السعدية سلايلي - حبوب الشرف.. قصة قصيرة

ليلة الحسم الأخير في طرابلس الثورة. تتأرجح الأذهان متعبة بين الاحتمالات السيئة والأكثر سوء. بات الجميع على قناعة أن المدينة تنام على قنبلة موقوتة زنادها في كف مهووس مطارد. تحول البيت الكبير إلى ما يشبه سفينة للعبور الأخير بين عالمين يفصل بينهما خيط ‘‘ أرفع من الشعرة وأمضى من السيف‘‘. فكر الأب في تخزين كل ما قد ينفع في فترة غير محددة من الحصار: الماء والقطاني والفواكه الجافة والشمع و…من بين ما اقتناه حبات ملبسة صغيرة في علب من الصيدلية. رغم هول الليلة التي ليس لها معالم على الإطلاق، أمرت الأم البنات بالهجوع واختارت لهن مخادع غريبة وأفرشة أغرب. وجدت فطيطيمة جسدها محصورا داخل سجاد إيراني عتيق، ممددا ضمن المقتنيات فوق سطح خزانة مهملة للملابس، داخل قبو سري كل ما يربطه بالعالم فتحات بحجم فوهة رشاش. لم تنم. حاولت أن تكون واعية أثناء حلول التباشير الأولى للفجر الآتي. حاولت تخيل الأحوال بعد تلك الليلة بقليل من الأمل فأثنتها نبرة صوت أمها وهي تودعها قبرها المؤقت وتناولها حبة الدواء الملبسة بالأحمر والأسود والأخضر. قالت:‘‘ في حالة حصل ما لا ينفع معه دواء هذا دواؤك، لا يمكن لأبيك وأعمامك أن ينظروا في وجهك، انطقي بالشهادتين وابتلعيها، إنها لا تؤلم.‘‘ قبلتها ومسحت على شعرها من فوق القبعة الذكورية حيث تخفيه منذ بداية الثورة. انتظرت افطيطيمة الفجر لكنه تأخر كثيرا.أو أن الخوف مطط الزمن . غفت. استيقظت على التهليل والتكبير والطلقات النارية. تناهت إلى سمعها المغشي بالنعاس زغاريد النصر. فتحت عينيها على نور ينبعث من المآذن وقد تساقطت قطرات الغيث على قيض الانتظار. انفرج صدرها لنداء‘‘الله أكبر‘‘ وتحللت الألوان الجديدة في سماء البلاد على شكل قوس قزح من الأحمر والأسود والأخضر. رأت النسوة يوزعن التمر على الفاتحين المدججين بالزهور والرايات . تناولت حبة تمر من طبق فضي ووضعتها تحت ضرسها. طعمها أروع من أن يكون دنيويا. تذكرت كلام الفقيه عن الجنة وأن بها فاكهة تشبه في لذتها طعم جميع الفواكه التي نحبها مجتمعة. ضغطت على فاكهة الجنة لتستزيد النعيم.نامت وقد قرت عينها بالقادمين وهي لا تعرف حتى تلك اللحظة إن كانوا يحملون الخلاص أم الهلاك. لم تستيقظ قط. حملت جسدها وأسئلتها . ابتلعت فطيطيمة قدرها ونامت على أحلامها الخاصة بمعنى النصر في عرف فتاة من طرابلس الثورة.


فطيطيمة: تصغير فاطمة يدرج استعماله في ليبيا للتلطيف.

أيها النازحون


ملايين من الناس لا سماء لهم تحُلب ما يرضعون. ملايين من الناس لا أرض لهم تحضن ما يأكلون. ملايين في بلادي، لا سقف فوق رِؤوسهم ولا طريق لخطواتهم ولا رفوف لملفاتهم، ولا موقد لمساءاتهم، ولا ابتسامة لأطفالهم، ولا أنوثة في نسائهم، ولا فحولة في رجالهم…

ملايين من الناس يقبرون في غياهب النسيان أو يستهلكون غلة جائحة، أو ينتظرون: مصادري الكيان، محجوزي الهوية، موقوفي التنفيذ، إلى ما لا نهاية.

يا أيها الوطن المضيع، لماذا تحكم على أطفالك الرضع بالمنافي؟ من يركب الموج نحو حلم هارب، ومن يتجرع في اللفافة موته البطيء بالتفاصيل المملة، ومن طال انتظارهم، وكل شيء يرحل حولهم وهم جالسون على تراب يتسلل نحو المنافي، ويباع في سوق التهريب بلا ثمن. يلوكون في مرارة غصة الانتماء إلى وطن يتنكر لأكباده ويدفعهم للرحيل.

عن أي حضن تبحثون؟ وأي درب تركبون؟ وأنتم كلما وضعتم أرجلكم على رقعة فرغت تحتكم ليبتلعكم في غطرسته رمل السكوت المتحرك. أين تأخذون أطفالكم والجليد يحرق أصابعهم في وقاحة واحتقار؟ أين تأخذون عجائزكم وحري بهم أن ينبشوا بالأظافر في ترابهم مثاوي دافئة؟ أين تأخذون أجسادكم التي امتصها الزمان؟

ليل الشتاء طويل، وأنتم التحفتم العراء أرحم من خريطة شطبت على أسمائكم من حسبانها. كيف تنامون وقد أطبقت سماء فبراير على أرضها في بياض بخس وجذب كافر برحمة الله، وعراء مجوسي؟ كيف تدفئون رؤوس أصابع صغاركم إذا ازرقٌت؟ كيف تواجهون أنة الجوع في أصواتهم وقد جفت كل الأثداء المرضعة، والسماء لا تمطر قمحا ولا خبزا ولا لبنا على رؤوس الفقراء؟

إلى أين تخرجون؟ الدار وراءكم ردم، والكوانين رماد، والمخادع خامدة؟

همت فيكم وأنا أغني لطفلتي كي تنام، كيف تُنومونهم ومخالب الصقيع تُغرس في أعضائهم، وترجف أكبادُهم من حرقة الانتماء؟ كيف تدللون تجمد الدم في الشرايين؟ وأي أغنية تملأ الفضاء حولكم وترفع المطر عن مواكبكم ؟ أي صوت يسعفكم في رسم خطاكم على الطرقات الزائفة؟ من سينصب لكم الخيام على صورة العربي المداهم بالرحيل والمشتت في المسالك المبهمة؟ قبائل هربت للعدو من شوكة في حلقها، وقبائل لاذت بالبحر يبتلع حكاياتها، وقبائل عانقت تراب الوطن، تحرثه بأظافرها طولا وعرضا وتمتصه حتى التيبس.

إلى متى ستهاجرون؟

ولأي أرض تقصدون؟

هذه بلادكم، وهؤلاء أسيادكم، والله وحده فوقكم، وتحتكم جمد التراب؟

خلفكم أحزانكم وأمامكم كل الدروب موصدة،

وكل الاحتمالات غير الواردة واردة.


ليلة 03 فبراير2007 نزوح سكان بوعرفة إلى العاصمة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى