أدب السجون رياض حسن محرم - شيوعيون فى الواحات

خمس سنوات كاملة قضاها معظم قيادات الشيوعيين المصريين فى سجن "المحاريق" بالواحات بالإضافة لعدد كبير من كوادرهم التى كانت قد قضت أياما شديدة السواد فى سجن أبو زعبل قبل نقلهم الى الصحراء، وأيضا بعضهم جيئ به رأسا الى ذلك السجن بالواحات الخارجة ، ولكنهم جميعا تركوا لنا تراثا غنيا وذكريات ما تزال حية عن تلك الفترة المليئة بالحزن وبعض لحظات من الإستمتاع بدفء الرفقة، وخلّف الكثير منهم مذكرات تبقى للتاريخ شاهدا على تلك الحقبة الهامة من تاريخهم سياسيا وإجتماعيا وإنسانيا، ومن ضمن من سجلوا تلك اللحظات أسماء مثل "إلهام سيف النصر" فى كتابه "فى معتقل أبو زعبل" ، وطاهر عبدالحكيم " الأقدام العارية" ، وفوزى حبشى " معتقل كل العصور" ، وسعد زهران "فى أوردى أبو زعبل" ، والدكتور فتحى عبد الفتاح فى كتابه "ثنائية السجن والغربة" ، وأيضا عبد الخالق الشهاوى "الحلم والسجن والحصار"، وعشرات الكتب والمقالات والشهادات.
رغم إن ما حدث فى أبو زعبل هو الأقسى من ناحية التعذيب الممنهج الذى شبهه البعض بمعسكرات النازى فى بوخنفالد وداخاو وأوشفيتز، وفيه سقط العديد من الشيوعيين شهداء تحت سياط التعذيب وعلى رأسهم المناضل التاريخى "شهدى عطية شافعى"، ولكن سأتعرض فى هذا المقال لذلك السجن الصحراوى وهو سجن "المحاريق" بالواحات، تلك السنوات التى يلخصها "إلهام سيف النصر" فى كتابه ( كانت تجربة سجن الواحات فيها مرارة الوحشة فى الصحراء، والإحساس بأن الدنيا قد تخلت عنك ونسيتك، فيها حرارة الشمس التى تكوى الجسد فعلا، وصقيع الليالى الطويلة المجهدة، فيها خلاء حياة تشبه الصحراء القفر ذاتها).
فى منطقة صحراوية قاحلة تبعد عن القاهرة بحوالى 1000 كيلومتر يوجد مبنى من الطوب اللبن مسقوف بالخشب ومقسوم الى عدة حجرات واسعة هى ثلاث عنابر يقسم كل عنبرالى جناحين كبيرين بكل جناح 10 زنازين وحمام واحد به ثلاثة غرف لقضاء الحاجة ، والسجن محاط بسور متهالك من الخارج، فى ذلك السجن الذى كان يضم العنبر الأول منه الشيوعيين الذين صدر الأمر باعتقالهم فى أول يناير 59 والعنبر الثانى مخصص للشيوعيين الذين صدرت فى حقهم أحكام قضائية ومنهم مسجونين من قبل ثورة يوليو تم رفض الإفراج عنهم بعد صدور عفو عام عن جميع السياسيين بعد الثورة وذلك بتوصيف أن الشيوعية جريمة إجتماعية وليست سياسية، والعنبر الثالث تم قسمته نصفين، الأول للإخوان المسلمين الصادر ضدهم أحكام فى محاولة إغتيال عبد الناصر عام 54 والنصف الثانى لمحكومين جنائيين، هذا السجن هو شاهد على سنوات خمس (59- 1964) من التجارب الإنسانية والإبداع والندوات والمحاضرات والتعليم والخلافات السياسية.
نقل الشيوعيون خلافاتهم التاريخية والأيدلوجية معهم الى السجن الذى إجتمع فيه خلاصة المفكرين والكتاّب والمبدعين وقادة العمال فى مصر، منهم الدكتور فؤاد مرسى واسماعيل صبرى عبدالله ومحمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس ومحمد سيد أحمد ونبيل الهلالى وفؤاد حداد وزكى مراد وصنع الله ابراهيم والدكتور فتحى عبد الفتاح والدكتور حمزة البسيونى والدكنور عبدالرازق حسن وفوزى منصور ورفعت السعيد وحسين عبدربه وحسن فؤاد وصلاح حافظ وسعيد خيال وفيليب جلاب وعريان نصيف ومن النقابيين طه سعد عثمان ومحمد على عامر والمئات غيرهم، حيث نقل معظم المحبوسين من التيارات الشيوعية ال رجالات الوطنية، وقد سبق وجودهم فى السجن محاولات عديدة للوحدة أسفرت عن قيام الحزب الشيوعى المصرى الموحد (8 يناير 1958) ، ذلك الحزب الذى ضم بين صفوفه أغلب وأهم التنظيمات الماركسية بعد رحلة شاقة من المفاوضات قادتها الحركة الديموقراطية للتحرر الوطنى "حدتو" وأسفرت عن اتفاق تاريخى لوحدة الشبوعيين ضمت الى جانب حدتو الحزب الشيوعى المصرى (الراية) وحزب طليعة العمال والفلاحين(طليعة العمال) والعديد من التنظيمات الصغيرة، ولكن وقبيل رحلة السجن كان قد دب الخلاف ثانية بين أهم مكونين للحزب الوليد وهما حدتو والراية حيث تزّعم الأول كمال عبد الحليم وشهدى عطية وتزّعم الثانى ابو سيف يوسف ود. فؤاد مرسى، وانتقلت تلك الخلافات معهم الى داخل أسوارالسجن ورغم محاولات التقريب بينهم فإنها لم تفلح واستمر الخلاف حتى بعد الإفراج عنهم فى 1964 وإعلان حل الحزب منفردين فى بدايات 1965.
بعد فترة التشديد الأولى على المسجونين بدأت الأمور رويدا تتخفف وبلغة السجن "الغربال الجديد له شدّه" ولكن ربما لوجود السجن فى منطقة مقطوعة فى وسط الصحراء كان السجانين أنفسهم فى حكم المساجين ولذا فقد نشأت سريعا ألفة بين الطرفين وقام السجانين تخفيف الحبسة وتركت الزنازين مفتوحة ليلا ونهارا بينما إكتفت إدارة السجن بإغلاق باب العنبر ليلا، ورغبة من الشيوعيون فى تحسين الحبسة وتجويد نوعية طهى الغذاء تطوعوا بالعمل فى طهى الطعام بمطبخ السجن وبعدها بفترة حاولوا تحسين أفضل وتنوع أكثرلأنواع الطعام فقاموا بالاتفاق مع الإدارة بزراعة قطعة أرض وبدأوا بهمّة فى العمل، وإحتاجت الزراعة الى وجود مخصبات لتحسين التربة فلجؤا الى إستخدام "الترنش" خارج الأسوار وخلط مياه المجارى بالرمال وصنعوا حوضا كبيرا لتخزين المياه إستخدموه للسباحة أيضا ومن إنتاج تلك المزرعة من الخضروات تم توزيع المحصول بالعدل على الزنازين بما فيها عنابرالجنائيين والحرّاس ليقوموا بطهيها على نيران "التوتو" المصنوع من بقايا علب السلمون فى زنازينهم.
تحولت الحبسة الى شبه معسكر مفتوح متعدد الأنشطة كخلية النحل من ممارسة الرياضة فى الصباح الى ندوات تثقيف فكرية فى المساء تتنوع بين محاضرات عامة فى الفلسفة والإقتصاد ودروس فى اللغات والرياضة البحته، وتنوعت الأنشطة بين أمسيات شعرية ومسابقات فنية وثقافية متعددة، وشرع الفنان حسن فؤاد فى إصدار مجلة حائط تتجدد يوميا تتوزع بين الموضوعات الثقافية وفن الكاريكاتير والزجل والنكات شارك فيها نبيل الهلالى بظله الخفيف، وأسس عبدالستار الطويلة وكالة أنباء السجن "واس" التى تجمع الأخبار اليومية من إذاعات العالم بواسطة الراديو الذى أرسلته لهم "مجموعة روما"، وأقام الفنان وليم إسحق وداود عزيز وعبد الوهاب الجريتلى مرسما، وخصص حسن فؤاد مكانا بين أشجار الحديقة للنحت بينما تدفق الإبداع المسرحى من الكثيرين فتألق المهندس على الشريف وآخرين فى تمثيل المسرحيات المترجمة والمحلية التى كتبها فى السجن نعمان عاشور وميخائيل فرج وصلاح حافظ وكانت العروض تتم بين فرجات العنابر، لكن المهندس فخرى لبيب وضع تصميما لمسرح رومانى مدرّج فى فناء السجن وقام المساجين بالتنفيذ حيث تم ضرب الطوب خلف السجن بخلط الطفلة والرمل والقش وشارك الجميع فى عمل معجنة كبيرة كانوا يهرسونها بأرجلهم وصمموا على الإنتهاء من البناء قبل يوم المسرح العالمى فى 27 مارس 1961، وقبل الموعد إنتصب المسرح فى الساحة وتم تجميله بعدد من التماثيل لكوكبة من النحاتين الشيوعيين وأسموه "مسرح الغد"، وتم إفتتاحه بمسرحية "عيلة الدوغرى" لنعمان عاشور التى أخرجها حسن فؤاد ومثّل فيها على الشريف ونبيل الهلالى ومحمد الزبير، وحضر المحافظ العرض وجميع المساجين والسجّانين وأعجب المحافظ بالعرض وقال لهم أنه شاهد الكثير من العروض المسرحية لكنه لم يرى عرضا بمثل هذه الروعة.
قبل ذلك بوقت ليس بقليل كان السجناء يحصلون على كتب متعددة أثناء الزيارات ومن خلال السجانين المتعاونين وأيض تلك الكتب التى تصلهم من "مجموعة روما" وتكوّن لديهم أعداد ضخمة من الكتب زادت عن 10 الآف كتاب فهرسوها ورتبّوا طريقة الإستعارة وأقيمت ندوات لعرض أهم ما فيها، وكان الإحتفال الكبير بوصول ثلاثية نجيب محفوظ حيث تهافت الجميع على قراءتها، ومع كثرة المؤلفات أنشأوا مشغلا لكتابة وتجليد الكتب المؤلفة وأشرف عليها العامل السابق بشركة الورق الأهلية "صابر زايد" باستخدام أدوات بسيطة منها الكلّة المصنوعة من الدقيق، ونجحوا فى إقامة معرض للكتاب بالسجن لأعمال المبدعين منهم ومن بينها رواية "الشمندورة" لمحمد خليل قاسم وروايتان لإبراهيم عبد الحليم ومسرحية "الخبر" لصلاح حافظ وأعمال مترجمة منها رواية "أندروميرا" التى ترجمتها مجدى نصيف وكذلك رواية "عريان بين ذئاب" وترجمها فخرى لبيب، ودراسة عن ثورة 1919 لمحمد خليل ودواوين شعرية لفؤاد حداد وسمير عبد الباقى والشاعر الفلسطينى المعتقل معهم "معين بسيسو" وأخرين، بالإضافة لعشرات الكتب والدراسات فى مختلف المجالات لمبدعين منهم محمد صدقى الذى عرف بجوركى مصر ومحمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس وزكى مراد وفتحى خليل ومشاريع أدبية وشعرية لعدد آخر منهم صنع الله ابراهيم وعبد الحكيم قاسم وكمال القلش وفؤاد حجازى ومتولى عبد اللطيف ومهران السيد ومحمود شندى وكمال عمار ومحسن خياط ورؤوف نظمى (الدكتور محجوب عمر) وغيرهم الكثير.
فى ذلك السجن أيضا بنى الشيوعيون مسجدا لأداء الصلوات كان يؤمهم فيه ويخطب الجمعة الدكتور محمد عمارة "قبل أن يتحول" وكان يؤدى الصلاة فيه جميع من فى السجن بمن فيهم الإخوان المسلمين.
لا يمكن الإحاطة فى مقال واحد بكل ما قام به الشيوعيين فى تلك البقعة الصحراوية الشديدة القيظ حيث حولوها الى واحة خضراء متوهجة بكل أشكال الأدب والفن والإبداع والمعانى الإنسانية الجميلة، لكنه فى النهاية يبقى سجنا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى