د. زياد الحكيم – جورج أورويل

ادى ظهور العديد من الحركات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بعد الحرب العالمية الثانية الى احياء الاهتمام بكتابات جورج اورويل George Orwell ومواقفه. ونشر عدد كبير من الكتب والاحاديث والمقالات التي تدرس جوانب متعددة من حياة اورويل واعماله. وتشمل اعماله ست روايات والعديد من المقالات الادبية والنقدية.

ولد جورج اورويل (1903-1950) في اقليم البنغال في الهند، وكان ابوه يعمل في الجيش البريطاني هناك. وعاد مع امه واختيه الى انكلترة في السنوات الاولى من حياته. وكان في طفولته يميل الى العزلة والخجل الى درجة انه لم يكن يستطيع ان يكشف عن احاسيسه الدفينة حتى لامه.

وفي سن الثامنة ارسل اورويل الى مدرسة ابتدائية على الساحل الجنوبي لانكلترة. وظل هناك حتى سن الثامنة عشرة. ولم يكن سعيدا في المدرسة لعدة اسباب منها عزلته وحساسيته المفرطة وصحته العليلة. وبالرغم من ذلك فاز بمنحة اهلته للالتحاق بمدرسة ايتون الخاصة الشهيرة التي امضى فيها اربعة اعوام. ووصف اورويل هذه السنوات بقوله: "لم اتعلم في ايتون الا القليل جدا. ولا اعتقد انه كان لهذه المدرسة اثر كبير في حياتي." ولكننا نعلم مما قاله اصدقاؤه وزملاؤه انه حظي بشعبية واسعة في ايتون واكتسب صداقة كثير من الطلاب الاخرين الذين اصبحوا فيما بعد كتابا ونقادا معروفين.

وكان من الطبيعي ان يلتحق اورويل بجامعة اكسفورد او جامعة كيمبردج بعد تخرجه من مدرسة ايتون. ولكنه آثر ان ينضم بنصيحة استاذ له الى سلك الشرطة في بورما التي كانت مستعمرة بريطانية انذاك. وهناك امضى خمسة اعوام. وفيما بعد كتب اولى رواياته بعنوان "ايام في بورما" حول خبراته في تلك البلاد، انتقد فيها الاستعمار وكل اشكال التسلط الاخرى التي يمارسها الانسان ضد الاخرين. وغادر بورما الى غير رجعة عام 1927.

وامضى اورويل عدة سنوات بعد ذلك في اعمال مختلفة في لندن وباريس. ونلاحظ في روايته "مشرد في باريس ولندن" الفقر المدقع الذي كان يعيش فيه. وفي هذه المرحلة تخلى عن اسمه اريك آرثر بلير واطلق على نفسه اسم جورج اورويل. ويعتقد الكثيرون ان تلك محاولة واعية منه لقطع الصلة تماما بماضيه ليعيش كرجل جديد. ونشر في السنوات التالية عددا من الروايات منها "ابنة القسيس" 1935. واثارت هذه ا لروايات اعجاب النقاد. ولكن لم يقبل عليها جمهور القراء. وذكر مرة انه اجرى حسابا لعائدات كتبه ومقالاته بين عامي 1930 و1940 فوجد انها لا تتجاوز ثلاثة جنيهات في الاسبوع بالرغم من مساهماته العديدة في كثير من المجلات والصحف.

وفي عام 1936 اندلعت الحرب الاهلية في اسبانيا وسافر اورويل كصحفي الى تلك البلاد. واصيب في الحرب برصاصة قناص اخترقت عنقه وجعلت صوته اجش طوال حياته. وفتحت الحرب عينيه على اهداف الشيوعيين وعمقت معتقداته السياسية.

ونشر كاتبنا عام 1945 روايته الشهيرة "مزرعة الحيوان" التي حققت رواجا كبيرا واعيد طبعها مرات عدة وترجمت الى لغات مختلفة. وحققت هذه الرواية ايضا دخلا طيبا للكاتب للمرة الاولى في حياته.

تروي "مزرعة الحيوان" قصة ثورة تقوم بها الحيوانات في مزرعة مستر جونز. والدافع المباشر وراء الثورة هو اهمال مستر جونز احوال مزرعته وحيواناته. غير ان الدافع الحقيقي للثورة هو الاحلام الثورية التي راودت الخنزير الفيلسوف والحكيم اولد ميجور. ويتسلم الخنازير القيادة، ويبرز منهم نابوليون وسنوبول وسكويلر. وتسعى الحيوانات جميعا لتحقيق اشبه ما يكون بالجمهورية الفاضلة. وتسير شؤون المزرعة في بادئ الامر بشكل طيب، وتعقد اجتماعات، وتشكل لجان. ولكن يبدو مع مرور الايام ان الخنازير القادة لا يقومون بنصيبهم من العمل ويحصلون على امتيازات جديدة كل يوم تقريبا.

يحاول مستر جونز استعادة مزرعته بالقوة. فيشن هجوما فاشلا بمعاونة جيرانه. ويصاب في الهجوم سنوبول ويفر بعض الحيوانات وتبرز خلافات سياسية بين نابوليون وسنوبول بشأن طريقة تسيير شؤون المزرعة. ويلجأ نابوليون الى القوة فيأمر جماعة من الكلاب الشرسة التي رباها منذ صغرها لهذا الغرض بمطاردة سنوبول الى خارج المزرعة، ويتسلم القيادة منفردا وبشكل استبدادي، بينما يتولى سكويلر مهمة اقناع عامة الحيوانات بافكار نابوليون وسياساته.

ويقرر نابوليون بناء طاحونة هوائية. وتعمل الحيوانات لتنفيذ المشروع بالعرق والدموع. وشيئا فشيئا تنتقل الخنازير الى بيت المزرعة الذي كان يشغله مستر جونز وتنام في الاسرة خلافا لما نص عليه دستور الثورة. وفي ذات ليلة تهب عاصفة قوية تدمر الطاحونة. ويزعم نابوليون ان سنوبول المطارد هو المسؤول عن تدميرها. ويحكم عليه بالاعدام غيابيا. ويأمر ببناء طاحونة جديدة.

ويمر شتاء قاس تخفض فيه كمية الطعام المخصصة لكل حيوان. وفي الوقت نفسه تحاول القيادة رسم صورة جميلة للاوضاع الداخلية للتصدير الخارجي. وتحمل القيادة سنوبول المسؤولية عن اي ازمة او كارثة. ويطلق نابوليون على نفسه لقب الرفيق القائد. ويعيش في عزلة عن بقية الحيوانات. ويجري مفاوضات مع اصحاب المزارع المجاورة لشراء الخشب. ويدفع ثمن الخشب بالعملة المزورة مما يدفع بتجار الخشب الى شن هجوم اخر على المزرعة يسفر عن تدمير الطاحونة الجديدة وعن مقتل عدد كبير من الحيوانات. ولكن الهجوم على اي حال لا ينجح. وتقبل الخنازير على تعاطي المسكرات. وهذا خرق اخر لدستور الثورة.

ويعمل بوكسر اقوى حصان في المزرعة كل ما في وسعه لخدمة رفاقه، ويتطلع الى الوقت الذي يتقاعد فيه عن العمل عندما تتقدم به السن. ولكنه ينهار ذات يوم بسبب التقدم في السن والافراط في العمل فيؤخذ في عربة الى الجزار ليذبح. ويحاول سكويلر بكلماته البراقة ان يقنع بقية الحيوانات بان بوكسر اخذ الى المستشفى وهو على فراش الموت.

وتمضي سنوات على جمهورية مزرعة الحيوان. ولا يبقى من جيل ما قبل الثورة الا عدد قليل من الحيوانات. وتزدهر المزرعة على حساب كدح الحيوانات وظروف معيشتهم القاسية. ويواصل الجميع الحلم بتحقيق الجمهورية الفاضلة التي وضع اسسها اولد ميجور، الخنزير الفيلسوف.

ولكن تغيرا حاسما يحدث عندما تبدأ الخنازير بالمشي على رجلين بدلا من اربع تقليدا واضحا للانسان، وتحمل السياط. ونراها في اخر الرواية تلعب الورق وتشرب بصحبة اصحاب المزارع القريبة الذين يكيلون المدح للخنازير لسيطرتها على الطبقة الكادحة في المزرعة.

اما آخر رواية كتبها جورج اورويل فهي "1984" التي نشرت بعد وفاة مؤلفها. وتمثل هذه الرواية صورة قاتمة للعالم عام 1984 كما تخيله اورويل عندما الفها. وهي تصور العالم وقد حكمته حكومات استبدادية في حالة حرب فيما بينها. وفي هذا العالم يخضع كل شخص وكل شيء لمراقبة الطبقة الحاكمة وسيطرتها. وتقوم وزارة الحقيقة باعادة كتابة التاريخ بما ينسجم مع مصلحة السلطة القائمة. وتقوم الحكومة باستئصال مشاعر الحب من قلوب الناس. وتصبح السلطة هدفا بحد ذاتها. ويقول نقاد ان حالة التشاؤم هذه مردها الى سوء حالة المؤلف الصحية في الوقت الذي كتب فيه الرواية.

كان اورويل يعتبر نفسه كاتبا سياسيا في المقام الاول. وكتب مرة يقول: " كل سطر كتبته في اعمالي الجادة منذ عام 1936 قصدت به بصورة مباشرة او غير مباشرة ان يكون ضد الاستبداد ومع الاشتراكية الديمقراطية كما افهمها."

ولم يعرف الادب الانكليزي الحديث كثيرا من الكتاب الذين يشبهون جورج اورويل من حيث صدقه في التعبير وحرصه المستمر على كتابة نثر واضح جميل. وبالرغم من ايمانه القوي بالاشتراكية كان يعتقد ان الكاتب الامين لا يمكن ان يرتبط باي حزب سياسي. وكان حريصا على تحطيم الاصنام اكثر مما كان حريصا على ايجاد بدائل عملية لها. ورافق مثاليته احساس عميق بالواقع مما يفسر طبيعته المتشائمة. وكان ينفر من المادية، ولكنه كان في الوقت نفسه متشككا في المعتقدات الدينية.

يتمثل المفتاح لعالم افضل في نظر اورويل بالصدق والولاء للناس الاخرين. اما اذا كان العالم يتميز بالقسوة والوحشية فان سبب ذلك يعود الى ان من يلهثون وراء السلطة يشوهون الحقيقة. ولذلك عادى اورويل الانظمة الاستبدادية التي تتلاعب بمصائر الناس. وتعاطف مع ضحايا الاضطهاد السياسي والاجتماعي والديني. واغضب الكثيرين بصدقه وسعيه لاعلان الحقيقة. ولكن صدقه هذا اكسبه ايضا صداقات لا عد لها من مختلف المستويات.


[email protected]
لندن - بريطانيا
  • Like
التفاعلات: الأمين الإدريسي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى