عدنان الداعوق - الرحلة الأخيرة.. قصة قصيرة

كان هناك ما هو أقوى من الصمت بكثير يلف وجوده ووحدته وأرقه.‏

الفراش اللين يطرده، والهدوء الساكن يخاله صخباً وعنفاً مرعباً.‏

والجو. كل الجو المحيط به يظنه يريد أن يبتلعه ولا يبقي له أي أثر. ويسمع من بعيد عجلات القطار تتحرك.‏

ويمتد أمام المارد الأسود قضيبان، يبتعدان ويبتعدان إلى أن يصلا إلى منطقة لم تطأ أرضها قدم إنسان.‏

وتبدأ الرحلة...‏

***‏

القطار يسير ببطء.. والعجلات تطوي طريقاً مظلمة.. ثم تأخذ السرعة كل شيء، فتلف الوجود كله بصمت. هو صمت السرعة يأكل كل شيء ولا يترك أخيراً صورة واحدة مهزوزة مطموسة المعالم.‏

كانت تجلس مبتسمة على أريكة طويلة في إحدى المقصورات.. وكان زوجها يجلس إلى جانبها وفي رأسه ألف فكرة.‏

ويظل القطار في عناق ملح للقضيبين النهمين أبداً للمسير.‏

ثم يأتي، في منتصف الرحلة، السؤال الأزلي منطلقاً من أعماق الزوجة المبتسمة:‏

-ماذا في الأمر.. أهناك ما يشغلك عني.؟‏

وود الزوج لو استطاع أن يقول كلمة. أية كلمة..‏

وماست الأحرف على شفتيه، وكادت الكلمة أن تقال، ولكنه توقف.‏

ثم عاد ونظر إليها طويلاً.‏

كان شتاء قاسياً مراً. وكانت الأمطار محبوسة في عين السماء.. والأفق البعيد لا يني يبعث بين آن وآخر دفقة جديدة من البرق والرعد تنذر بشيء كان في عالم المجهول.‏

ودخلت على الزوج أخته الكبرى، وعلى شفتيها أكبر ابتسامة في أجمل لحظة، وقالت له بغبطة مشرقة:‏

-أبشر.. فقد جاءك طفل.‏

وهكذا كانت ولادته.‏

وتوقف القطار عن المسير. وهطلت الأمطار المحبوسة في عين السماء. وانكشف عالم المجهول أمام عينيه.‏

وفجأة، وجد نفسه إنساناً شاباً يعانق الوجود وجهاً لوجه، ويحاول، وهو القزم الصغير، أن يتحدى البرق والرعد ولا يعترف بهما.‏

إلا أنه في كل لحظة كان يتحداه شيء أكبر من ذلك.. أكبر من وجوده. شيء اسمه النقص. فهو في نظر أقرب الناس إليه، قزم صغير يحتاج إلى عناية.‏

***‏

ارتدى ثيابه، وقد ضاقت به الدنيا، وخرج إلى الشارع.‏

لم تكن لديه وجهة معينة، ولا مكان مقصود.. بل كل ما أراده هو أن يتمشى قليلاً عله يجد بين زحمة الناس ما ينسيه بعض القلق والخوف.‏

في الطريق. شاب أسمر الوجه، يحيط خصر حسنائه بوله مجنون، يخاف أن يفلت الخصر من بين ذراعيه، فتطير إلى عالمها البعيد.‏

والحسناء تبتسم. تبتسم لكل من يصادفها في الطريق.‏

ومر هو بجانبهما.‏

وابتسمت الحسناء.. وظن أنها تبتسم له، ولم يدر أنها كانت دائمة الابتسام تعانق عيناها كل مخلوق في الطريق، وتود لو تنطلق، فهي سجينة قفص ذهبي ثمين.‏

وتركهما خلفه.

وظل يعد الخطوات الباقية حتى يصل.‏

وفجأة سمع بوق سيارة معربدة.. وأصوات عجلاتها تتسمر فوق الإسفلت الأسود، والتفت.‏

كان الجمع غفيراً.. وثرثرات الناس تتضارب مع بعضها لا تفسر شيئاً من الموقف.‏

وهرع إلى حيث تجمع الناس...‏

الشاب الأسمر يقف كالتمثال فوق جثة حسنائه التي حطمتها السيارة المعربدة، وأصوات الجمع تردد:‏

-كانا يحاولان عبور الشارع...‏

ترك الجمع الصاخب وراءه، واستأنف المسير.‏

وقبل أن يجد في المسير، أطلق عبارته:‏

-لقد انطلق الطير الحبيس من القفص الذهبي الثمين وطار..‏

ابتدأت بعض الغشاوات تطمس معالم طريقه. وصارت صور الناس تتحرك أمامه كالدمى الخشبية تحركها يد عبقرية ماهرة.. والألوان لم يعد يستطيع تحديدها لسرعة تسابقها.‏

وصار يسمع من بعيد صوتاً مخنوقاً، والصدى يرجع إليه حاملاً بين أجوائه صراخاً وعويلاً مرعباً.‏

***‏

الجميع في البيت يبكي‏

ماتت أمه.‏

وما زال أبوه شاباً ينشد مستقبلاً مشرقاً بين يديها.‏

انطلقت هي الأخرى من قفصها الذهبي تبحث عن عالمها البعيد.. عن خلودها.‏

ولم يستطع هو أن يبكي أمه بعدما رأى أباه صامتاً، وكأنه قد تحجر من أثر الصدمة الهائلة.‏

وفي العمارة امرأة تصرخ وتبكي وتملأ الحي ضجيجاً.. وأخيراً تضع وليدها. ويبصر الحياة ومع إطلالته الأولى على الحياة.. تتبدل الدموع. دموع الألم إلى دموع الفرحة.. فقد جاء ولي العهد..‏

وتدور صحون الحلوى، وترتفع الزغاريد..‏

أما والد الطفل الوليد، فإنه يذهب في الحال إلى مختار الحارة، ويستحصل من عنده على ورقة، تلصق فوقها الطوابع.. وفي الغد سيزيد راتبه تعويضاً جديداً لهذا الإنسان المبارك.‏

وتبتعد الأيام...‏

***‏

والقطار المارد الجبار يسير في رحلة الحياة.‏

وفجأة يقف القطار، وتهمد حركته. فقد أشرف القضيبان النهمان على النهاية. نهاية كل شيء.‏

***‏

..ومات أبوه أيضاً في إحدى الغارات الجوية.‏

وحين أفاق –بعد مدة- ووعي الصدمة العنيفة.. ظن أن العالم كله قد انتهى.. إلا أن نواقيس الكنائس كانت ترن باستمرار.. وقد شرعت الصلبان اللامعة تتحدى الموت وتنشد السلام.‏

وانغرست أقدامه في تربة الأرض السخية، ووجد نفسه أنه لن يستطيع مغادرة الحياة بسهولة هكذا. فقطاره الصغير ما تزال أمامه الطريق طويلة طويلة.‏

***‏

- مساء الخير يا حلو..‏

أيقظته التحية الخرساء من ثباته اليقظ.. وابتدأت الألوان تتوضح في ناظريه، وأخذت الخيوط الآدمية ترسم معالم جديدة من عالمه ذاك.‏

وكانت "رندة" تبتسم.‏

- مساء النور يا رندة.‏

قالها بلا وعي منه، وأحس بجفاف في حلقه.‏

والتفت وواجهها تماماً.‏

كانت ما تزال تبتسم، ولا يدري لماذا تذكر الفتاة التي تحطمت تحت عجلات السيارة قبل قليل.. تلك كانت تبتسم أيضاً.‏

وأيقظته "رندة" من ذهوله الجديد، وقالت له:‏

- أعائد أنت إلى المنزل..؟ تعال لنرجع معاً.. فقد كنت في السوق أشتري...‏

ولم يسمع بقية حديثها، فقد تذكر فجأة كل شيء...‏

***‏

القضيبان النهمان وقد انقطعا فجأة أمام المارد الأسود..‏

وأخذ القطار يتدحرج في الطريق، ويلفظ الجثث من نوافذه.‏

***‏

ومد يده، وناولها المفتاح:‏

- اسبقيني أنت إلى المنزل، وسألحق بك بعد لحظات.‏

وغنجت أمامه صارخة الأنوثة، وهي تهمس:‏

- ولكن لا تتأخر...‏

ونامت "رندة" فوق زنده وحلمت طويلاً.‏

وطافت بها خيالاتها نحو آمالها المسرعة اللاهثة.‏

- عناقك العنيد يؤذيني يا رندة.. خففي قليلاً من حدتك.‏

وضجت بالضحك، وقفزت من جانبه.. وتعرت قليلاً. ثم عادت واستلقت فوق زنده مرة أخرى، وقالت:‏

- ثق أن حواء كانت في منتهى نعومتها وهي عارية.. أما حين لبست ثوبها الأنثوي، صارت متوحشة.. ضارية...‏

ألست تريدني هكذا...؟‏

وانغلق باب الجنة.‏

وأزهر التفاح. ولكن الشيطان هذه المرة كان ثملاً من شدة النشوة، ومرتاحاً من كل شيء.‏

ساعة المدينة النائمة تدق دقة واحدة بعد أن انتصف الليل.‏

وتململ في سريره، وكانت "رندة" نائمة في هدوء، أنفاسها تعانق أنفاسه وابتسامتها المرسومة بدقة إلهية فوق شفتيها ما زالت تذكره بالفتاة التي شاهدها وهي تموت تحت عجلات السيارة.‏

وابتدأت من جديد تزول من حوله كل معالم الأشكال والألوان.‏

وأحس أن كل شيء قد أخذ يتحلل في صورة هيولية سابحة، حتى "رندة" تمددت معالمها الصارخة بجانبه، ولم يعد يرى فيها سوى ابتسامة تتعلق كظل ابتسامة العذراء فوق أحد جدران معبد عتيق متهدم.‏

لحظات عنيفة تمر.‏

وساعة المدينة تدق دقاً متواصلاً متلاحقاً، كأنها تسابق الزمن وتستعجل الحياة. وابتدأ يجد نفسه رويداً، وقد أخذ يعي كل شيء حوله.‏

***‏

القطار يسير بسرعة خاطفة.. قبل أن يتدحرج..‏

والقضيبان النهمان امتدا طويلاً وبعيداً في أرض بوار لم تطأها قدم إنسان.‏

وأمه تجلس فوق أريكة عريضة مبتسمة، في إحدى المقصورات.‏

وأبوه في صمته المطبق، ينظر إليها بوله مجنون.‏

وتقتحم الأم صمت زوجها، وتسأله:‏

- وماذا عن ابننا الوحيد..؟‏

ويبتسم الأب بعنفوان هذه المرة، ويقول لها بكثير من الاعتزاز:‏

- لا تقلقي عليه. فلا بد أن يجد له مكاناً مريحاً في القطار اللاحق.. وسترافقه حسناؤه.. إنها هي الأخرى تعرف كيف تبتسم.‏

وترتاح الأم لكلام زوجها.‏

وتسند رأسها على كتفه وتغفو..‏

***‏

وبخطوات مجنونة يقترب من سرير "رندة"، ويهزها هزاً عنيفاً.‏

وحين تفتح عينيها، يقول لها بوله عجيب:‏

- انهضي يا حبيبتي... انهضي، وهيا بنا قبل أن يغادرنا القطار.‏

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى