محمد غرناط - البحيرة الزرقاء

أحس النمساوي بأوجاع حادة في رأسه. تناول حبة أسبرين ومعها كوب ماء بارد وغادر البيت. ركب سيارته بسرعة وأخذ الطريق وسط الجبال في اتجاه البحيرة الزرقاء.
استغرق نصف ساعة يقطع بحذر شديد منعرجات طويلة تحفها أشجار السرو والعرعار العالية وتفوح منها روائح الأعشاب، حتى إذا ما وصل ركن السيارة تحت ظل شجرة ووقف يتأمل البحيرة على بعد أمتار. ظل لدقائق كما صارت عادته كل صباح ينظر إلى البحيرة التي تبدو مثل قطعة من السماء زرقاء وصافية، ثم جعل يدنو في خطى متأنية من ضفة البحيرة، حتى لامست أصابع قدميه الماء فتوقف. في هذه اللحظة وقف بجواره رجل مديد القامة وألقى عليه التحية بصوت خفيض، فرد عليه:
- أهلا.. مرحبا.
واقترب منه الرجل:
- شكرا لك، أنا حارس الغابة.
وسأله:
سيدي هل عادت إليك سماح؟
التفت نحوه وابتسم، ثم نظر في وجهه متأملا وقال:
- لا لم تعد..
ورفع بصره حيث غرقت في مكان من البحيرة على مسافة بعيدة لم يتخيل أن سماح قادرة على السباحة حتى تجتازها كاملة. لكنها سبحت وخانتها أنفاسها، وارتخت أطرافها فوق الماء. ساعتها علت أصوات رجال ونساء من كل جهات البحيرة، لكن أحدا لم يتقدم لإنقاذها، وصرخ النمساوي صرخة مدوية بدا معها أن العالم كله لم يبال به، ودنا من الماء كما لو ليسبح في اتجاهها لكنه تراجع. كانت قد ابتعدت عنه كثيرا. حركت يديها برهة ثم صاحت وفي ثوان قليلة اختفت ولم يظهر لها أثر. كانت مثل شمعة انطفأت فجأة، لكن النمساوي لم ييأس، وظل يترقب العثور عليها في يوم ما.
قال حارس الغابة:
صدقني سيدي لقد رأيت امرأة تقطع البحيرة سباحة، ولما خرجت اتجهت صوب الأشجار بهدوء وغابت بداخلها.
انتفض. بدا على ملامحه رعب كاسح. وسأله وقد تغيرت نبرة صوته تماما:
-هل حقا رأيتها؟
- أجل امرأة متوسطة العمر، قصيرة القامة، شعرها طويل أسود، نحيفة وسمراء اللون.
تنهد النمساوي ثم رد عليه :
- آه.. هذه زوجتي الأولى
وصمت، ثم اصفر بغتة وجعلت أصابع يديه ترتجف. لم يتكلم لوقت طويل. وبعد لحظة اتجه بصره إلى حيث غرقت سماح وجعل يتمتم كما لو أنها حية أمامه يخبرها أنه حزين، وأنه لم يتوقع أن تتركه بغتة ولم يمض على زيارتهما للبحيرة غير أيام قليلة
كان حارس الغابة قد ابتعد عنه خطوات ثم عاد بعد لحظة قصيرة وقال:
- سمعت أنك لا تتزوج امرأة إلا إذا أتقنت السباحة.
أجابه بدون تفكير:
- تماما، أنا أزور البحيرة باستمرار وأسبح فيها وعلى زوجتي أن تسبح هي أيضا. الأولى كانت تسبح بمهارة، فأعجبت بها وتزوجنا، لكن للأسف افترقنا لأمور تافهة.
– سماح كان عليك أن تراقبها حتى تتيقن من أنها أتقنت السباحة.
- لم أكن حذرا بالقدر المطلوب وأنا الآن حزين لكل ما حدث.
- ربما الآن عليك أن تبتعد عن البحيرة كي تنسى.
- لا يمكن.. البحيرة صار فيها كل ما أتطلع إليه وأحلم به. كل شيء صار مدفونا في قلبها، فلا يمكن أن أعيش بعيدا عنها.
اغتمت عيناه. أمسك رأسه وجعل يتألم. في هذه اللحظة تركه الحارس وغاب وقتا طويلا ثم رجع وقد ابتل رأسه بماء البحيرة. لا شك أنه اغتسل ولم يجفف شعره الأشعث القصير. كان رأسه يلمع تحت أشعة الشمس. دنا من النمساوي ومكث واقفا ولم يقل كلمة.
انتظر حتى نظر إليه وقال:
- البحيرة امتلأت عن آخرها بأنواع عديدة من الأسماك.
ترنح ببطء ورد عليه:
- بعد قليل سيأتي الصيادون من كل جهة.
- تماما.
وسأله:
– قل لي سيدي.. هل تقبل أن ترافقني عند بائع السمك؟
أجابه بسرعة:
-لا مانع لدي، أنا نفسي أحس بالحاجة إلى وجبة سمك بالخل والتوابل المختلفة. والحقيقة أن طعامي يكاد يكون كله سمك.
وتحركا معا باتجاه محل بائع السمك الصغير. كانت خطاهما متأنية. ظلا صامتين إلى أن وصلا وقعدا حول طاولة خشبية تتسع لأعداد من الزبائن. كانت فارغة، لذا بدا عليهما الارتياح وهما يتناولان السمك المقلي بعناية.
لم يكلم أحدهما الآخر، ولما انتهيا دخل الحارس وسط الأشجار الكثيفة وعادالنمساوي إلى مكانه بضفة البحيرة الزرقاء. مد بصره حيث غرقت سماح وتجمد مثل صنم.


٭ الرباط ـ المغرب

.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى