د. زياد الحكيم – هنريك إبسن

قال عنه جورج برنارد شو انه مؤسس ما سماه بالمدرسة الابسنية التي تهتم بنقد الاخلاق المعاصرة في شكل درامي. وكان ابسن استاذا في الفن الدرامي سواء من حيث التقنية الفنية العالية او من حيث عمق معالجة الموضوعات التي تناولها. واغنت مسرحياته الدراما النثرية العالمية بدراستها طبيعة الواقع والفرد والمجتمع.

كان هنريك ابسن شديد الحرص على الوصول بفنه الى اعلى درجات الكمال الفني الممكنة. كان من دأبه في سنوات نضجه ان يتفرغ سنتين لكتابة كل مسرحية: كان يستعين في ذلك بكتابة مسودات كثيرة يدرس فيها تفاصيل المشاهد وطباع الشخصيات وميولها. حتى اذا كتب المسودة الاولى لمسرحيته عاد اليها مرات ومرات يضيف اليها ويحذف منها. ولا يخرج بالمسرحية الى الناس الا عندما تكون على اكمل وجه ممكن. ولايزال بامكان الباحث اليوم ان يعود الى هذه المسودات ليطلع من خلالها ليس فقط على اصول مسرحيات ابسن ولكن ايضا على اصول التأليف المسرحي وقواعده.

ولد ابسن 1828 - 1906 Henrik Ibsen في قرية نورويجية صغيرة يعنى سكانها بتجارة الاخشاب. وبعد ثماني سنوات من ذلك تدهورت اوضاع ابيه المالية وتعين على اسرة ان تنتقل الى بيت اصغر وان تعيش حياة شديدة التواضع. واعتاد ابسن حياة الفقر والحرمان اللذين رافقاه سنوات طويلة من حياته.

واهتم كاتبنا في مطلع حياته بالرسم، وعندما ترك المدرسة في سن الخامسة عشر كان مصمما على ان يكون فنانا. ولكن الفقر حال دون ذلك. فعمل اجيرا عند بائع ادوية خمس سنوات. وفي نهاية هذه الفترة بدأت ميوله ومواهبه الادبية بالظهور. واخذ ينظم الشعر للتعبير عن مشاعر كان بعضها وليد النزعات الثورية التي كانت تجتاح اوربة في ذلك الحين. ولم يلبث ابسن ان شعر بالضيق من الحياة في قرية صغيرة وضعت قيودا كبيرة على مواهبه وطموحاته فانتقل عام 1850 الى كريستيانا عاصمة النورويج انذلك، مصطحبا معه مسرحية شعرية من ثلاثة فصول من تأليفه بعنوان (كاتيلينا) نشرها في ذلك العام تحت اسم مستعار، ولكنها لم تصب اي نجاح, وفي كريستيانا عمل ابسن في الصحافة. ولكن بفضل جهود بعض الاصدقاء حصل ابنس على عمل في مسرح بيرغن حيث عرضت له مسرحيتان لم يكن حظهما من النجاح اكبر من حظ المسرحية الاولى.

بعد ذلك عاد الكاتب الى كريستيانا ليعمل مديرا فنيا للمسرح النورويجي الجديد. وفي هذا المسرح حصل على خبرة ممتازة بالجانب الفني للعمل المسرحي. ولكن سوء الطالع رافقه فأفلس المسرح واضطر الى العودة الى الرسم لكسب قوت يومه.

كان ابسن يتميز بتفكيره المستقل العنيد مما جعل حياته في بلاده لا تطاق. فغادر النورويج عام 1864 ولم يعد اليها الا بعد خمس وعشرين سنة باستثناء زيارتين قصيرتين. امضى السنوات الاربع الاولى في ايطاليا والسنوات الاخرى في المانيا. وفي ايطاليا اصدر مسرحيتي (براندا) 1866 و(بيرجنت)1867 . واصابت المسرحيتان من النجاح ما ادهش النورويجيين وما اكسب الكاتب شهرة واسعة. وفي عام 1877 بدأ ابسن بكتابة سلسلة من المسرحيات النثرية التي عززت شهرته في اوربة من اهمها (بيت الدمية) 1879 و(اشباح) 1881 و(هيدا غابلر) 1890 و(متى نصحو نحن ا لموتى) 1899.

عاد ابسن الى النورويج عام 1890 واقام في العاصمة كريستيانا بعد ان اصبح كاتبا شهيرا، واحاطه النورويجيون بالثناء والاهتمام. واحتفلت البلاد بعيد ميلاده السبعين احتفالا حماسيا على المستويين الرسمي والشعبي. واقيم في السنة التالية تمثال له امام مسرح كريستيانا.

بيت الدمية

اثارت مسرحية (بيت الدمية) عاصفة من النقاش والنقد اللاذع العنيف ليس في الدول الاسكندنافية فحسب ولكن ايضا في جميع ارجاء اوربة. فالمسرحية تبحث في وضع المرأة الاوربية التي تعامل في بيت ابيها ثم في بيت زوجها على انها كائن يخلو من الاحساس بالمسؤولية والقدرة على التفكير، او بعبارة اخرى تعامل على انها مجرد دمية. هذه المرأة في المسرحية (نورا) تكتشف مسؤوليتها نحو نفسها وتغادر بيت زوجها واطفالها لتبحث عن ذاتها في عالم يسود فيه الرجل.

وقد يظن البعض ان ابسن غالى في تسليط الضوء على حقوق المرأة واغفل واجباتها. ولكن علينا ان نذكر انه في جميع مسرحياته الاجتماعية تناول المشكلات التي كانت تواجه المجتمع الاوربي في عصره غير انه لم يحاول ان يجد لها حلولا. اذ كان يعتقد ان وظيفة الفنان في المجتمع هي لفت الانظار الى المشكلات وليس مطلوبا منه ان يقدم الحلول. وكان رده على اولئك الذين اتهموه بانه صاحب فلسفة هدامة بان مهمته كما يفهمها تتمثل في الاشارة الى نقاط الضعف في النسيج الاجتماعي وفي ترك الفلسفة البناءة لغير الكتاب المسرحيين. لقد شخص ابسن المرض، وترك مهمة العلاج للآخرين. ولكن بغض النظر عن صحة او خطأ قرار نورا بترك زوجها واطفالها من اجل ان تبحث عمن هو على صواب - المجتمع أم هي - فاننا يجب ان لا ننسى انصافا للكاتب ان ابسن بالرغم من حماسته في الدفاع عن حق المرأة في تطوير ذاتها لم يكن يؤيد او يشجع المرأة "المتحررة"، ولم يكن يتفق مع من يعتقدون ان التحرر يعني ان تتخلى المرأة عن الميدان الذي يمكن لها فيه ان تقوم بوظيفتها الطبيعية افضل قيام وان تدخل في ميادين لا تساعدها طبيعتها البدنية والنفسية على التفوق فيها. وكان يعتقد ان المرأة تؤدي دورا عظيما في تقدم العالم والانسان اذا قامت بوظيفتها كأم احسن قيام.

اما من الناحية الفنية فان (بيت الدمية) تشكل نقطة تحول في تاريخ الدراما الاوربية. فقد احدث ابسن ثورة باسلوبه الدرامي: فالحوار والحدث يتميزان بالواقعية، وهناك التزام بوحدتي الزمان والمكان، ونلاحظ انعدام الادوات المسرحية المصطنعة كالمناجاة وتجنب النهاية السعيدة اذا لم تكن نتيجة منطقية لاحداث المسرحية. ولا شك ان هذا كله يبدو لنا مألوفا ومفروغا منه في اية مسرحية حديثة، ولكن يجب ان نذكر ان الفضل في هذا التطور في الاسلوب المسرحي يعود الى العروض الاولى لمسرحية (بيت الدمية) خارج البلاد الاسكندنافية.

اصدر ابسن في السنوات الاخيرة من حياته اربعا من اكثر مسرحياته غرابة وتعقيدا: (البناء المعلم) 1892 و(ايولف الصغير) 1894 و(جون غابرييل بوركمان) 1896 و(متى نصحو نحن الموتى) 1899. وتتميز هذه المسرحيات الاربع بنظرتها السوداوية للعالم والحياة وتنظر فيها الشخصيات الى ماضيها في كثير من الاسف والندم. ويعتقد بعض النقاد ان احداث هذه المسرحيات مستقاة من خبرات حقيقية مر بها ابسن في حياته. ففي (البناء المعلم) مثلا تذكرنا شخصية هيلدا وانجل بالشابة اميلي بارداخ النمساوية التي قضى ابسن بصحبتها فترة من الزمن، وتذكرنا مسرحية (ايولف الصغير) بقصة الحب التي مر بها ابسن في شبابه واثمرت ولدا غير شرعي.

والاهم من هذا اننا نقرأ في هذه المسرحيات الموقف الاخير لكاتبنا من الفن. فالكنائس والقصور والابراج التي شيدها البناء المعلم سولنس ترمز الى ما كتبه ابسن من مسرحيات تاريخية وخيالية واجتماعية. في حين ان سقوط سولنس من خلال سقف بنائه الاخير يمكن ان يرمز الى موقف ابسن من اعماله كلها. وفي مسرحية (متى نصحو نحن الموتى) نجد المثال ريبيك وقد تحرر من كل اوهامه واعتبر حياته التي قضاها بصحبة فنه منعزلا عن الناس بانها اقرب الى الموت منها الى الحياة.



[email protected]
لندن - بريطانيا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى