ، … خطوت، لمحت الأضواء فاضحة. وجوه فسفورية ملطخة/ عيون شرهة/ حقائب متخمة بالأشياء… استدرت، كنت أراه من بعيد، واقفاً بدشداشته الوسخة، وملف الرواية وأشياء أخر في قبضة يده…

اللون الرمادي يذوب في زاوية الرصيف/ الأشياء تتجاور/ تفترق/ تتوتر: الظلمة والعيون ثم يعوي القطار تتوافد السيقان الطويلة، الصقيلة تخطو بثبات، رجال ببدلات سود يتوافدون/ ويعوي القطار ثانية طوو وووووووووو/ وووووووو/ وووووووو.

ـــــــ ـــــــ ـــــــ

في العشار الذي عاد إليه بسرعة البرق يبحث عن ظل لصديق يؤدي معه دور الحكاية… لا أحد هناك في الساحة الخالية. السماء تنثّ غباراً، التخوت خالية، الصمت يتغلغل في المدينة. يدلف إلى المقهى ولا أحد هناك. يعود إلى المحطة نفسها… الأضواء تخبو… المقاعد خالية. الأرصفة توشوش على طولها الأشجار… ثمة صراصر في العتمة المنسربة تعزف ألحانها الحزينة/ سليم يرتدي ثوب الحكاية. يضع تاج الموتى على رأسه. يتقنّع بالرؤيا الكابوسية: رؤيا لخرافةٍ قذرة/ تنقدح الأضواء/ تنطفئ/ يحتشد المسافرون الهلعون/ تنقدح الأضواء/ القطارات القادمة تصهل، ينبعث الضجيج… يواجه جنوداً مسافرين/ يغيب بين الممرات يزحف على الصلبان… ويصيخ… يصيخ: إنذارات بعيدة، أصوات رمادية… يسميها ألكترونات، ألكترونات نحاسية، تختلط في رأسه… قرقعة مناقير ببغاوات/ أصداء متقطعة، عمودية، صارخة/ يشرع السراج بالبحث، آ، البحث الحقيقي، بين السطور، الصفحات/ يجترح التجسيد، يتفرس وجهاً وهمياً لعجوز خرقاء، ضئيلة، تصبّ الشاي في حلوق الموتى المرصوفين قبالة المقطورات… تدبّ، تدلق شايها في الأفواه المكشرة/ تنطفئ الأضواء… يواجه ظلاماً قاتماً… المحطة خالية الآن، …/ الدقائق تهمي كقطرات المطر/ نوباته تطفح/ … ، … ، … ،، يصهل: هاها يهتف بأعلى حنجرته: أيها المعطوبون… لوطيو الحاضر… هناك فوق رمال سيناء/ صخور أربد/ مغاور جونيه… أشلاء يغزوها السرطان/ يفتح يديه، يكورهما. يركض، راسماً أقواساً عبر الظلال… ،،/ (رادار اليقظة): إنه القطار/ (رادار اليقظة): إنه القطار، يكشر عن أنيابه الحديد، ينفخ دخانه الأسود، عجلاته المدرعة تدكّ الأرض… ، تنبعث الالكترونات: يخطو سليم، يتراجع، قدمه تنزلق، وتنحشر بين الصلبان… ينهض،،، تتحرك خطاه إلى السكة. ويسقط. تقترب أنفاس القطار المهولة… قدمه، تلتوي، تحت عارضة الخشب… أوراقه تتبعثر في الهواء… يسقط سليم لتمرّ عليه العجلات، وتفضح وقتنا السري.

حين انفتح باب التوقيف، لمحت عيني أم سليم… كانت تبكي، فيما الشمس تتمسح بفوطتها السوداء… حينئذ أدركت، أنها جاءت تعفو وفي كفِّها عقرب ميتة.

شارة:

جماعة “البصرة أواخر القرن العشرين” جماعة فريدة ليس في تاريخ السرد العراقي فحسب بل في تاريخ الأدب العراقي عموما. فهي لم تكن “الجماعة القصصية” الأولى في تاريخ العراق فقط بل كانت مشروعاً تثويرياً في النظرة إلى دور السرد خصوصا في واحدة من أخطر المراحل التي عاشها العراق بانعكاساتها الهائلة على رؤية الأديب ورؤاه. اقتنصت هذه الجماعة الإمكانية العظيمة لفعل الكلمة المقاوم حبن ترتدي أثواب الفن الباهرة فيمكنها أن تكون ماسة تلمع وتقطع في الوقت نفسه. وإذ تنشر أسرة موقع الناقد العراقي تراث هذه الجماعة وما كُتب عنها فلأنها “ظاهرة” تستحق الدراسة لاستنباط دروسها. تحية لجماعة البصرة أواخر القرن العشرين. ويهم أسرة الموقع أن تتوجّه بفائق الشكر والامتنان إلى الأديب الأستاذ “محمد عبد حسن” مؤرّخ هذه المجموعة وواحد من المساهمين المهمين فيها لأنّه زوّد الموقع بأغلب نصوص هذا الملف.


قصي الخفاجي : وقتٌ سرّي (ملف/16)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى