د. زياد الحكيم – هنري جيمس

يعد هنري جيمس Henry James واحدا من اعظم الروائيين الامريكيين واغزرهم انتاجا. كتب اكثر من اربع وعشرين رواية طويلة وعددا كبيرا من الروايات والقصص القصيرة وحوالي عشر مسرحيات وعدة الاف من الرسائل والمحاضرات الادبية.

ولد جيمس (1843-1916) في مدينة نيويورك، وذلك بعد سنة واحدة من مولد اخيه الاكبر وليام جيمس الذي اصبح فيما بعد استاذا في جامعة هارفارد واكتسب شهرة عالمية كفيلسوف ديني وضع اسس الفلسفة البراغماتية، وهي فلسفة تدعو الى قياس قيمة الافكار بما يتولد عنها من آثار عملية. وقد حرص والد كاتبنا على تنشئة ابنائه تنشئة تجمع اكبر قدر من فرص تنمية قدراتهم الذاتية وتستبعد ما يمكن استبعاده من القيود المفروضة عليهم من الخارج. ولهذا لم ينتم هنري جيمس واخوه وليام الى اي كنيسة مسيحية تقليدية ولم يلتحقا باي مدرسة معينة مدة طويلة جدا.

وزار جيمس اوربة في عدة مناسبات. وكانت اقامته فيها طويلة بحيث تمكن من الالتحاق بمدارس في انكلترا وسويسرا وفرنسا والمانيا. وكان لاقامته في اوربة تأثير قوي في اعماله كروائي كبير. فمنذ مطلع حياته اتخذ موقفا عالميا مكنه من ان ينظر الى الولايات المتحدة وافتقارها للثقافة نظرة نقدية. واعتقد في ما بعد ان ضحالة الحياة الفكرية في الولايات المتحدة وافتقارها الى تقليد راسخ لم يكونا ليقدما تربة صالحة لنمو مواهب روائي ناشئ. ومع ذلك لم يفقد احساسه بانتمائه الى العالم الجديد بدليل انه ركز معظم رواياته على ما يسمى بالعالمية اذ عالج مصائر شخصيات امريكية بريئة تقف وجها لوجه مع ثقافة العالم القديم المعقدة.

وعند عودته من اوربة عام 1859 اقام في مدينة نيوبورت بولاية رود آيلاند. ومع ان هذه الزيارة كانت قصيرة فانها كانت ذات اثر بالغ في حياته. ففي نيوبورت التقى باحدى قريباته واسمها ميني تمبل، وكانت فتاة مملوءة بالحيوية والمرح. وتعلق بها الى حد كبير. وعندما جاءه نبأ وفاتها عام 1870 احس بصدمة كبيرة. وغدت ميني في ما بعد تمثل في رواياته الفتاة الامريكية الجميلة والبريئة والمحبة للحياة. وقد خلدها جيمس في عدد من بطلاته منهن ميلي ثيل في رواية (جناحا اليمامة) 1902.

وفي مدينة نيوبورت ايضا اقام جيمس عدة صداقات اسهمت في تطوره كروائي، منها صداقته مع توماس سارجنت بيري الذي اصبح في ما بعد ناقدا واستاذا في جامعة هارفارد، ومنها صداقته مع الرسام جون لافارج الذي اكتسب منه حسا فنيا عميقا وحبا للرسم. وكان لذلك اثره في ممارسته فن الكتابة الروائية. وعن طريق الرسام لافارج اكتشف اشهر اعمال الكاتب الفرنسي اونوريه دو بالزاك (الكوميديا الانسانية) ، وهي سلسلة من الروايات تصور المجتمع الفرنسي في القرن التاسع عشر تصويرا يتصف بكثير من الشمولية المبنية على ملاحظة دقيقة للتفاصيل الخارجية وعلى فهم عميق للعلاقات الاجتماعية. ولم يعجب جيمس باعمال بالزاك فحسب، ولكنه وجد فيها ايضا مثالا الف على منواله رواياته العديدة.

وكان لرالف والدو امرسون وناثانييل هوثورن اللذين تعرف اليهما جيمس شخصيا عن طريق والده اثر عظيم في تطوره كروائي. فقد تأثر مفهومه للانسان بفلسفة امرسون المتسامية التي اكدت قيمة الثقة بالنفس وكرامة الفرد. هذا مع ان جيمس انتقد امرسون لاهماله ميل الانسان الى الشر. وقد تميز هوثورن عن معاصريه الاكثر تفاؤلا بايمانه بان الانسان يمكن ان يكون شريرا بطبعه. وقد اعجب كاتبنا برؤية هوثورن الكئيبة للعالم والحياة، كما اعجب باسلوبه الادبي الذي عبر به عن هذه الرؤية.

والتحق جيمس عام 1862 بجامعة هارفارد لدراسة القانون، ثم قرر ان يزاول الكتابة فنشر عدة قصص ومقالات. واقام عدة صداقات ادبية كانت اقواها صداقته مع الناقد والروائي الامريكي وليام دين هاولز (1837-1920) الذي كان محررا في مجلة اتلانتيك الشهرية. ففتح هاولز صفحات المجلة لمساهمات الناقد والمؤلف الشاب هنري جيمس.

وكان جيمس يعتقد بما اعتقد به هاولز من ان الرواية فن ادبي جاد. وكان يطمح الى كتابة روايات امريكية تضاهي اعمال بالزاك وجورج اليوت وغوستاف فلوبير. وعندما بدأ بكتابة رواياته لم يكن ليسمح لاي قدر من النقد ان ينال من عزيمته وتصميمه. وقد كانت حياته العملية حياة طويلة تميزت بالانتاج الغزير.

ومن اهم الاسباب التي دفعت به الى ان يقيم في اوربة اطلاعه المبكر على الثقافة الاوربية والادب الاوربي وقراءته لكتب بالزاك وتورجينيف وجورج اليوت وفلوبير واقتناعه بان الفن الروائي يعتمد على الانطباعات الغنية التي تغذي خيال الكاتب، وهي الانطباعات التي لا يمكن ان يجدها في الولايات المتحدة لافتقارها الى تقليد ثقافي وحضاري عميق.

وكتب عن ادب هوثورن قائلا: "ان هوثورن ليس بالكاتب الواقعي لانه ليس هناك واقع كاف في الولايات المتحدة ليبني فنه الروائي عليه. ولهذا السبب اعتمد هوثورن اكثر مما يجب على الرمزية."

واعتزم جيمس عام 1875 ان يقيم في باريس بالقرب من الروائيين الذين كان معجبا بهم. وقد قدمه تورجينيف الروائي الروسي الذي كان يعيش في المنفى في باريس الى غوستاف فلوبير وحلقة الروائيين الشباب الذي التفوا حوله ومنهم اميل زولا وغي دو موباسان. وقد اعجب جيمس بشجاعة هؤلاء الكتاب الفرنسيين الذي اختاروا موضوعات قصصهم بحيث يصورون الجانب المظلم من الحياة متحدين بذلك افكار المجتمع الراقي ومعتقداته.

غير ان جيمس ما لبث ان شعر ان هؤلاء الكتاب فرضوا على انفسهم قيودا كبيرة لانهم التزموا بتصوير كآبة الحياة ومآسيها وبذلك انتجوا صورة ناقصة للوجود الانساني. ولا شك انه ضاق ذرعا بالموضوعات الجنسية التي عالجها الروائيون الفرنسيون. ولهذه الاسباب انتقل الى انكلترا بعد اقل من سنة من اقامته في باريس.

وفي انكلترا التقى عددا كبيرا من الشخصيات السياسية والفنية والادبية البارزة. وفي عام 1898 اشترى بيتا في بلدة راي في جنوب انكلترة واقام هناك حتى آخر حياته.

يقسم النقاد انتاج جيمس الادبي الى ثلاث مراحل مختلفة، تمثل كل مرحلة منها تقدما واضحا في فنه الروائي. تتناول معظم الروايات التي ألفها كاتبنا في المرحلة الاولى ما يسمى بالموضوع العالمي. فرواية (الامريكي) 1877 تعالج خبرات امريكي في باريس هو كريستوفر نيومن. وهو شاب غير مثقف ولكنه على درجة عالية من الثراء. يتزوج نيومن من فتاة فرنسية من الطبقة الراقية، ولكن الزواج لا ينجح بسبب مؤامرات اقارب الزوجة الذين ينظرون اليه نظرة ازدراء. غير ان جيمس يصور بطله نيومن بدرجة عالية من النبل لرفضه ان يثأر من اعدائه الارستقراطيين. وتنتمي الى هذه المرحلة ايضا رواية (صورة سيدة) 1881، وهي قصة شابة امريكية ثرية تحضر الى اوربة بحثا عن الحرية وتحقيق الذات، ولكن الاقدار تدفعها الى الزواج من رجل امريكي مقيم في اوربة على درجة عالية من الانانية والغرور.

في المرحلة الثانية تناول جيمس في رواياته شؤون الساعة. فألف رواية (سكان بوسطن) 1884 التي تسخر من حركات الاصلاح الامريكية، ورواية (الاميرة كاساماسيما) 1886 التي تدور احداثها في لندن وتعالج الاضطرابات الاجتماعية التي انتشرت في الثمانينيات من القرن التاسع عشر في كل من اوربة وامريكا.

ولكن النجاح لم يحالف جيمس في هاتين الروايتين ربما لانه اعتمد موضوعات واقعية اكثر مما يجب. عندئذ تحول الى الكتابة المسرحية وانتهت هذه التجربة الى فشل ذريع عام 1895 بفشل مسرحية (جاي دمفيل). ففي ليلة الافتتاح اهتاج الجمهور وامطر جيمس بوابل من الشتائم. وهنا قرر الكاتب ان يعود الى الكتابة الروائية, ولكن لم تمر هذه التجربة دون ان يتعلم منها قيمة الحوار وقيمة تصوير الاحداث تصويرا دراميا.

ويعتبر النقاد المرحلة الثالثة من تطور جيمس الروائي اهم المراحل. بدأت هذه المرحلة عام 1902 بنشر رواية (جناحا اليمامة) وبعدها رواية (السفراء) 1903 ورواية (الاناء الذهبي) 1904. وفي هذه الروايات عاد جيمس الى موضوعاته العالمية.

ففي رواية (جناحا اليمامة) نقرأ قصة فتاة امريكية شابة اسمها ميلي ثيل تحضر الى اوربة وتقيم فيها وتشعر بسعادة غامرة بالرغم من مرضها والخدع التي تتعرض لها. وفي (الاناء الذهبي) نقرأ عن زواج فتاة امريكية وارستقراطي اوربي ويمر الزواج بمصاعب كثيرة، ولكنه ينجح في التغلب عليها. ونجاح هذا الزواج يرمز الى حالة الوفاق بين القيم الامريكية والاوربية. وهي الحالة التي كان جيمس يسعى للوصول اليها في رواياته ذات الموضوع العالمي.

حقق جيمس في اثناء حياته شهرة واسعة. ولكنه لم يكن ذا شعبية واسعة. ومنحته جامعتا هارفارد واكسفورد درجات فخرية عام 1910. وفي عام 1915 بعد سنة من اندلاع الحرب العالمية الاولى تخلى عن جنسيته الامريكية واكتسب الجنسية البريطانية احتجاجا على تردد الولايات المتحدة في الانضمام الى بريطانيا وفرنسا والدول الحليفة لهما في حرب اعتقد انها تمثل كفاحا حضاريا ضد قوى الشر. وتوفي جيمس في لندن عام 1916.



[email protected]
لندن - بريطانيا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى