د. زياد الحكيم – تشارلز ديكنز

عندما كان تشارلز ديكنز Charles Dickens في العشرينات من عمره قورن بشكسبير من حيث اتساع خياله وقدرته على التعبير وتعدد اعماله. فنحن لا نذكر ديكنز بعمل واحد كما نذكر دانتي وسيرفانتس وميلتون. ومن وجهة نظر القارىء العادي تفوق كل من ديكنز وشكسبير في تصوير شخصياتهما. ولكنهما في الواقع تفوقا في مجالات كثيرة غير ذلك. وفي حين ان شكسبير يغطي مساحات اكبر ويذهب الى اعماق ابعد مما يفعل ديكنز الا ان ديكنز يمتاز على شكسبير في انه عاش في عالم اقرب الى عالمنا من حيث مشكلاته وتطلعاته. يعتبر النقاد والقراء عموما ديكنز اعظم روائي انكليزي حقق من الشهرة والشعبية في اثناء حياته ما لم يحققه مؤلف قبله. وخاطب في اعماله البسطاء والمثقفين والفقراء والاثرياء. وساعدته الصحافة على ذيوع صيته بسرعة مذهلة. ولم يقل اقبال القراء على رواياته ومقالاته بالرغم من مرور الزمن. وتتمتع اعماله باحترام النقاد وتقديرهم كما كان الامر دائما. ولم يكن ديكنز كاتبا روائيا فحسب، ولكن ذكاءه واطلاعه وفهمه للمجتمع الذي عاش فيه والعيوب الاجتماعية التي كانت وراء معاناة الطبقات الفقيرة – كل ذلك جعله شخصية ادبية لها نفوذها في ادب القرن التاسع عشر ومتحدثا قويا بلسان ضمير العصر.

ولد ديكنز (1812-1870) في بلدة بورتسموث في جنوب انكلترة. وعاش اسعد سنوات طفولته في مدينة تشاتام، وهي منطقة كثيرا ما يشير اليها في رواياته. وانتقلت الاسرة الى لندن عام 1822. وكان والده موظفا في البحرية، وكان راتبه جيدا، ولكن تبذيره ادى بالاسرة الى ازمات مالية حادة. وما لبث ان حكم عليه بالسجن لعدم قدرته على تسديد ديونه، ولحق افراد الاسرة به الى السجن.كان ديكنز في الثانية عشرة من عمره في ذلك الوقت. فاضطر الى ترك المدرسة والعمل في احد المصانع مقابل ستة شلنات في الاسبوع. وتركت هذه الفترة اثرا عميقا في عقله، وشعر فيها بالوحدة والهوان نتيجة ظروف اسرته المعاشية. ولكنه اطلع في المصنع اطلاعا مباشرا على اوضاع الطبقة العاملة وحرمانها, وانعكست هذه الخبرات في اعماله فيما بعد. وتعود الى هذه الفترة ايضا جذور الصعوبات التي واجهها كرجل وكاتب في فهم المرأة. ويمكن ان يعزى ذلك في رأي الكاتب انغس ويلسون الى استيائه الشديد من امه التي اعتقد بانها فشلت فشلا ذريعا في فهم مشاعره ومعاناته. فقد حاولت ان تبقيه عاملا في المصنع بعد ما سمحت ظروف الاسرة المعاشية وخروج ابيه من السجن بان يعود الى المدرسة.

التحق ديكنز بمدرسة في لندن سنتين ونصف السنة. ثم ترك المدرسة عام 1827 ليعمل كاتبا في مكتب احد المحامين حيث تعلم الاختزال واصبح بعد عامين مراسلا قانونيا لعدد من الصحف والمجلات (ومن هنا اكتسب معرفة بالقانون ظهرت في ما بعد في رواياته)، ثم مراسلا صحفيا. وكان لهذه الفترة اثرها في حبه للصحافة وكراهيته للقانون والبرلمان. ولفت ديكنز الانظار في تلك الاثناء بدقة ملاحظته وقوة ذاكرته وجمال كتابته. وفي هذه الفترة مر كاتبنا بتجربة تركت اثرا عميقا في عقله وروحه. فقد وقع في غرام مايرا بادنيل ابنه مدير احد المصارف. ودامت العلاقة اربع سنوات عانى ديكنز خلالها ما عانى من صد المحبوبة وغرورها لسمو مكانتها الاجتماعية. وقد ازدهرت في العصر الفيكتوري (1837-1901) – نسبة الى الملكة فيكتوريا – العلوم والاختراعات. وخطت بريطانيا خطوات واسعة الى الامام من الناحية المادية. ولكن هذا العصر في الوقت نفسه امتاز باتساع الفجوة بين الاغنياء والفقراء، وتدهورت فيه الاوضاع المعيشية للطبقات الكادحة.

ويصور ديكنز في رواياته ومقالاته العديدة كيف ان انكلترة في ذلك الوقت كانت تمر بعصر انتقالي شهدت فيه تغيرات كبيرة على كل المستويات، وانشغل فيه رجال الفكر والسياسة ببحث ما يمكن ان تؤدي اليه هذه التغيرات. فقد اخذت الثورة الصناعية منذ القرن الثامن عشر تغير البنية الطبقية للمجتمع البريطاني. وكان لديكنز تحفظاته بشأن التقدم الذي تحقق لانه كان مدركا ان الازدهار المادي لم يكن ليستفيد منه الجميع. فقد نبهته معرفته لاحوال الفقراء بشكل خاص لمشكلات المدن الكبرى حيث تعيش اعداد غفيرة من افراد الطبقات الفقيرة في جوع وجهل في احياء سكنية اعتبرها مرتعا للمرض والجريمة. ففي رواية "ايام عصيبة" 1854 بحث ديكنز الاثار السلبية للنظام الرأسمالي الصناعي في مدينة تقع في شمال انكلترة. على ان ديكنز لم يكن مهتما فقط بالفقر المادي. اذ كان مدركا شأنه في ذلك شأن الناقد الاجتماعي توماس كارلايل للضرر الاخلاقي والروحي الذي يمكن ان يلحق بافراد المجتمع في عالم مادي يقوم على التنافس غير المتكافئ، وينتصر فيه جانب من جوانب المجتمع على حساب هزيمة جانب آخر.

ولم تظهر الرواية من حيث هي فن ادبي له قواعده واصوله في الادب الانكليزي الا في النصف الاول من القرن الثامن عشر. وعندما ولد ديكنز كانت الروائية جين اوستن في اوج مجدها. ومن اشهر اعمالها "الكبرياء والتحامل" 1813 و"ايما" 1816. ونشر السير ولتر سكوت عام 1814 الرواية الاولى من سلسلة روايات ويفرلي التي اكسبته ثروة ونفوذا في اوربا. وليس هناك ما يدل على ان ديكنز قرأ هذه الاعمال. ولكنه قرأ في مطلع حياته اهم الروايات في القرن الثامن عشر مثل "روبنسون كروسو" 1717 لدانييل ديفو و"توم جونز" 1748 لهنري فيلدنغ و"رودريك راندوم" 1748 لتوبياس سمولت. واحب ديكنز هذه الروايات وتعلم منها المبادئ الاولية للبناء الروائي وتطوير الشخصيات من خلال الحوار الطويل والوصف المفصل. ونستطيع ان نتأكد بسهولة بقراءتنا لاعماله انه قرأ الانجيل واعمال شكسبير وقصص الف ليلة وليلة.

نشر ديكنز اول عمل له في عام 1833، وكان مقالة (اسكتش) في "المجلة الشهرية" تحت اسم مستعار بوز. وفي عام 1836 صدر العمل كاملا بعنوان "اسكتشات من تأليف بوز" ولاقى العمل رواجا كبيرا. وفي العام نفسه كلفته احدى دور النشر بكتابة نصوص فكاهية لتنشر مع رسوم كاريكاتورية. وهكذا بدأ مشروع كتاب "اوراق بيكويك" 1837. ونشر هذا الكتاب كغيره من اعمال ديكنز التي اعقبته بشكل مسلسلات في المجلات والصحف. وصور فيه الكاتب الحياة في لندن من جوانب مختلفة تصويرا دقيقا يتميز بالشمولية والعمق. ولاقى الكتاب رواجا كبيرا في حين لم يكن عمر الكاتب يتجاوز الخامسة والعشرين. واصدر ديكنز "اوليفر تويست" 1837 و"نيكولاس نيكلبي" بعد عام من ذلك و"محل الملاهي القديم" و"بارنابي ردج" 1841. وحقق الكاتب شهرة واسعة ونجاحا فائقا قبل بلوغه سن الثلاثين. وطور ديكنز اسلوبه الروائي، واصبحت رواياته تبحث في الجوانب الاخلاقية والاجتماعية في العالم الذي كان يعيش فيه. نشر "ديفيد كوبرفيلد"1850، صور فيها خبرات طفولته، و"بيت مهجور" 1853. وانشأ ديكنز في الوقت نفسه مجلة اسبوعية اسمها "كلمات منزلية" واتبعها بمجلة اخرى اسمها "على مدار السنة" 1859. ونشر في هاتين المجلتين مقالات غير روائية في موضوعات شتى. كما واصل نشر فصول من رواياته "قصة مدينتين" 1859 و"آمال عظيمة" 1861 و"صديقنا المشترك" 1865. وكانت هذه آخر رواية كاملة له.

وبالاضافة الى الروايات الطويلة، نشر ديكنز اعدادا كبيرة من المقالات والخطابات والقصص. واشتهر بقراءة فصول من اعماله في جولات كان يقوم بها في بريطانيا والولايات المتحدة. وبالرغم من انه قد كسب اموالا طائلة من اعماله فانه لم يكن ينعم براحة البال. وكان اهتمامه بالمسائل الاجتماعية غير مقتصر على رواياته فقد اخذ على نفسه ان يقاوم الامراض الاجتماعية والانظمة السياسية المسؤولة عنها. وكان مهتما بشكل خاص بمسألة تعليم الفقراء وتأمين بيوت لائقة لهم.

ولعب المسرح دورا كبيرا في حياة ديكنز الذي بدأ اهتمامه به في سن السابعة. وبعد ان ترك المدرسة كان يذهب الى المسرح كل ليلة تقريبا في مختلف انحاء لندن بالاضافة الى مسارح كوفنت غاردن الكبيرة مما ساعد في توسيع دائرة معارفه بالمدينة وممثليها ومغنييه. وكان الذهاب الى المسرح فرصة للهرب من اعباء الحياة ومشاغلها في الغالب. وشارك في الفرق المسرحية للهواة، وقام بجولات كثيرة في انكلترة واسكوتلندا مع فرق مسرحية للهواة. وشكل فرقا مسرحية واشترك في التمثيل والاخراج.

كان ديكنز في حياته الخاصة هو الرجل نفسه الذي نتوقع من اعماله. كان حديثه مهذبا وممتعا، وكان مولعا بالالعاب التي تتطلب مهارات عملية، وكان يحب المشي والرقص. وكان الانطباع العام الذي يعطيه هو انه رجل فكر عملي من الطراز الاول. وكان شخصية اجتماعية فذة. وعرف عنه انه افضل خطيب في مآدب العشاء، وافضل كاتب اختزال في الصحافة اللندنية، وافضل الممثلين الهواة. وقالت عنه احدى الصحف: حتى اذا استثنينا عبقريته الادبية، يبقى ديكنز رجلا ماهرا ذكيا يمكن ان يتفوق في اي عمل يقبل عليه. وفي بيته استضاف ديكنز كبار الكتاب والفنانين والممثلين والصحافيين. وكان بعض ضيوفه من المحامين ومن الطبقات الراقية ايضا. وكان يحب الحديث اللطيف الهادىء. ولم يكن يكثر من الحديث عن النظريات الفلسفية والفكرية.

كان رجلا محبا لاسرته، وابا عطوفا وطيبا. وكان فخورا بفنه. وبذل كل ما في استطاعته للوصول بهذا الفن الى قمم جديدة وتوظيفه في خدمة اغراض نبيلة.


[email protected]
لندن - بريطانيا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى