عبدالحكيم باقيس - موروثاتنا أم آدابهم..

قال الشاعر الشعبي:
«بين الثريا وبين العقرب الهرج شح
ذَبّح عياله، وهي جَفَّتْ عليهم قدح».

هذا بيت من الشعر الشعبي في محافظة شبوة في جنوب اليمن، ومعنى «الهرج شح» توقف الكلام من شدة الخصومة، و«جفّت عليهم قدح» وضعت فوقهم غطاء من إناء كبير، اختزل البيت مروي سردية الخديعة أو اكتشاف الحقيقة بعد فوات الأوان. وتجلى من خلاله عميق التعبير الشعبي وبلاغته في الوصول إلى الخلاصات الجوهرية، إما عن طريق إذابة المعنى في خرافة أو حكاية شعبية، أو في أمثال شعبية، أو حكمة مأثورة تستدعى في مواقف التأسي أو التحسر.

يعيد البيت صياغة الخرافة الشعبية التي تقول إن خلافًا عميقًا نشب بين العقرب والثريا، وصل بعده الاثنان إلى تفاهم يقوم على تسوية عجيبة، وهي أن يبرهن كل واحد منهما على صدق نواياه تجاه الآخر، فيقدم كل واحد منها الابن الذي يلده هدية للآخر يلتهمه، وكان كلما يولد للعقرب ابن يدفعه إلى الثريا لتأكله، لكنها تعيد طباخته مرة أخرى، وتقدمه للعقرب ليأكله ظنًّا أنه أحد مواليد الثريا التي كانت تجتهد في إخفاء أولادها في كل مرة، وحين أفنى العقرب كل أولاده، وتوقف نسله، أظهرت الثريا أولادها، واكتشف العقرب الخديعة الكبرى التي وقع فيها، وحينئذ نأى العقرب بنفسه وبهزيمته، ولم يعد يظهر في السماء قريبًا منها.

أسقط الوعي الشعبي المحلي على النجوم مفاهيم العصبية القبلية والصراع في مواجهة الآخر، ووجد في نجوم السماء البعيدة وأشكالها وأحوالها ما يعبر عن قضاياه فوق سطح الأرض، وصاغ خرافاته التي مررَّ من خلالها الرؤى والأفكار التي يؤمن بها، ولكن في طرف آخر من الأرض. وقبل آلاف من السنين صاغ الإنسان الروماني خرافة الخديعة في صورة «كرونوس» الذي تزوج بـ«ريا» وحرص على ابتلاع كل مولود له حتى لا ينافسه على العرش، فيما كانت «ريا» تخفيهم عنه، وتدفع إليه بالحجارة التي يبتلعها معتقدًا أنهم الأبناء الذين يتخلص منهم، وفي اللحظة المناسبة يظهر الأبناء المخفيين، ويسقطون «كرونوس» عن عرشه الذي كان قد اغتصبه من أبيه.

وبعيداً عن أية إسقاطات سياسية قد تفهم في هذه الخرافة المشفرة، فلا شك في أن شاعرنا الشعبي الذي سكن الوادي أو الشُعب المعزول عن العالم القديم والحديث معاً، وعن أية أشكال من مظاهر التواصل الحضاري، لم يكن قد اطلع على خرافات اليونان والرومان وأساطيرهم، حتى يُظن أنه قد استلهم هذه الخرافة، لكنه بالتأكيد قد استلهم حكاية ما ظلت تتردد على مسامعه، فاختزلها في هذا البيت.

وتثير الدراسة المقارنة للحكايات الشعبية تساؤلات عن هذا التشابه والتخاطر في الخرافات، ما دفع الفولكلوريين إلى الاعتقاد بوجود الأصول المشتركة، أو ما يسمى بنظرية التاريخ الشفاهي المشترك بين شعوب الأرض.

وهناك حكايات شعبية كثيرة من شبوة، كنت قد استمعت إلى بعضها في طفولتي من جدتي بركة بنت عبد النبي سليمان رحمها الله، وفي أسمار بعض المسنين ممن لم يشاهد تلفازاً أو يقرأ كتاباً في حياته، منها ما تشبه قصة «مأساة أوديب» في التراث اليوناني القديم الذي، ذلك الأمير الشقي الذي قتل أباه واستولى على ملكه وتزوج من أمه ووقع في هذه الخطايا العظيمة من دون قصد منه. هي قصة التاجر الذي رأى في الحلم أنه ينجب ولداً سيقتله ويستحوذ على ماله، ويتزوج من أمه، فيقرر نفيه إلى بلاد بعيدة تجنباً لهذه الرؤيا، وتشاء الأقدار أن يعود الفتى (الابن) ويعمل حارساً في مزرعة التاجر (الأب)، وفي إحدى الليالي يصرعه بسهم ظناً منه أنه أحد اللصوص المتسللين، من دون أن يعلم صلة القرابة التي بينهما، وتتطور أحداث الحكاية الشعبية، إلى أن يعقد الفتى قرانه على أرملة التاجر، وحين يذهب لمشاهدتها، يسيل اللبن من ضرعها بمجرد رؤيتها له، فتعلم أنه ولدها المفقود عاد إليها.

وكأن هذه الحكاية الشعبية أشبه بنسخة محلية من مأساة أوديب لسوفوكليس، والتي تعود إلى القرن الخامس قبل الميلاد، لكن الموروث الشعبي لا يذهب بأفعال بالخطيئة أبعد من القتل الخطأ، وينقذ اللبن الذي سال من ثدي الأم الابن من الدخول بأمه، واقتراف هذه الخطيئة الكبيرة.

ومثلها قصة «رطلين بغدادي»، التي تحكي رهان تاجر لتاجر آخر يحقد عليه، يشترط فيه قطع رطلين من لحم مؤخرة التاجر الخاسر، ولا تحل معضلة الوفاء بهذا الرهان العجيب إلا بتدخل فارس ملثم يحضر فجأة لحظة اجتماع الناس، فيلقي بالحل في حلبة الحاضرين، وهو اشترط القصاص إن زاد التاجر الحاقد على استخراج الرطلين في قطعة لحم واحدة أو نقص عنهما، ويتراجع التاجر الحاقد عن الرهان، ولم يكن الفارس الملثم غير ابنة التاجر الخاسر التي أنقذت أباها من الموت بهذه الحيلة، أليست هذه الحكاية الشعبية مطابقة لمسرحية «تاجر البندقية» لشكسبير، أم أن المسرحية نسخة عالمية لهذه الحكاية الشعبية اليمنية القديمة؟.

قال لي بعض الأصدقاء إن الحكاية ربما تسربت إلى الثقافة الغربية من القبائل العربية التي كانت في يوم ما في صقلية وجنوب إيطاليا، وهناك الكثير مما قيل عن هذا الشاعر الانجليزي الكبير، لكن بالتأكيد لا يمكن اتهامه بالسطو على الموروثات الشعبية لجنوب اليمن، وبالقدر نفسه لا يمكن القول باطلاع أسلافنا في عزلتهم التاريخية على مسرحيات سوفوكليس أو شكسبير، فهذه الحكايات الشعبية ضاربة في تاريخ الأدب الشعبي المحلي لمئات السنين، وهي جزء من موروثاتنا قبل أن تُترجم آدابهم ومسرحياتهم.

إذن تبدو نظرية الأصول أو التاريخ المشترك إحدى التفسيرات التي تخلص إليها بعض الدراسات المقارنة، بالإضافة إلى أن الحكايات الشعبية تتطور وتُعدل أحياناً لتناسب الخصوصيات القومية والمحلية، وليس أدل على ذلك من حكاية «ورقة الحناء» في الفولكلور اليمني، والتي يقول عنها الدكتور أحمد الهمداني في دراسته للحكاية الشعبية اليمنية في إطارها الإنساني، في كتابه «الأدب الشعبي وعلاقته بالأدب»: أنه لا دليل علمي يثبت انتشار هذه الحكاية في التراث العالمي قبل انتشارها في الفولكلور اليمني، ولا يمكن الجزم بالبداية الأولى لها في ما نجده من نظيراتها في الآداب الأخرى، «هذه الحكاية في الفولكلور الروسي (ماروز إيفانو فيتش، أو الجد الثلج) و(زولوشكا)، ونجد حكاية (فاطمة) في الفولكلور الأذربيجاني، ونجد حكاية (سندريللا) في الفولكلور الإنجليزي، ونجد حكاية (تام وكام) في الفولكلور الفيتنامي، وكذلك نجد حكاية (جميلة) الجزائرية»...

الانتقال إلى الدراسات المقارنة ربما يقدم تفسيرات أخرى لهذا التشابه بين الحكايات الشعبية المحلية والآداب الأخرى، وسيفضي بنا إلى اكتشاف عالم ثري واسع ومتداخل، أشبه بقارة مجهولة لم تصلها بعد أشرعة المريدين.
(العربي).

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى