صلاح عبدالله - المقامة الأتوبيسية..

قال أحمد الخياط:
حُشِرتُ في حافلة مع زمرة سافلة. وألجأتنا شدة الزحام إلى التلاصق والالتحام ، وكنت أُجبر على دور الموصِّل بين أصحاب التذاكر والمحصِّل. فأعتدل وألتوي وأنتشر وأنطوي. وكان يتضاعف على الركوب ندمي كلما أحسست بهرس قدمي. وقبالتي رجل ممتلئ يميل ويكاد يسقط سقطة البرميل. يرتسم على وجهه عبوس الجائر ، وتنبعث من بدنه رائحة السجائر. وكان يفتح فاه ولا يواربه ، فكأنما أطلَّت من فمه جواربه. فجعلتُ الناس بينه وبيني وتحولتُ عنه بعيني. فإذا امرأتان شديدتا التجهم لم تسمعا بشيء اسمه التفهم. ودلني ما أنا عليه من الفراسة أنهما على قدر من الشراسة. ففي وجه كلتيهما يتفقأ القيظ وكلتاهما تنظر إلى الأُخرى بغيظ. وفاجأَنا السائق بضرب فرملة فصرخوا كعروس أصبحَت أرملة. ومالت إحدى المرأتين على الأُخرى فكأنك من شاهق دحرجتَ صخرا. فانخلعَت المصابة من السمر، وقالت لصاحبتها:
- أحمد يا عمَر، قد مات والله مَن اختشى، أمخلوقة أنتِ من النشى؟. يا رائحة الأقدام وحكماً بالإعدام. وحبلاً من مسد وسمكاً قد فسد. يا ضلال الضائع وقمامة البضائع. يا عديمة الصفة وربيبة الأرصفة. لو كنتِ عصا أعمى لانكفأ ، ولو كنتِ زيت قنديل لانطفأ. ولو كنتِ مبنى لكنتِ طُرَبا ، ولو كنتِ على الجلد لكنتِ جربا. ولو مَررتِ بالشياطين في رمضان لأُطلِقت ، ولو اقتربتُ من باب الجنة لأُغلِقت. استقيمي يا مائلة ولا تكوني كالماء سائلة.
فقالت لها الأُخرى وقد امتلأت فخرا:
- نعم نعم يا شَرَّ مَن زَعم!. أسكبتُ عليكِ البوتاص أم أطلقتُ عليكِ الرصاص. أَم لسعتُكِ بأسياخ محمية أَم صقطتُ على جسم من عَجَمية.
انظري يا شوهاء في المرايا لتعلمي أنكِ أقبح البرايا. فلو كُنتِ في الوجوه لكنتِ بقعة ، ولو كنتِ في الثياب لكنتِ رقعة. ولو كنتِ خَلِيّة لكنتِ عَفَنا ، ولو كنتِ قِماشاً لكنتِ كَفَناً. ولو أُلقيتُ في عسل لتَمَسَّخ ، ولو لُمِّع بك حذاء لَتَوَسَّخ. يا مذاق الجِير وحرارة الهجير. ونزول الوباء وصعقة الكهرباء. يا جرحاً يسيل يا ماء الغسيل. أَما والله يا حافية لأُعدمنكِ العافية.
واشتبكتا بأكف كالفؤوس فانتثر فيما بينهما شعر الرؤوس. وتضاربتا بكل يد وساق وتراشقتا بقذائف البصاق. فغسلتا وجهي رغم أنفي وأنا ذاهل لا أُثبت ولا أنفي. ولحقتهما جروح في الوجه والجسم فنزلتا مع شرطي إلى القِسم.
ثُم صعِدَت من محطة الجيزة فتاة عظيمة العجيزة. لم تدع في وجهها موضعاً إلا زَيَّنته ولا في ذراعيها مكاناً إلا بَيَّنته. قد جعل السحر يُطِلُّ من سماتها والمسحوق يتلألأ في قَسماتها. واستعملَت من عطرها المحترم ما لو زادته لأسكر الهَرم. ونصبَت للرُكاب حبالة الأوهام ورشقَتهم بما لديها من سهام. فتركَتهم بين مراهق يتحَرَّق ويتنهد ، وعفيف يستغفر ويتشهد. إلى أن اختلف إليها ذو سَمت مخصوص كأنه عود قصب ممصوص. وخاف أن يرى الزحام قد أبعدها فقام من مكانه وأقعدها. فنظرَت بسحر إليه وركزَت عينيها عليه. فذاب صاحبنا من الاختلاط كأنه موز ضُرب في الخلاط. ثُم أخذَت تُذَكره وتُنسيه وتقول بعد أخذ التذكرة مِرسيه. وتبدي من أمرها نشراً بعد طي وتتمطى فتقول بِرقة أي . وجِلد صاحبنا يوشك أن ينفجر وأنا أنظر إليه فلا يزدجر. ثُم قامت بحركة جهنمية وهمست همسة هندرستُمية. فأخذ صاحبنا يتحايك ويتحايل ويعتدل ويتمايل. ويستقيم ويتعَوج ويضطرب ويتمَوج. ثُم عض من شبق على الشفة ونزل ريقه فما نشفه. فلما رأت حاله على تلك الشناعة وقسماته تهدد بنسف المناعة. أمسكت عن بعض ما أظهرته وادعته ثُم نزلت بعد أن وَدَّعته.
ثُم لم يلبث أن صَعِد رجل من السوقة يحمل في يده صندوقه. ولما كان يستحث كل سامع على التبرع لبناء جامع. فقد قال وهو يذرف الدمع الهتون كأنه المسيح على جبل الزيتون.
- أيها الحائر بين المال والنسوة ، الجاعل إبليس لك أُسوة ، المغرق قلبك في بحور القسوة. حان والله غرق الفُلك وأشرف أمرك على الهلك فأين أنت من مالك المُلك . كم ذا تدَنِّس بالحرام حلالك ، وكل إثم في الدنيا حلا لك. وتنفق الحياة بين تغيُّر وثبات وللموت من حولك وثبات. إلى كم تمتلئ مسامعك ولا تفيض مدامعك. كأنك أمنتَ خفوت صوتك أو ضمنت تأجيل موتك. يوم تُرى وقد أوحش منك ناديك ولم يَعُد في الأرض مَن يناديك. يوم تُرى وقد ضعف ناصرك بعد أن انحَلَّت عناصرك. ويئس راجيك وسائلك بعد أن تقطعت وسائلك. وكثر شاكيك ولائمك بعد أن انفَضَّت ولائمك. وتعاظَمَت بالموت كوارثك وتهَلَّل من بعدك وارثك. الله الله إلى كم أنت بما في يدك بَخيل وأملك في غد كالنخيل. إلى كم أعظ ولا أكف وأدُل على الخير ولا أكف. اللهم يا خالق التورع اهدِ القلوب إلى التبرع. اللهم يا منزل الشفقة حَبب إلى القلوب النفقة.
فمازال في هذا وأشباهه حتى ظفر من كلٍِّ بانتباهه. ورأيت الممصوص قد أخَذته المسرحية وأمالَته رياح الأريحية. فلَما علا على عيبه ومَدَّ يده تلقاء جيبه. وأيقن بفقدان ما ادخر رفع عقيرته فشَخَر. ثُم قال:
يا أبناء الشيطان وبنات الأذا يا أولاد كذا وكذا. لا نصح ولا موعظة حتى تعود المحفظة. ثُم أنشأ يقول:

لكل مُغفل في الأرض مُزَّة. = تجَرِّعه مقالب مستفزَّة.
وتجعله برقتها خروفا. = تَجُز الصوف من جنبيه جَزَّة.
ويكتشف الذي فعَلَت فيبكي. = ويقفز مثلما قفز الإوزَّة.
فأموال المغفل كأس وسكي. = ومحض خداعه طرب ومَزَّة.

ثُم عض على يديه ولطم خديه. وصارت عروقه متجمدة بعد أن ضرب برأسه حديد الأعمدة.
وبقينا في هذا الصخب لم نزل حتى نزلتُ في من نزل. فلَمّا وَلَّيتُ ظهري الرصيف وعبرتُ الشارع عبور الحصيف. ألفيتُ الشيطانة ملتهباً وقودها ومفتاح ابن فتحية يقودها. وقبل أن ألومه على احتياله وسطوه أقبل صاحب الصنضوق يسرع في خطوه. فسَلّم عليه وسَلّم الصندوق إليه. فأخذه منه إخذة المبتز وأنشأ يقول وهو يهتز. لكل فريسة شَرَك مُعَدٌُّ. فسَل إن شئتَ عن شَرَك الفريسة. فبعضٌُ بالمُخَلل مستمال.
وبعض الناس توقعه الهريسة.
فقلت له يا مفاعل التدليس ويا ابن ربيبة إبليس. نَفَّرك الله ولا بَشَّرك ألَك تحت كل رِجل شَرَك. فمَن لم تتصيده بالسرقة أوقعته في حبائل الصدقة.
فقال يا هذا لقد قلت حتى ثقلت. فلا يغرينك قدم العهد والمخالطة بالتمادي في اللجاج والمغالطة.
فاسمع مني ما أقول إن كنت من أرباب العقول. إني عاشرتُ الناس رعاعاً وسادة ونسجتُ لكل من وهمه وسادة. فكل يريد السعادة لذاته ويدفع المال ثمناً للذاته. وأنا أبيع لكل ما يشتهي فلا مالهم ينفد ولا حِيَلي تنتهي.
فأَمّا الممصوص الذي عاينتَ أمره فقد دفعه الطيش لأن يذوق جمره. ولولى أنه شخص مهترئ وعلى أعراض الناس مجترئ. لما ألهبَت الغريزة وقوده ولا سرقَت الفتاة نقوده. فهذا هو الساعي في ذهاب خيره السارق ماله بيد غيره. وأَمّا كل متبرع من السوقة فيستر بالصدقة جهله أو فسوقه لأنه لو عَلِم دينا أو شرعا لكان كحقوق المساكين أرعى. لكن كُلا من عَبَطه يريد مسجدا تحت إبِطه. وكأن الصلاة لا تكون تامة إن قُضيَت في المساجد العامة. وكيف يقودهم الذهول إلى التبرع لمجهول. وما يدرون أجامع المال ملحد أَم مؤمن ومصيره إلى تقي أَم إلى مدمن.
فلو أنهم راشدون لما تسرعوا ولولى أنهم حمقى لما تبرعوا.
فقلتُ له أصبتَ والله وإن كنتَ انحرفتَ ودمعَت عيناي ثُم انصرفتُ




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى