سيد الوكيل - إضاءة حول صاحب القنديل..

عندما مات يحيي حقي ، كان قد ترك لنا ثمانية وعشرين عملاً ، وهو رقم غير كبير بالنسبة لحياة طويلة لأديب متفجر الموهبة ومثقف متعدد الاتجاهات والثقافات ، تعكس كتاباته هذا التعدد الذي نادراً مل يتوفر لكاتب ، فغير الذي كتبه في الرواية والقصة القصيرة والنقد الأدبي ، كتب المقال والخاطرة القصصية والصورة القلمية ، كما كتب في الموسيقي والعمارة والفن التشكيلي والكاريكاتير والفنون الشعبية ، والسياسية وأدب الرحالات والتاريخ والمسرح والسينما والشعر واللغة العربية والسيرة الذاتية فضلاً عن كتاباته التي تستعصي علي التصنيف لكنها عاشت مثل كائن منفرد ، وتظل تمتعنا وتدهشنا فتغفر لها مروقهاعلي التصنيف وتمردها علي ذائقة التدجين النقدي ، من هذه الأعمال ( كناسة الدكان ) الذي أعيد طباعته عدة مرات.

والحقيقة أن ظاهرة المثقف الموسوعي المتعدد المواهب الذي يكتب في أكثر من مجال كانت شائعة في هذا العصر ، الذي تجاور فيه نمطين من المثقفين: الموسوعي / العام علي نحو ما يجسده نموذج عباس محمود العقاد والأكاديمي المتخصص علي نحو ما يمثله طه حسين ، وإذا كان النموذج الأخير يعبر عن نزوع حداثي عقلاني يتخذ من المناهجية العلمية شرطاً مقيداً للحدس والانطباع ، كما يتخذ من المصطلح شرطاً مقيداً لانطلاقات التعبير الشعري وشطحات الخيال ، فإن النموذج الأول ظل بمثابة الضمير الإنساني والروح التي تبعث الدفء في الوجود لئلا تنمط أساليب التفكير والتعبير الإنساني تحت أقبية الأكاديميات ، وكان يحيى حقي أحد أهم مثقفي هذا الاتجاه الذي لم يتبق منه الكثير الآن ، فمازال يتواري خجلاً أمام المنطق العلمي ، ولعل هذا الخجل قيد كثيراً من انطلاقات التفكير النقدي عند يحيى حقي ، وما أفلت من هذه القيودات مازال يدهشنا علي نحو ما جسده كتابه ( فجر القصة المصرية ) الذي مازال مرجعاً هاما لنقاد ومؤرخى الأدب ، إذ تجد بين السطور تلميحات ومقولات نقدية غاية في الأهمية ويكفي أن نعرف إن يحيي حقي أول من طرح سؤالاً نقدياً عن وظيفة الفن في عصره .
كان يحيي حقي لا يحب أن يتكلم كثيراً عن إسهاماته النقدية فقط لأنه يخشي انتقادات العلميين والمناهجيين، لهذا كان يرد ببعض الخجل ” يا جماعة أنا ناقد تأثري ” ، ويشير إلى أفكاره النقدية بأنها مجرد انطباعات، وهكذا خسر يحيي حقي معركة النقد الإبداعي وخسرناها معه إلى الآبد لأنه كان خجولاً عفيف اللسان حيياً، ولو أنه كان أكثر شراسة وقوة في الدفاع عن مشروعه النقدى لاستمر الإبداع النقدي متجاوراً مع النقد العلمي حتى الآن.

ولا احد يتحدث عن يحيى حقي دون أن يذكر لنا موقفاً أو نادرة ، تكشف عن أريحيته ومرونة وعيه وتلقائيته وعشقه المتفانى للعمل الثقافي وخدمة المثقفين ، التي تكونت مع بداياته كمثقف منذ أسهم في تأسيس جماعة الأدب الحديث ، التي نقلت التداول الأدبي من حياة القصور والبيوتات والصالونات إلى المقاهي معلنة عن عهد جديد من الإبداع الأدبي تحدث عنه يحي بتواضع في كتابه ( فجر القصة المصرية ) الذى قدم تأريخياً فنيا لنشأة القصة القصيرة ورصد تحولاتها وتخلصها من تأثيرات التقليد والإتباع للقصة الغربية ، مسجلاً لنخبة الرواد الذين كتبوا قصصاً عربية خالصة استقوها من واقعهم المصري المحتدم بالروح الوطنية بعد ثورة( 1919 ) وقدرتها علي تحريك الوعي الشعبي بكل طبقاته الاجتماعية ، وثقافاته المختلفة .

كان يحيي حقي أحد كتاب الأدب الذين نجحوا في التعبير عن هذا الوعي ، علي نحو جمالي يعلو فوق الشعار السياسي والثورى ، إذ كان الفن ـ بالنسبة له ـ غاية وهدف ، وليس مجرد وسيلة لخدمة المشاريع السياسية مهما كانت عظمتها ، ولذلك أبدى ملاحظاته علي (عودة الروح) لتوفيق الحكيم ، التي مالت إلى الإسقاط السياسي والتزمت بالمشروع الذهني أكثر من المشروع الجمالي ، عندئذ طرح ـ حقى ـ سؤالاً عن وظيفة الفن ، شغل الحياة الفنية لعدة سنوات ، فكان أول كاتب مصري يكلمنا عن الفن للفن والفن للحياة ، فمن المعروف أن خبرة يحيى حقي السياسية من خلال عمله بالسلك الدبلوماسي لا تقل عن خبرته في العمل الفني والثقافي ، لكنه أراد أن يعلو بالفن فوق أساليب الابتزاز السياسي ، واعتبره كلمة السر التي تنجح في تذويب المسافة بين النزوعات الغريزية الجسدانية والطابع الروحاني والإيماني ، فالفن هو واسطة العقد بين نمطين من الجمال المادي و الروحي ، ، لكأن الجمال الروحي يتجسد شكلاً في الفن ، لهذا كان يعتبر أن الموسيقى هي كلام الملائكة .

بعض النقاد لاحظوا جذور هذه المعادلة البسيطة في رائعته قنديل أم هاشم ، التى جسدت في ملامح الارتباك الثقافي والنفسي الذي عاشه طبيب العيون وهو يبحث عن طريق وسط بين الطب الغربي الذي درسه وخبر تجاربه ونتائجه العلمية ، وبين المعتقد الشعبي وقدرة زيت قنديل مسجد السيدة زينب علي شفاء المرمودين ، إن العلاقة العميقة بين نور القنديل ونور الإيمان ونور البصيرة ماثلة علي نحو مجازى في اللغة .

فعندما كتب يحيي حقي قنديل أم هاشم لم يتوقف عند معنى الصدام الحضاري بين الشرق والغرب بل تجاوزه إلى نوع من التأمل والتحليل الجمالي العميق للثقافة المصرية بوصفه مكوناً عصرياً ينمو تحت غطاء حضاري أعظم اسمه( الحضارة الإسلامية )، ويجد الفن وسيلته الوحيدة للجمع بين الأصالة والمعاصرة ، ولعل مفهوم الأصالة عنده لم يتوقف عند العمق التاريخي باعتبار الأصالة ضالعة في القدم وسلفية الوعي بالضرورة ، بل هي كل معتقد أو ممارسة شعبية تعيش بين الناس ونجد لها جذوراً في العقيدة ، ولذلك فالعودة إلى الماضي ليست في القاموس الفكري ليحيي حقي ، ذلك لأن الماضي الأصيل لا يموت ، بل يتجلى خلقاً في الحاضر ، ونحمله معنا إلى المستقبل ، هكذا كانت أفكار يحيى حقى ، على الرغم من أصالتها وانهماكها فى التربة التراثية ، إلا أنها ذات نزوع حداثى ومستقبلى.

بهذه الروح كتب قنديل أم هاشم ، كما كتب أعماله الأخرى ، وبهذه الروح قدم رؤاه النقدية التى اتسمت بروح الأصالة الفنية والحدس الإنسانى ونزعت ـ فى نفس الوقت ـ إلى الموضوعية العلمية .

إضاءة حول صاحب القنديل، بقلم : سيد الوكيل

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى