يحيى عمارة - أثر شعراء الغرب في الشعر العربي المعاصر..

مقدمة:

اعتمد الشاعر العربي المعاصر في كتابة نصوصه على معرفة شعرية خارج الذخيرة الشعرية العربية، أو مما هو غير متداول فيها، تشكلت تلك المعرفة في معظمها من نصوص شعراء الغرب وأفكارهم ومكونات أشعارهم، وكذلك من حيوا تهم، حتى إننا لا نحسب أنه بمقدور باحث جاد في بحثه، يدرس ظواهر التجديد في الشعر العربي المعاصر أن ينظر في هذا التجديد بمعزل عن تأثر الشعراء العرب المعاصرين بأمثالهم في الغرب. فكل النقاد والدارسين يجمعون (1) تقريبا، على أن نهوض الشعر العربي المعاصر مرتبط بالثقافة الشعرية الغربية، حيث يقال في هذا السياق، إنه كان لثورة الشعر العربي المعاصر دوافعه الذاتية التي تتمثل في ثورة الشاعر العربي على ثقافته التقليدية،وعلى قيم مجتمعه المهترئة,بيد أن هذه الثورة الذاتية التي لاشك في قيمتها لم تتحقق إلا بفضل الإطلاع على الآداب الغربية عامة والشعرية خاصة. بل هناك من جعل انطلاق شرارات التجديد الأدبي إبداعا ونقدا في الثقافة العربية ذا صلة باللقاء مع الغرب، "حيث ولد اللقاء مع الغرب،على الصعيد الأدبي، موقفا نقديا يتمثل في أربعة مبادئ:
أ- المبدأ الأول يتصل بالموضوع أو المضمون، وخلاصته أن الحياة الجديدة التي يحياها الشاعر العربي ولدت مشكلات جديدة، ولهذا فإن عليه أن يعي هذه المشكلات ويشتق موضوعاته منها، ويترك من ثم الموضوعات التقليدية الموروثة
ب- المبدأ الثاني يتصل بطريقة التعبير، فإذا كانت المشكلة تغيرت، فإن على الشاعر أن يغير طريقة تعبيره، فلا يمكن التعبير عن مضمون جديد "بشكل قديم. فتغير المضمون يستدعي، إذن، تغير الشكل.
ج- المبدأ الثالث يتصل بتعريف الشعر، فتعريفه في الماضي كان تابعا لأغراضه وأشكاله، وبما أن هذه الأغراض والأشكال قد تغيرت ، فإن تعريفه يجب أن يتغير…
د- وينبثق المبدأ الرابع عن المبادئ الثلاثة الأولى، وخلاصته أن علينا أن نغير النظرة إلى الشاعر، فلم يعد الشاعر من يكتب القصيدة تلو الأخرى،دون رؤيا للعالم أو موقف منه، بحيث يجيء شعره مجموعة من الانفعالات أو وصف الأحداث دون رابط رؤياوي وجمالي يربط فيما بينها، ويوحدها،بل الشاعر هو الذي يصدر عن رؤيا، أي من له رسالة كما يعبر جبران، ومن لا رسالة له،ليس شاعرا."(2).

إن انفتاح الشعراء العرب المعاصرين على شعر الغرب، من أهم عناصر التحولات الكبرى في المسيرة الشعرية العربية ، لأن اعتمادهم، في إبداعاتهم، أحيانا، أو في الغالب، على نصوص شعرية خارج الذخيرة الشعرية الذاتية، وبصورة مكثفة /جعلهم يتميزون عن التجارب الشعرية العربية السابقة عليهم، حيث تمكنوا عن طريق هذا العامل المعرفي والثقافي، بالإضافة إلى عوامل أخرى، تجديد روح القصيدة العربية المعاصرة،بكل أطيافها وألوانها، ذلك بإدخال مكونات دلالية وجمالية جددت الخطاب الشعري العربي، من بينها المكون المعرفي والفلسفي المتعدد الخطابات، والمنبثق من توظيف الأساطير والرموز والأماكن والأقنعة والآراء الفلسفية الكونية،والمكون الجمالي المؤسس على اللغة المختلفة والمغايرة لما كان سائدا من قبل، وعلى الصورة الشعرية المركبة تركيبا معجميا مأخوذا من معاجم لغوية مختلفة، وكذلك على الإيقاع الجديد الذي لم تعهده المعرفة العروضية العربية.

تأسيسا على هذه المقدمة، سنحاول في حديثنا، الإجابة عن الأسئلة الآتية:هل كان الشاعر العربي المعاصر صورة مستنسخة للشاعر الغربي؟أين تكمن مظاهر التأثر ؟
هل أبدع الشاعر العربي نصه الشعري بمخيلة غربية فقط أم كان يستلهم ما يناسب خطابه على المستوى الواقعي والتاريخي والفكري والاجتماعي والسياسي؟
ألم تكن علاقته بالنص الشعري الغربي مبنية على الحوار والتفاعل والتجاوز المستمر لثقافة الآخر المتسمة بالهيمنة وبالتمركز نحو الذات وبعدم الاعتراف بثقافة المشرق والمغرب الشعرية بديلا للامتصاص والاحتذاء؟
ألم يكن تفاعله مع المرجعية الغربية دليلا ساطعا على الثقة بخصوصية ذاته وبمقدرته على الانفتاح والاستيعاب بمسؤوليته لإغناء الشعر العربي وتطويره والإضافة إليه،ومن ثمة البحث عن الذات ومعرفتها والاضطلاع ببناء الإنسان والمجتمع العربيين من خلال ذلك كله.؟

1- أسباب تأثر الشاعر العربي المعاصر بالمرجعية الغربية:


إذا كان بعض الدارسين العرب(3) الذي تصدوا لدراسة شعر الإحيائيين، قد أجمعوا على تأثر شعراء القصيدة التقليدية تأثرا قويا ومباشرا بالشعر العربي القديم، مؤكدين أن حركة الإحياء قد قامت على التراث القديم لتمثله واستلهامه ومحاكاته في صوره البيانية الجيدة التي تنبض بالأصالة والجمال، محافظة على روح القصيدة الكلاسيكية في مقوماتها وأصولها، حيث ظلت القصيدة الكلاسيكية من حيث الشكل والتعبير والموضوع مثالهم المفضل،بالرغم من اتساع شعرهم لتجارب حديثة ، حيث كان يعرف بين الفينة والأخرى بعض عناصر التطور في شكله العمودي، فاكتسب مواقع أخرى في تحسين حاله، لأنه مع قيام النهضة الحديثة، كان قد استقطر عناصر تجويده من التراث، ومن إيجابياته بالخصوص، ثم أضاف إلى ذلك ما اكتسبه من انفتاح العالم العربي على الحضارة والثقافة الجديدين، ومن التعامل المحدود مع التيارات الشعرية والفنية والفلسفية الجديدة ولو في حدود سطحية تنعكس على الجزئيات والجانبيات.فإن شعر الرومانسيين و المعاصرين انبنى على البحث عن الجديد في قضايا الشعرية العربية وأساليب تعبيرها مع إعادة قراءة المنجز النصي العربي برؤية نقدية متحررة تستجيب لكل مستجدات العصر وتستشرف آفاق الخطاب المستقبلي، ولن يتأتى ذلك إلا بالإطلاع على المرجعية الغربية ،وبتوطيد العلاقة معها، فالتحول الإبداعي والخروج من النمطية يتطلبان البحث عن علاقات جديدة تسهم في انبثاق حركة تطور عميق تحتمه طبيعة الحياة الجديدة التواقة إلى إحداث تغيير تصوري يعبر عن روح الاختلاف مع السابق من جهة، ويدخل الإبداع المحلي في سياق عالمية الثقافة الإنسانية المعاصرة من جهة أخرى، "هكذا تم انقلاب كامل في النظر إلى الشعر العربي،تترتب عليه، بالضرورة، علاقات جديدة معه، ثقافيا وفنيا، وكانت الناحية الثانية نتيجة طبيعية، للأولى، وتتمثل في تغير مفهوم الشعر، وتبعا لذلك في تغير طرق التعبير،وفي ارتياد آفاق فنية وطرق تعبيرية أخرى تفرضها طبيعة التجربة، وطبيعة المرحلة التاريخية، وطبيعة التغيرات الإنسانية والحضارية."(4) من هنا،ترعرعت القصيدة المعاصرة في شروط اجتماعية وسياسية ومعرفية وأدبية تفاعلت مع الذات والآخر، وكان التفاعل مع الآخر على المستوى الفكري والأدبي أكثر بروزا ، "حيث كانت الفترة الزمنية مليئة بالاتجاهات والتيارات الأدبية الجديدة، فترة كانت ثمينة بالشعر لم يشهد تاريخ الأدب العربي لها مثيلا. أصبح الشاعر فيها يقف على عتبات العالم القديم والحديث يجمع بين جميع حركات الإبداع قديما وحديثا,لقد أفاد من معطيات العلوم والثقافة حتى غدا خزانة غنية بكل الاتجاهات الفكرية والدينية والأسطورية والفلسفية والسياسية والأدبية."(5).
في هذا السياق ، يمكن القول إن ثمة علائق عضوية مؤكدة بين ولادة الشعر العربي المعاصر، وتطوره،وتوجهاته، وبين مجموع الظروف التي عاش فيها الشعراء العرب المعاصرون الذين حاولوا إخراج النص الشعري من الجمود والمألوف اللذين انتهى إليهما إلى حدود العقود الأولى من القرن العشرين، وإدخاله انعطافة حاسمة في تاريخ الشعر العربي، تؤمن بالقطيعة الابستمولوجية تارة، وبالامتداد المتجدد تارة أخرى، فكل المراحل الشعرية التي قطعها الحطاب التجديدي من الرومانسية إلى الحداثة تميزت بثورة على الكلاسيكية وعلى التراث، على مستوى الشكل والقافية والعروض في البداية، ثم على صعيد مجمل بنية القصيدة والصورة الشعرية، وتميزت أيضا باللجوء إل الغرب، وإلى النص الغائب(6)، أو الحاضر أحيانا، المتعلق بالشعر وبالنظرية الشعرية، وتميزت أخيرا بقراءة جديدة للتراث الشعري على ضوء معطيات العصر، وكانت مجلة شعر(7) اكبر رافد للأعمال الشعرية الغربية، فقد قامت بتعريف القراء إلى عدد كبير من الشعراء الأجانب، حيث قامت جماعة شعر بنقد المجموعات الشعرية الصادرة آنذاك في العواصم العربية وترجموا شعراء أجانب معاصرين مثل: لويس أراغون،وسان جون بيرس، وجون سوير فييل، وجاك بيرفير، وت.س.إليوت، وإزراباوند ، وسواهم، وكان الإطلاع على التجارب الغربية بعامة قد ترك أثرا في الشعراء العرب كما هي الحال مع نازك الملائكة التي تأثرت بوليم بلايك، ومع بدر شاكر السياب الذي تأثر بستويل وإليوت، ومع يوسف الخال الذي تأثر بإزراباوند وإليوت، ومع صلاح عبدالصبور الذي تأثر بإليوت أيضا، وأدونيس المتأثر بآرثر رامبو وبودلير وسان جون بيرس ، وسعدي يوسف بيانيس ريتسوس ووايت ويتمان وكفافيس.
فمن الأسباب التي جعلث ثقافة الآخر الشعرية دائمة الحضور في التجربة الشعرية العربية المعاصرة ، هناك سبب حضاري يتجلى في محاولة التأثر بالحضارة الغربية من خلال المبادئ الكبرى التي تتأسس عليها في التنشئة الاجتماعية والسياسية والفكرية مثل الحرية والعدالة والمساواة والإنسانية وباقي القيم الروحية والجمالية الداعية إلى تحديث كل جديد، فقد وصلوا إلى نظرية شعرية موحدة تتوكأ على أن الشعر الحقيقي هو الشعر الخالد العالمي الذي يعالج مواضيع روحية وإنسانية يشعر بها كل إنسان في كل زمان ومكان. وما سواه فهو شعر متغير غير ثابت يتطور بتطور البيئة،وانتقال العصر.
فالشعر الذي يحملنا على أجنحته ويرفعنا إلى ما وراء المادة هو الشعر الخالد الصحيح الذي يتغنى دوما بقلب الإنسانية، فيشارك كل إنسان ذلك الغناء الأزلي.
يقول الشاعر اللبناني يوسف الخال في بيان من بياناته " إن مستقبل الشعر في لبنان رهين بقيام شعر طليعي تجريبي يقوم على الأسس التالية:
أولا – التعبير عن التجربة الحياتية على حقيقتها كما يعيها الشاعر بجميع كيانه -أي بعقله وقلبه معا.
ثانيا- استخدام الصورة الحية –من وصفية ذهنية- حيث استخدم الشاعر القديم التشبيه والاستعارة، والتجريد اللفظي،والفذلكة البيانية، فليس لدى الشاعر كالصور القائمة في التاريخ أو في الحياة وما يتبعها من تداع نفسي يتحدى المنطق ويحطم القوالب التقليدية.
ثالثا-إبدال التعابير والمفردات القديمة التي استنزفت حيويتها بتعابير ومفردات جديدة مستمدة من صميم التجربة ومن حياة الشعب.
رابعا-تطوير الإيقاع الشعري العربي وصقله على ضوء المضامين الجديدة،فليس للأوزان التقليدية أية قداسة.
خامسا-الاعتماد في بناء القصيدة على وحدة التجربة والجو العاطفي العام لا على التتابع العقلي والتسلسل المنطقي.
سادسا-الإنسان في ألمه وفرحه، خطيئته وتوبته، حريته وعبوديته، حقارته وعظمته، حياته وموته، هو الموضوع الأول والأخير.
كل تجربة لا يتوسطها الإنسان هي تجربة سخيفة مصطنعة لا يأبه لها الشعر الخالد العظيم.
سابعا- وعي التراث الروحي - العقلي العربي وفهمه على حقيقته وإعلان هذه الحقيقة وتقييمها كما هي دون ما خوف أو مسايرة أو تردد.ثامنا-الغوص إلى أعماق التراث الروحي –العقلي الأوروبي، وفهمه وكونه، والتفاعل معه
تاسعا- الإفادة من التجارب الشعرية التي حققها أدباء العالم. فعلى الشاعر اللبناني الحديث أن لايقع في خطر الانكماشية كما وقع الشعراء العرب قديما بالنسبة للأدب الإغريقي.
عاشرا- الامتزاج بروح الشعب لا بالطبيعة ، فالشعب مورد حياة لا تنضب، أما الطبيعة فحالة آنية زائلة"(8)
تأسيسا على ما سلف، وجد الشعراء المعاصرون ذواتهم الساعية إلى التعبير عن رؤيا جديدة للشعر والحياة والعصر والتراث في المرجعية الغربية ، التي أسعفتهم على التعبير وسط ركام محزن من الخيبات السياسية والانكسارات العامة، وطنيا وقومبا، التي ضيقت أحلامهم، وقيدت أساليبهم، وهزت كياناتهم، وخلخلت أجوبتهم الجاهزة ،وفتقت قرائح أسئلتهم وقراءاتهم للسائد . فقد أحسوا بالحاجة إلى تغيير ثقافتهم الشعرية على كل المستويات ،تغييرا يتيح لهم أن يتمثلوا ملامح الحضارة الجديدة، بمعايير إبداعية جديدة، تتأمل الوحدة بين ما يقال وطريقة القول غير المعادين (بفتح الدال وتسكين الياء).
ومن المفيد الإشارة، إلى أن خصائص الشعر الغربي،بمدارسه وتياراته وأجناسه الأدبية : الدراما والملحمة والقصة، كانت محط اهتمام بالغ ، وموضع تقدير، دفع الكثير من الشعراء العرب إلى استلهامها في تجاربهم التحديثية، مما أسهم في خلق نهضة شعرية تتوخى تجاوز المنجز النصي المهيمن على المشهد الشعري ،سواء على المستوى التنظيري أم على المستوى الإبداعي.
كما أن قراءة المتن الشعري الغربي قراءة عميقة ومتأنية ،انطلاقا من عناصر الحداثة التي ترفع شعار التجديد والتمرد والمغايرة وإخضاع كل مقروء للمراجعة والتقويم ، كانت سببا من أسباب تعامل الشاعر العربي المعاصر مع المرجعية الغربية والتأثر بها، يقول أدونيس "أحب أن أعترف أيضا أنني لم أتعرف على الحداثة الشعرية العربية، من داخل النظام الثقافي العربي السائد، وأجهزته المعرفية.فقراءة بودلير هي التي غيرت معرفتي بأبي نواس، وكشفت لي عن شعريته وحداثته. وقراءة مالارميه هي التي أوضحت لي أسرار اللغة الشعرية وأبعادها الحديثة عند أبي تمام،وقراءة رامبو ونرفال وبريتون هي التي قادتني إلى اكتشاف التجربة الصوفية بفرادتها وبهائها"(9)
في هذا القول، يعترف أدونيس ،مع الشعر المعاصر، أن إطلاعه على الشعر الفرنسي الحديث هو ما قاده إلى اكتشاف الشعر العربي القديم،من أبي نواس إلى أبي تمام والنفري وابن عربي,

2- مظاهر تأثر الشعراء العرب المعاصرين بالشعراء الغربيين:


لا جدال في المقولة النقدية القائلة إن الشعر العربي المعاصر أبدع متغيرات عدة، متغيرات لها أدواتها في توليد رؤى مختلفة وجديدة، جاءت هذه المتغيرات ،بسبب المؤثرات الأجنبية التي تعرف إليها الشعراء العرب المعاصرون، بالإضافة إلى مؤثرات أخرى لم تعهدها الذات الشعرية العربية.برزت هذه المؤثرات في النص الشعري المختلف عن سابقيه.
وتعد سنوات الخمسين والستين من القرن الماضي فاتحة مظاهر هذه المؤثرات التي ستهيمن على الشعرية العربية المعاصرة .وما تجدر الإشارة إليه إن أثر الشعراء الغربيين في القصيدة العاصرة سيتميز بالتعدد على المستوى الانتماء وعلى المستوى الذاتي وعلى المستوى الجمالي،لكن الكل يتفق على ماهية تجديد الخطاب الشعري العربي، فعلى سبيل التمثيل لا الحصر فالشاعر العراقي بدر شاكر السياب سيعلن منذ البداية أنه مولع بالشعرية الانجليزية في نموذجيها المشهورين ت-س-إليوت وإديت سيتول ، فهما من النماذج الانجليزية التي ستترك بصماتها بارزة في شعر الشاعر.ولعل القرائن التاريخية المتاحة تساعد على الاستنتاج بأن صلة السياب بإليوت ربما بدأت منذ أواسط الأربعينات ، أو أواخرها كما يحدد بعض الدارسين(10).
يقول السياب في وصف ما درسه في بغداد في سنتيه الدراسيتين الأخيرتين (خاصة 1946-1948): " فدرست شكسبير وملتون والشعراء الفكتوريين ثم الرومنتيكيين ، وفي سنتي الأخيرتين في دار المعلمين العالية تعرفت –لأول مرة ،بالشاعر الانجليزي جون كيتس لايقل عن إعجابي بإليوت"(11).
في المقابل نجد الشاعر الإشكالي أدونيس متأثرا بالثقافة الشعرية الفرنسية ،وهي الثقافة التي دفعت مجموعة من النقاد بالحديث عن ظاهرة الامتصاص والاحتذاء والصدى لدى صاحب أغاني مهيار الدمشقي (12)، وهذا موضوع آخر، الأهم أن أدونيس قرأ الشعر الفرنسي قراءة عميقة ، استطاع بها أن ينظر للمشروع الأدبي الحداثي العربي والعالمي، وإذا أردنا أن نحدد أكثر، يمكن القول إن الرباعي الفرنسي بودلير ورامبو وإيف بونفوا وسان جون بيرس من الشعراء المؤثرين والمؤطرين في الوقت نفسه للمنجز النصي الأدونيسي، (13) وهذا ما تفطن إلية أحد النقاد الشعراء عندما قال متحدثا عن هذه المفارقة الموجودة بين الشعراء العرب المعاصرين في عملية تأثرهم. " تختلف وضعية هجرة النص بين الشعراء المعاصرين، وبالتالي فهي تختلف بين السياب وأدونيس.
فالسياب، الذي صاحبت نصوص إديت سيتول نصوصه في مرحلة طويلة، ليس هو أدونيس الذي ارتبطت نصوص كل من رامبو وسان جون بيرس وإيف بونفوا بنصوصه حسب المراحل الشعرية التي اجتازتها تجربة أدونيس. وتخصيص علاقة السياب بالشاعرة الإنجليزية أو علاقة أدونيس بثلاثة شعراء فرنسيين لا يعني بتاتا أن نصوص شعراء عديدين ، ومن لغات متباينة ، لم تهاجر إلى نصوص هذين الشاعرين، بل يرمي تعيين النصوص النواة الأولى."(14).
قد يكون مجديا أن يشار هنا، إلى أن جوهر الشعر العربي المعاصر كامن بالأساس في تنوع الأثر لغة وترجمة وكونا، فإذا قرأنا أشعار الشاعر العراقي المقيم في بقاع العالم سعدي يوسف نجد حضور المرجعية الشعرية اليونانية يفرض سلطته على الكون الشعري من خلال الترجمة لكبار شعراء اليونان مثل كفافيس ويانيس ريتسوس، وكذلك من خلال توظيف مكوناتهم النصية المعروفة بشعر تفاصيل الحياة اليومية، وبالحضور المكثف للعناصر اليومية الأليفة التي تجاور حياتنا،ومن ثمة،الدخول منها إلى الحياتي البسيط واليومي المعاش وتخطي المنبرية والارتباط بزمن شعري خاص قائم على تجربة غير مألوفة وحدس متمايز.
في هذا السياق، لابد أن نشير إلى أن القصيدة الريتسوسية من القصائد الغربية التي استطاعت أن تحدث تغييرا كبيرا في بنية القصيدة العربية، وعلى وجه الدقة قصيدة النثر مع الشعراء الرواد في هذا النوع من أمثال الشاعرين الراحلين محمد الماغوط وسركون بولص وإن كان الأخير ميالا إلى المرجعية الشعرية الأمريكية.وبهذا "انفتحت القصيدة العربية الحديثة على أشعار ريتسوس ونهلت منها ما يرفد خصوصيتها وتميزها وتطورها بالاتجاه الصائب،وهو الانفتاح الذي أثر بصورة شاخصة في بنية القصيدة العربية وصبغها بنماذج محددة وخاضعة لمقاييس الدائرة الضيقة وتوجهات غير سليمة. ومع ريتسوس وغيره من الأصوات الشعرية العالمية ذات النفحة الإنسانية المتفائلة تلمست القصيدة العربية الحديثة المتأثرة بالشعر العالمي جذورها الحقيقية ومازالت تقدم فروعا وأغصانا جديدة".(15) لكن ، إذا كان الاختلاف واردا عند الشعراء من خلال الاهتمام بالترجمة والقراءة والإتباع والتأثر، فإن مظاهر حضور هذا التأثر في بنية القصيدة العربية المعاصرة يبقى من نقط التشابه والائتلاف والتشارك،من بين هذه المظاهر اتفاقهم في التعريف الشعري الجديد الشبيه بكل النظريات الشعرية الغربية ، وهو التعريف المحدد في القول إن الشعر الجديد رؤيا،والرؤيا بطبيعتها قفزة خارج المفهومات السائدة.إنها تغيير في نظام الأشياء وفي نظام النظر إليها،إن الشعر معني بالجواهر،لا بالحوادث، والظروف المتبدلة،إنه فلسفة بديلة.وهو التعريف المأخوذ جملة وتفصيلا من تعريف الشعراء الغربيين الحداثيين ، وعلى رأسهم ت, س, إليوت القائل بلسان القصيدة النائبة عن الشعر "نستطيع أن نقول فقط إن القصيدة تملك، بمعنى ما، تمتلك حياتها الخاصة وإن أجزاءها تشكل شيئا ما مختلفا عن مجموعة معلومات مرتبة بأناقة تتعلق بحياة الكاتب وإن الشعور أو العاطفة أو الرؤيا الناتجة عن القصيدة هي شيء مختلف عن الشعور أو العاطفة أو الرؤيا في ذهن الشاعر"(16).
والواقع أن هذا التعريف أصبح بارزا في التنظير الشعري العربي المعاصر منذ سنوات الخمسين، ولا نستبعد أن يكون أثر إليوت سببا مباشرا في المغايرة المفاهيمية الابستمولوجية للشعر. "بل ربما كان تأثر الشعراء العرب الرواد بتقنيات إليوت الشعرية وأدواته وطريقة بنائه المركبة للقصيدة من أبعد مجالات المثاقفة أثرا في هذه العلاقة"(17)، ولن نجد ،بعد هذا،صعوبة في استيعاب المعنى الجديد المتفق عليه للشعر،بأنه خروج على العروض القديم وحده أساس إبدال البنية النصية والرؤية إلى الشعر العربي، بل إن المؤثرات الغربية هي التي أكسبت القصيدة المعاصرة مفهوما مغايرا للغة والذات والمجتمع، وفي ضوئها تعرف الشعر العربي مجددا إلى ذاته في مرحلة اجتماعية -ثقافية كانت بحاجة لاستقبال هذه المؤثرات.

إن النص الشعري العربي المعاصر استقى من خلال التداخل النصي البارز في إبداعات الشعراء مجموعة من مكونات النص الشعري الغربي، من بين هذه المكونات أولا المكون الاصطلاحي ، فمجموعة من المصطلحات النقدية الشعرية تداولتها التنظيرات العربية المعاصرة والنقود الأدبية تعد دخيلة على الاصطلاح الشعري العربي، من بينها مثلا مصطلح الشعر الحر الذي هو مستورد أمريكي بالذات، استخدمه في أواخر القرن التاسع عشر الشاعر والت ويتمان في ديوانه "أوراق العشب"(18)، حيث قصائد المجموعة هذه لا تعترف بوزن أوقافية بالشكل التقليدي،وهو المصطلح الغريب على الثقافة الشعرية العربية الذي كان أحد المؤثرات الغربية التي ظهرت في الشعر العربي المعاصر في فترات مختلفة، وهذا يقال كذلك على باقي المصطلحات المرتبطة بتعريف الشعر المتسم بالتعدد والاختلاف.
يقول الناقد المغربي محمد بنيس: "جميع هذه المصطلحات ذات مصدر غربي، فالشعر الحر ليس من ابتداع زكي أبو شادي أو ابتداع نازك الملائكة كما يوحي بذلك كلامها،بل هو ترجمة لمصطلح فير ليبر بالفرنسية وفري فير بالانجليزية، وقد ساد هذا المصطلح في الثقافة العربية منذ العشرينيات إلى جانب الشعر الحديث، ومن فإن إعادة استعماله من طرف شعراء ونقاد الخمسينات جاء محملا بحيوية نظرية لم يكن يمتلكها من قبل، ولا وجود له بتاتا في المصطلح النقدي العربي القديم."(19). وفرضت مثل هذه المصطلحات ذاتها في الساحة النقدية العربية بعد ما راح الشعراء العرب المعاصرون ينهلون من هذا النوع الشعري عند شعراء الغرب مثل بودلير ورامبو ومالارميه وبول فاليري وتوماس إليوت ،وسان جون بيرس وغيرهم من الشعراء المعاصرين، حيث طفقوا يستجيبون لنماذجهم، ويتشربون تجاربهم، ويحفظون أشعارهم، ويطبقون نظرياتهم. فإذا قرأنا أشعار بدر شاكر السياب خاصة ديوانه المشهور "أنشودة المطر"(20) الذي يعد الصورة الجمالية الجديدة في الشعر العربي المعاصر من حيث اللغة والإيقاع والتركيب والمرجعية والنفس الملحمي والدرامي وبداية جوهرية ومعلما بارزا في طريق الحداثة، فإن القارئ للديوان يتبين له علاقة المثاقفة الشعرية إن صح التعبير بين السياب وإليوت، في مجال البحث المستمر عن لغة شعرية مركبة تركيبا جديدا، تستدعي معايير حداثية على المستوى الدلالي والجمالي لكي تجدد خطابها بصورة شمولية. ففي تأثر السياب بإليوت مسألتان: الأولى تتجلى في اعتماد السياب على مجموعة من تقنيات العمل الشعري لدى إليوت،ولاسيما تقنيات بناء القصيدة المركبة.
ويبدو أن القصيدة المركبة أو القصيدة الطويلة كما شاع في الاستعمال بشكل أوسع،شغلت جانبا أساسيا من فكر إليوت والسياب وعملهما .حتى إن مهنة إليوت الشعرية صارت تتميز أساسا من خلال بعض قصائد طويلة . وقد لا حظ دارسو السياب ،بالمثل ، اهتمامه الخاص بهذا النمط من القصيدة ،وسعيه ، إلى تحقيقه على نحو متميز. " ويبدو أن طبيعة البناء المركب لــ " أنشودة المطر" الذي يقوم على الوحدة والإحكام والتناغم لفتت بصورة عامة انتباه دارسي السياب، مما جعلهم يقفون عند هذه المسألة ويصفونها بصفات وأسماء مختلفة، ولكنها تتفق في نهاية الأمر في التوصل إلى نتيجة واحدة مفادها أن هذه القصيدة تمثل نقطة تحول أساسية في حركة الشعر العربي الحديث، تماما كما تمثل " الأرض اليباب " نقطة تحول أساسية في حركة الشعر الغربي الحديث وربما العالمي كله."(21) أما المسألة الثانية ، فتتمثل في بعض التيمات الذاتية التي كتب عنها السياب، تلتقي كلها تقريبا في القلق المأساوي الذي عاشه الشاعر الأنغلو سكسوني ، وعبر عنه من خلال "الأرض الخراب" ، وهو القلق الذي سيكون حافزا قويا عند الشاعر العراقي لكي يتجه صوب المنابع الروحية ، الصافية ، والبدائية للتاريخ المتمثلة بالميثولوجيا على جد تعبير أحد النقاد العرب المعاصرين.(22). والحكم النقدي المتبنى هنا ، نفسه ينطبق على أدونيس في علاقته بشعر آرثر رامبو ، وبشعر سان جون بيرس، فالنص الأدونيسي يشكل حداثته من عناصر فضاء هدم الحضارة الأوربية ، ومن الخروج على تصور البيت الشعري السائد، ومن القصيدة الحلم المنشبكة بالرؤيا ، ومن اللغة الغامضة المتعاملة مع ثقافة السؤال أكثر من ثقافة الجواب، ومن منفى الذات إلى منفى الإيقاع ، ومن تكثيف الذات في الباطن وليس في الظاهر، ومن دمج مقاطع غنائية قصيرة ضمن البناء النصي العام ، ومن بلاغة الشعر إلى بلاغة النثر مع قصيدة النثر. وكل هذه العناصر مبثوثة في أشعار الشاعرين الغربيين المذكورين سلفا.
إن أبرز مظهر جمالي يوضح بالملموس الأثر المعرفي الشعري الغربي في القصيدة العربية المعاصرة يتحدد في استخدام الأسطورة التي هي شكل رمزي معرفي وصل إليه الإبداع الشعري ، انطلاقا مما للأسطورة جاذبية خاصة لأنها تصل بين الإنسان والطبيعة وحركة الفصول وتناوب الخصب والجذب، وهي مادة حية متجددة، يغذيها خيال البشر الذي أبدعها بمضامين جديدة، وبذلك تكفل نوعا من الشعور بالاستمرار، كما تعين على تصور واضح لحركة التطور في الحياة الإنسانية، " وهي من ناحية فنية تسعف الشاعر على الربط بين أحلام العقل الباطن ونشاط العقل الظاهر، والربط بين الماضي والحاضر، والتوحيد بين التجربة الذاتية والتجربة الجماعية، وتنقذ القصيدة من الغنائية المحض، وتفتح آفاقها لقبول ألوان عميقة من القوى المتصارعة، والتنويع في أشكال التركيب والبناء."(23) .
لهذه الأسباب ولأخرى حضارية وفكرية ومعرفية، أولى الشعر الغربي أهمية خاصة للأسطورة، لاسيما القديم منها، وقام الشعراء الغربيون باستلهام كل عوالمها ، ولن نستعرض هنا، كافة الأسباب التي جعلت الشعراء الغربيين يلجؤون إلى الأساطير، بل نكتفي بذكر بعض منها،على سبيل التمثيل لا الحصر ، حاول هؤلاء ، مثل ت. س. إليوت ، وإزرباونذ، وإديث سيتويل، أن يجدوا في الإنسان الذي غيرته الحرب وغيرته المجتمعات الصناعية صدى لبعض القيم الإنسانية الخالدة، ومن ثم، عملوا على بعث بعض الأساطير، طبقا لاهتمامهم، في ثوب جديد. فإزرباوند اختار أفروديت لتكون دلالة خاصة على موقفه من الأسطورة، وهي كما نعلم إلهة الحب عشتاروت عند الساميين، وفينوس عند الرومان، وقد منحها اليونان صفات إنسانية كثيرة، ولابد أن باوند وجد في هذه الصفات ما يقرب الأسطورة إلى عالم الإنسان وإلى الزمن الحاضر، فارتباطها بأدونيس(تموز) يذكرنا بالصفات الدنيوية المعاصرة(24)
أما إليوت، الذي أدى لديه البعد المعرفي الأسطوري أهمية عظمى في إثارة الاهتمام بشعره، حيث ظهرت في عام 1957 ترجمة جبرا إبراهيم جبرا للجزء الخاص بأدونيس من كتاب الغصن الذهبي الذي اعترف إليوت بتأثيره عليه في كتابة قصيدة "الأرض الخراب"، فقد اختار تريسياس، مبعوث الموتى الذي وجد حيا بين الأموات ليكون معلما إلى الحياة من خلال عالم الموت. حيث يعد تريسياس الشخصية المركزية في قصيدة الأرض الخراب أو اليباب كما يتم ترجمتها أحيانا،وهي قصيدة تعتبر من أشهر قصائد العصر الماضي التي لاقت شيوعا أكثر من أي قصيدة حديثة فالذي يراه تريسياس هو جوهرها. فهو لم ير ويمارس هذه الأجداث في ماضيه فحسب، بل لقد تنبأ بها للمستقبل وسبق له أن عانى منها, ولئن كان هذا هو الأمر فإن المستقبل يزامن مع الماضي والحاضر.وفضلا عن ذلك، يقول إليوت إن الشخصيات الأخرى كافة تندمج في تريسياس الذي هو عراف أعمى.
ومن هنا، فإن إسهام كل من باوند وإليوت في التجديد والحداثة، يتمثل في خروجهما عن الموروث الذي درج على النظر إلى الشعر منذ أرسطو على أنه محاكاة لحدث ما, " وبهذا ساهما بمهمة جليلة في تحرير الشعر الحديث من القيود المسبقة، التي كانت بطبيعة الحال تفرض نفسها على الموهبة الفردية عند الشاعر"(25) وبذلك، يتم الإقرار،بأن توظيف الأسطورة لدى الشعراء الغربيين كان حافزا رئيسا في استدعائها لدى الشعراء العرب المعاصرين، الذين لم تظهر عندهم هذه الظاهرة إلا بعد عام 1950، بالرغم من المحاولات القليلة التي وظفت الأسطورة في بواكيرها الأولى ،حيث لم يفطن الشعراء لهذا الفن ولم يفيدوا منه إلا بعد إطلاعهم على الشعر الغربي وخاصة إزرباوند وإليوت ، بحيث تمت محاكاتهم في قصائدهم الميثية إن صح التعبير،فقد لجأوا إلى الأساطير اليونانية والفينيقية والآشورية والبابلية والفرعونية، وألم بعضهم بالأساطير الإفريقية والصينية، ويعد استغلال الأسطورة في الشعر العربي المعاصر من أجرأ المواقف الثورية فيه، وأبعدها آثارا حتى اليوم، حتى يمكن القول، ليس هناك ديوان شعري يخلو من الإشارات والرموز الأسطورية، أو من استيحاء مواقف معينة، أو أجواء معروفة،أو اقتباس هيكل أسطوري قديم لبث مضامين معاصرة من خلاله،وباتت هذه الظاهرة في حاجة إلى بحث يعمق دلالتها، ويكشف عن مصادرها، ويحدد قيمتها الفنية، وهذا موضوع آخر لا يسمح المقام بمناقشته.من الشعراء المتأثرين باستخدام الأسطورة بوصفها رمزا فنيا ودلاليا يمتاح أبعاده من توظيف إزرباوند وإليوت المتحدث عن النظرة القائلة إن الحضارة الإنسانية بوصفها مظهرا للنشاط العقلي، وإنها تخضع للموت والانبعاث انطلاقا من إحدى أساسيات الثقافة الدينية الموروثة من أساطير الشعوب الزراعية عن الموت والبعث مجددا، نجد لويس عوض وجبرا إبراهيم جبرا، ومن تابعهم من أمثال بدر شاكر السياب و صلاح عبدالصبور و خليل حاوي و يوسف الخال وأدونيس في مرحلته الأخيرة وبلند الحيدري عبدالوهاب البياتي وتوفيق صايغ، والعديد من شعراء الجيل اللاحق بهم. ولعل طريقة توظيف الأسطورة في القصيدة المعاصرة، أو المنهج الأسطوري إذا استعملنا مصطلح إليوت نفسه، من أبرز الملامح الفنية التي يمكننا من خلالها أن نتبين بعض أوجه الأثر بين إليوت والشعر العربي المعاصر عامة، وبين إليوت والسياب خاصة. فالعمل الناضج للشاعر العراقي بتوظيفه للأساطير المختلفة الذاتية والموضوعية، وبإخراجها من مرحلة إلى أخرى ، بطريقة إلييوتية واضحة، من الاستخدام الساذج إلى التفاعل معها بوعي أعمق، ذلك باتخاذ الأسطورة منهجا لإدراك الواقع وتحليله قبل ان تكون مجرد وسيلة من وسائل الأداء الشعري، وكذلك العمل على رفع القصيدة العربية إلى مستوى المعمار المعقد الذي بلغه إليوت وشعراء الغرب ، كل هذا، أعطى للشاعر مزيدا من الحرية والتخيل والتقنية في استخدام المفردة الشعرية، فكانت الأسطورة عاملا مساعدا على تشكيل الصورة الشعرية من جهة ، ومرجعا توكأ عليه الشاعر العراقي لإدانة وتعرية البنى ( بضم الباء) السوداء في مجتمعه بطريقة رمزية وإيحائية من جهة أخرى. وهو ما استطاع السياب تحقيقه في مسيره الشعري ، فمنذ ديوان أنشودة المطر، والسياب يهتم بإبراز معالم الأسطورة الكونية والمحلية في أبعادها الجمالية والنفسية والاجتماعية والمكانية، ورسم صورة حية للأسطورة بقيمها ووقائعها، ووصف المكان بإشعاعاته الروحية، وطبيعته الشعبية ليؤكد أصالة النموذج الذي يقدمه للحضارة، وكيف أنه نموذج منتقى يحمل تراثه الأسطوري مما يجعله ندا قويا للمواجهة. " فقد كان الحنين الجارف إلى العودة إلى تلك العصور سببا من أسباب ارتداد الشعراء المعاصرين إلى التراث ، وبخاصة التراث الأسطوري - لينشدوا فيه ذلك العالم الغني البكر الذي يفتقدونه في واقعهم، وليصنعوا من معطياته -على المستوى الفني – عالما شبيها به ."(26 ، ربما كانت الرغبة في تجديد التراث من أحد العوامل التي دفعت السياب وأمثاله إلى استخدام الأساطير وليس معنى التجديد هنا تقليد الماضي أو التنقيب في الآثار لاكتشاف المخزون ونشره أو تحجير الأصول وإتباعها، إنما هو التعبير عن الواقع وهو نقطة البداية التي يجرنا إلى الحديث عن العنصر الموالي.

3- الشاعر العربي المعاصر بين المرجعية الشعرية الغربية وخصوصية التوظيف:


إن علاقة الشعر العربي بالغرب علاقة معرفية تدخل في سياق التلاقح والتفاعل والتثاقف وفي سياق عملية التأثير والتأثر ، وتندرج كذلك في الحوار والتداخل ، هذا رأي نقدي يدافع عن عملية الأثر الغربي في الشعرية المعاصرة، مؤكدا أن الشعراء العرب في تقليدهم إن صح التعبير لشعراء الغرب لم يكن تقليدا أعمى، بل لعلهم ، على النقيض من ذلك،قاموا بتطوير تقنيات الشعرية الغربية على نحو مناسب لأهدافهم، فهم لم يتصدوا ، كما فعل إليوت وأصحابه، لمادية الحضارة الحديثة، وإنما استخدموا الرموز التي اعتمدها في التعبير عن مشكلاتهم ومشكلات العالم العربي, وبذلك، كان يختلف الشاعر العربي عن الشاعر الغربي، وإن كان يستخدم بعض مفهوماته التقنية أو النظرية. كان يرى عليه أن يأتي بجديد يتكيف مع الأرضية الإبداعية، وبشكل أدق،مع شعريته خاصة، كما أنه تمثل تجربة الغرب لا لشيء إلا ليعمق تجربته الخاصة وليوسع حدودها. يمكن اتخاذ الشاعر العربي بدر شاكر السياب نموذجا يعزز هذا الرأي. فالسياب يظل من الشعراء النادرين الذين لم يعبروا إلى الشمولية إلا من خلال خصوصيتهم المحلية، بالرغم من معرفتهم العميقة بالثقافة الغربية . كذلك ظل طوال حياته ، يثبت علاقته مع التراث العربي خاصة الشعري، فهو من الشعراء الذين قالوا لا يمكنك ان تكون معاصرا دون معرفة ذاتية للتراث.
يقول متحدثا عن تأثره بأبي تمام وإديث سيتول: " حين أستعرض هذا التاريخ الطويل من التأثر أجد أبا تمام وإديث سيتول هما الغالبان :فحين أراجع إنتاجي الشعري ولاسيما في مرحلته الأخيرة أجد أثر هذين الشاعرين واضحا، فالطريقة التي أكتب بها أغلب قصائدي الآن هي مزيج من طريقة أبي تمام وإديث سيتول: إدخال عنصر الثقافة والاستعانة بالأساطير والتاريخ والتضمين في كتابة الشعر."(27) فحاول السياب أن يستغل ما توافر له من معطيات غربية وعربية في الوقت نفسه، ليركبها ويجعلها أكثر نضجا واكتمالا، ومن ثم، يقيم أسس التطور الشعري من عمق بنيته الثقافية والمعرفية ، ليحقق المسعى المبذول لتجديد القصيدة العربية المرتبطة ارتباطا مباشرا بالثقافة الأدبية العربية، وليحول الشعر من مستوى المألوف في اللغة والخيال والمعرفة والصورة وماشابه ذلك إلى مستوى التجديد في الرؤيا والحلم والرمز والخطاب والبعد والاستشراف.بكلمات أخرى، كان السياب يبتغي بلورة مصطلح شعري يتباعد شيئا فشيئا عن سلطة القديم والتقليدي، ويسعى لتوليد طاقة شعرية هائلة وإمكانات لغوية مدهشة.وبذلك ، نقول إن التأثر بشكل أو بآخر بشاعر في مستوى إليوت أو رامبو أو بودلير أو المتنبي أو أبو العلاء المعري أو أدونيس ليس شيئا معيبا، المهم هو توظيف هذا التأثر توظيفا إبداعيا نابعا من الذات، وهذا هو الذي استطاع الشاعر العراقي تحقيقه،حيث تعامل مع النموذج الغربي من منطق مغاير، موطدا علاقته مع هويته الثقافية وانتمائه الحضاري مستخدما أكثر من قناة. "وقد قاده هذا الوفاء، إلى استلهام المصادر الميثولوجية والحضارية لهذه البلاد التي كانت واحدة من أهم مهود الحضارة الإنسانية.
وإذا كان الشاعر لا يتردد في الاغتراف من مصادر التاريخ الشامل والأسطورة الإغريقية أو أساطير الشرق الأقصى ، فإن الخيط الرئيس في أعماله يظل مرتبطا بجذور الموروث القومي."(28) هنا ، يمكن القول إن الالتفات إلى تقنيات الشعر الغربي كانت مرهونة بظروف سياسية واجتماعية وحضارية وفكرية، وبآفاق شعرية طموحة لتأسيس خطاب شعري عربي جديد يتأطر بعناصر المعاصرة والحداثة والتمرد والتطوير وبدمج الخصوصية في الكونية، وبالتفاعل مع الفكر الإنساني قصد توسيع الفكر المحلي والقطري.ونضرب مثالا على الصورة ذات الأنماط الأسطورية العليا بقصيدة "جيكور والمدينة" لبدر شاكر السياب، حيث ينعكس تأثير إليوت في "الأرض الخرابّ، غير أن من الإنصاف القول إن مدينة السياب تحولت في بيئتها الشعورية والأدائية الجديدة إلى مدينة مغايرة في جوهرها للمدينة الإليوتية.(29)

وخلاصة القول، إن الشاعر العربي المعاصر استخدم كل الثقافات والمعارف والأدوات لكي يعبر تعبيرا حضاريا عن الاحتياجات الروحية والجمالية العميقة الجذور في النفس العربية المعاصرة، فمن أجل أن يتمكن من الاستجابة لظروفه الموضوعية الخاصة، ومن الاستجابة لشروط الإبداع والتحول والحداثة، قرأ وتأثر لكي يتطور ، ثم اختار فوظف لكي يتحرر ويستقل عن الغرب.، ولكي يغير واقعه الاجتماعي والسياسي بل والثقافي أيضا. انطلاقا من خصوصية حيواته المتعددة، ولكي تبقى تجربته دائما تجربة اللقاء بين عالم يتزعمه الغرب، وبين عالم عربي يستشرف المستقبل لعله يلتحق بالركب.، ويفتح مجراه الخاص الذي يقيه من التلاشي في غيره أو الاهتداء به. لكن تبقى سمة الشاعر العربي المعاصر كامنة في تشبثه بقيم جوار الثقافات والحضارات والأديان والمعارف من أجل التعايش والتسامح والسلام.

لائحة المراجع:

1-انظر الكتب الآتية:مقومات الشعر العربي الحديث والمعاصر: تأليف د. محمود شوكت- د. رجاء عيد، كذلك، كتاب شعرنا الحديث إلى أين؟تأليف د.غالي شكري، وكتاب الدكتور عبدالواحد لؤلؤة، النفخ في الرماد.وكتاب ، إليوت وأثره على عبدالصبور والسياب، تأليف الدكتور محمد شاهين، وآخرين.

2- أدونيس، الثابت والمتحول، بحث في الأتباع والإبداع عند العرب،الجزء الثالث،صدمة الحداثة ،الطبعة الثانية 1979، منشورات دار العودة،بيروت،ص40-41.

3-المقصود هنا،كتاب الدكتور إبراهيم السعافين،مدرسة الإحياء والتراث.

4-أدونيس،ٍرأس اللغة جسم الصحراء،الطبعة الأولى2008منشورات دار الساقي،بيروت ،ص287.

5-د.عبدالحميد جيدة،الاتجاهات الجديدة في الشعر العربي المعاصر، الطبعة الأولى 1980مؤسسة نوفل،لبنان،ص13,

6-يقصد بالنص الغائب تلك الرموز والدلالات والمراجع والإشارات التي يتضمنها النص الحاضر دون الإشارة إليها بشكل صريح أو مباشر.

7-انظر مقال الدكتور محمد شريح،تجربة مجلة شعر واختراق جدار اللغة،مجلة الفكر العربي المعاصر،العدد 44-45 ،ربيع 1987،ص91.

8-مأخوذ من كتاب الدكتور كمال خير بك،حركية الحداثة في الشعر العربي المعاصر،الطبعة الثانية 1982،منشورات دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع،بيروت،ًص68-69.

9-أدونيس،الشعرية العربية،الطبعة الأولى 1988،دار العودة،بيروت،ص86-87.

10-د,محمد شاهين،إليوت وأثره على عبدالصبور والسياب،الطبعة الأولى ،1992 منشورات المؤسسة العربية للدراسات والنشر،بيروت،ص65.

11-ماهر شفيق فريد،أثر إليوت في الأدب العربي الحديث،مجلة فصول،المجلد الأول،العدد الرابع،يوليو 1981،ص173,

12-المقصود هنا،كتاب كاظم جهاد،أدونيس منتحلا،الطبعة الأولى1991،دار إفرقيا الشرق،المغرب.

13-الدكتور محمد بنيس،الشعر العربي الحديث،بنياته وإبدالاتها،الجزء الثالث،الشعر العربي المعاصر،الطبعة الأولى 1991،منشورات دار توبقال للنشر،الدار البيضاء،ً206.

14-المؤلف نفسه،المرجع نفسه،ًص204.

15-د.جمال حيدر،الصيف الأخير،دراسة في أعمال يانيس ريتسوس الإبداعية،الطبعة الأولى1997،منشورات المركز الثقافي العربي،بيروت،ص115.

16-د.عاطف فضول،النظرية الشعرية عند إليوت وأدونيس،ترجمة:أسامة إسبر،الطبعة الأولى 2000،منشورات المجلس الأعلى للثقافة،القاهرة،ً81.

17-د.محمد عواد،الأرض اليباب وأنشودة المطر،معالم بارزة في طريق الحداثة،مجلة فصول،الجزء الثاني،المجلد الخامس عشر،العدد الثالث،خريف 1996،ً131.

18-والت ويتمان،ديوان أوراق العشب،ترجمة:سعدي يوسف،طبعة جديدة منقحة،2011،منشورات دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر،دمشق،سوريا.

19-د.محمد بنيس،الشعر العربي الحديث،الشعر المعاصر،مرجع سابق،ًص20.

20-ديوان بدر شاكر السياب،أنشودة المطر،الطلعة الثانية،1981،منشورات دار العودة،بيروت.يقول عنه الدكتور كمال خيربك:"أنشودة المطر هي الديوان الذي نعثر فيه على الإهاب العملاق للشاعر،وعلى التركيبة التي تجمع تجاربه السابقة في صيغة أصيلة كلية الجدة تقريبا،بالنسبة للشعر العربي،يمكن أعتبار أنشودة المطر بمثابة القمة في تطور السياب,"انظر الكتاب المذكور،ًمرجع سابق،ص46.

21-د.محمد عواد،مجلة فصول،1996،مرجع سابق،ص131.

22-د,كمال خيربك،جركية الحداثة،مرجع سابق،ًص47.

23-د.إحسان عباس،اتجاهات الشعر العربي المعاصر،الطبعة الثانية 1992،دار الشروق للنشر والتوزيع،عمان،الأردن،ً128.

24-للتفصيل أكثر في هذا ،أنظر كتاب الدكتور محمد شاهين،الأدب والأسطورة،الطبعة العربية الأولى 1996،منشورات المؤسسة العربية للدراسات والنشر،بيروت،من الصفحة43 إلى الصفحة56.

25-المرجع نفسه،ص82,

26-د.علي عشري زايد،استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر،الطبعة الأولى 1978،منشورات الشركة العامة للنشر والتوزيع والإعلان،طرابلس،لبنان،ص55.

27-عن كتاب محمود العبطة، بدر شاكر السياب، دراسة في حياته وشعره، الطبعة الأولى 1965، مطبعة المعارف، بغداد، ص83.

28- د, كمال خير بك، حركية الحداثة، مرجع سابق، ص52.

29- د. خلدون الشمعة، مجلة فصول،حريف1996،ً ص69

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى