فلاح العيساوي ـ حافة الانهيار.. قصة قصيرة

بين الصمت والهذيان يعالج صور تتصارع على آثار خطوات مبعثرة في غرفته، صوت في داخله يصرخ: لِمَ أنا؟ ومن أنت؟ وماذا تريد مني؟ لماذا اخترت روحي؟ هل يعقل أنك أنا وأنا أنت؟. يزداد صراعه، سكرات تنقله من زمن لآخر، تتداخل فيه الصور، وتزكم الماضي البعيد عبر بوابة شروق اللامعقول، يجد نفسه شخصا آخر لا ينتمي إلى هذا المكان، رجل يفتش عن ضحية بين أكوام ذكرياته، في ذات الوقت يرى كيان قد تعّود على الخيانة وموت الذات، على الرغم من رفضه الدخول إلى هذا العالم الغريب، يرى نفسه يعرف جميع من حوله، الأب والأم فيما مضى، والأخوة والحبيبة والحقيقة في هذا الزمن المريب. ليلة ممطرة، شوارع المدينة شبه خالية، يقف عند مفترق طرق بجوار عمود النور، تراوده نفسه عن التراجع، يتمتم مع نفسه مبررا: تلك الشهية اللذيذة؛ لها في خانة الحاجة جزء لا يتجزأ من الأنانية المكينة، لكن أمام الأنا؛ تعجز الجزيئات عن المقاومة، فمن الممكن إيجاد الحلول، بالحصول على الحاجة من سوق النخاسة… أمام الدراهم توجد من تبيع الجسد؛ إلى عابر سرير، أنتِ لستِ الوحيدة في هذا العالم، لكنكِ بلا ريب الأجمل، مع أسفي الشديد. يتحرك بخطوات سريعة والمظلة بالكاد تحميه من وابل المطر، مشاعره كانت تتضارب أكثر كلما اقترب من الزقاق رقم (17). عندما وصل البناية رقم (6) وقف أمامها يتفرس بعينين ثاقبتين، حرّكت فيه ذكريات جميلة بعدما مضى إلى سلم العمارة، -إنه في زمن ليست فيه مصاعد-. في الطابق الثالث طرق باب الشقة؛ نادته وهي تقف خلف الباب، أجابها… سمعت صوته؛ فتحت الباب بسرعة، وأخذت تعانقه وتقبله. دخل وأغلق باب الشقة، وما تزال القُبلات تزيد من حرارة اللقاء، وما هي إلا بضع خطوات وصلا بها إلى غرفة النوم، وقعا فوق السرير الذي بقي يهتز بشدة، حتى سكنت الأنفاس، وأحسّا بالانتشاء، تركها مستلقية تنعم بالراحة، نهض برهة وعاد، بعد لحظات عادت الضربات المميتة تنهال عليها بقسوة، لحظات من الجنون والألم؛ نزفت دماؤها في محراب الغدر، بعد جولة حميمية بين عاشقين. وقف ينظر إليها، فاغرة فاها، عيناها ترمقه بخوف، جسد غادرته الأنفاس اللاهثة وراء قطيع الأحلام، لم تستطع التوسل إليه، كان يضع يده بقوة على فمها المشبع بقبلاته، ودّعها بقبلة على شفتيها الذابلتين، خرج يحمل مظلته، تاركا خلفه ماضيا غارقا في الانحطاط. يفتح عينيه بالكاد، يتحسس جسده والمكان، ينظر إلى يديه، لا يجد تلك الدماء الوردية التي سالت على سرير الغرور في زمنه الآخر، حالة الرعب تتوغل في نفسه، يجلس القرفصاء، يضع رأسه بين ركبتيه، يضرب فوق دماغه، يصرخ، يرتعش، يجن جنونه. دخلت زوجته مسرعة، قلبها يخفق بقوة، احتضنته، رفعت رأسه من بين ركبتيه:

– توقف، لا ترتعش، لا تخف، أنا معك.

– أنا لم اقتلها، هو الذي قتلها، طعنها بالسكين، كم هو ظالم ومجرم.

– حبيبي، لا تخف، أنه مجرد حلم، بل هو كابوس عابر.

– كابوس؟.

وضعت أناملها على صدغيه، فركتهما بحنان، حولت أناملها إلى جبهته دعكتها برقة، قربت شفتيها إلى شفتيه، منحته إحساسا بالسكينة ثم ساعدته على الوقوف، أخذته إلى الحمام، وقفا تحت الماء، الذي غمره بالهدوء والراحة. عندما وضعت رأسها على الوسادة، طلبت منه أن يحدثها عمّا شاهده في سفره هذه المرة، أخذ يقصّ عليها الأحداث حتى نهايتها، أخذت تمسد شعره الناعم؛ فأخذه النوم إلى عالم آخر… يرى نفسه يركض، يقود مجموعة من الشرطة، بيده مسدس، وذلك المجرم يحاول الهرب، دخل بناية مهجورة، دخل خلفه بحذر مع بقية الشرطة الذين توزعوا إلى جميع الاتجاهات، نادى عليه: سلّم نفسك إلى العدالة، أجابه برصاصة كادت تصيبه، أطلق عليه الرصاص فأردته أرضا، هرول الجميع إليه وجدوه ميتا، ابتسم وأحس بالسكينة. مع شروق الشمس، نهض من فراشه، وجد نفسه مرتاح البال، قرر عدم إيقاظها من نومها، قبل الخروج وضع قُبلة على شفتيها؛ أحست بها فعانقته:

– حبيبي، انتظر حتى أعدّ الفطور.

– حبيبتي، عودي إلى النوم غاليتي، فما تزالين بحاجة إليه.

– لا بد أن تفطر.

– سأفطر في العمل.

أغلق الباب خلفه ومضى، راحت تفكر في ليلتها الماضية، استرجعت الأحداث لحظة بلحظة، وكلما توغلت فيها أكثر؛ يزداد فيها شيئا فشيئا، أمل ينشر نسائمه في قادم الأيام. أخذت جهازها المحمول، اتصلت به، طلبتْ لقاءه على وجه السرعة، ضرب لها موعدا، نهضت من فراشها وهي تتمايل فرحا بالحدث الأخير، فراحت ترقص في خيالها الرحب مع الحبيب على أنغام أغنية العاشقين، وبعد لحظات من اللهو والمرح تذكرت الموعد وبادرت لتحضير نفسها للخروج. ركبت السيارة وقادتها نحو لقاء خاص مع رجل أحبته بصدق، على الرغم من لقائها المتكرر معه بين حين وآخر، لكن حرارة الاشتياق ما تزال مستمرة، لا يمكن نسيان حضن طالما أشعرها بالدفء. عندما وصلت إلى حديقة المشفى، وجدته في انتظارها مثل كل مرة، فتح ذراعيه وأخذها في حضنه، قبلها على وجنتيها وبادرته بالمثل، جلسا وما يزال يمسك بيديها:

– عزيزتي ماريا، أراك اليوم زاهرة مثل وردة الربيع؟ والابتسامة الغائبة منذ فترة طويلة قد عادت إليك؟.

– نعم يا غالي، حادثة يوم أمس تنبأ بالبشرى.

– أخبريني عنها بكل تفاصيلها حتى المملة منها. راحت تسرد كل شيء، حتى أتت على نهايته، ابتسم في وجهها:

– عزيزتي: طبعا ليس خافيا عليك تفسير ما حدث ومعرفة نتائجه، أنت نجحت في مغامرة غير مأمونة الجانب، كنت الطبيبة المتفوقة على نفسها دوما، وكنت الطالبة الأقرب لقلبي، خطؤك الوحيد هو؛ تولي معالجة مريض كان وما يزال حبيبك، وهذا ما لا تقبله أعراف الطب، مع هذا جازفتِ وفزت.

– أستاذي، تعرف أنني لم أستطع التخلي عن حبيبي، وكنت أعرف أنني سوف أكون طوق نجاته.

– عزيزتي، قد تكون أعراف الطب نسبية وقابلة النقض في حالات خاصة، المهم أن الانتقال الأخير يؤكد تجاوز مريض (العصاب) حالة الانهيار النفسي، فقتل العشيقة التي تعرف تفاصيل حياة عشيقها والتي يعتبرها مصدر تهديد على حياته، وهو يعرف أنها لا تتوانى في فضحه مع أقل حالة ضغط أو خوف، لذا قرر العشيق طي صفحة الماضي والخوف إلى الأبد. ضغطت على يده برقة وقالت:

– أريد أن أسمع منك النتيجة.

– قد أستطيع الجزم، أن زوجك قد تخلص من حالته المرضية وقد لا يتلبس في الأيام القادمة، بجسد ذلك الشخص الذي كان يعيش في زمن من الماضي، والأيام القادمة ستكون كفيلة في طي هذه الصفحة أو…، لا أريد أن أكون متشائما، لكن هو شهر واحد وتتضح الصورة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى