دعوة الحق - أدب المغرب العربي المكتوب بالفرنسية.. تر: حسن المنيعي

إن كل تأمل في مستقبل الأدب العربي (1) لا بد أن يكون مقرونا بتخمينات في مشكلة أصوله، إذ كما أمكن تحديد هذه الأصول كان ذلك عاملا مساعدا لفهم الوضع الحالي لهذا الأدب، وتسيطر الخطوط العريضة لمراحل تطوره. وعليه فإن الأدب المغربي بحكمه وليد مرحلة الاحتلال الفرنسي، يفرض نفسه كمظهر من المظاهر المولدة ليقظة الثقافة والسياسة في المغرب العربي حيث تتمركز مجاليه الأولية الهامة فيما بين الحربين، وحيث أن المقابلات السياسية بين مندوب الرأي الإسلامي من جهة، والإدارة والرأي الفرنسي من جهة أخرى في تلك الفترة،كانت تشير آراء جديدة وموجة من الطفرات الحديثة المتولدة، وتبادلا عميقا بين الهيئات المفكرة العاملة داخل المجموعة الإسلامية، التي مل أن استيقظت حتى أخذت تفرض أفرادها، من العلماء والسياسيين والمجددين والطلبة، وتحثهم على القيام بدور التمثيل الوطني أمام الضمير الفرنسي وإن كانت غير قادرة في البدء على التلفظ بمطالبها.
هذا وأمام النشاطات السياسية اللازمة ظهرت العبارة الأدبية كمساهمة ثمينة في حركة تطور المغرب العربي، كما أن أدبها المكتوب باللغة الفرنسية أخذ يستمد مواضيعه من القضايا الاجتماعية والسياسية؛ بل كان من فضائله تحديد مكانه الفرد المغربي في نطاق الحياة العاملة بمشاكله وتحولاته وآماله العديدة..
كذلك كان يحاول تحطيم «الحاجز القوي» الذي يفصل العنصر الأوربي عن المجتمع الأصلي، والتأثير في الإحساس الفرنسي بإعطائه صورة واقعية عن مجتمع إنساني يقاسي كل أنواع الاحتقار والنسيان.
من هنا كانت مجالي هذا لأدب تنحصر في نطاق المحاولة السياسية الاجتماعية التي تضع المشكل بصراحة (مشكل الأهالي) أو القضية ذات الأطروحة كمل نلتمس ذلك عند «فرحات عباس» في مؤلفيه «الجزائري الفتي» و«من المستعمرة إلى لإقليم» وكذا عند «رزالية بن التهامي» في كتابه «جحيم القصبة».
إلى جانب ذلك تقف محاولات ومشاهدات أخرى وتصنيفات مجزأة ترمي كلية إلى إثارة شعور الفرنسيين وحملهم على مراعاة مصير الأهالي اليائسين،وكذا إلى حفز المواطنين إلى اتخاذ وعي كامل بسوء حالهم. ونذكر في هذا المجال جهود أعضاء «صوت البسطاء» الذين قاموا بنشاط ملحوظ في الثلاثين الأخيرة عن إصدار مجلتهم ذات الاتجاه التربوي، التي فادت الجهاد في سبيل تحقيق التطور الثقافي للشعب الجزائري، والتي كانت مدعاة لبروز العديد من الكتاب الذين دافعوا عن القضية المقدسة. أما عدا هذه المجلة الفرنسية فيما بين الحربين الأخيرين، كصوت الأهالي، وذوت الشعب، والدفاع، و«التفاهم الفرنسي الإسلامي» التي كان يخرجها لدكتور صلاح بنجلول ومحمد عزيز كسوس، والتي مهدت سبيل انبثاق الأدب الصحيح الذي عرفته الجزائر في فجر الحرب العالمية الثانية..
هذا التسطير الموجز لا ينفي وجود تشعب الآثار المنتقبة فيما بيت الحربين أو اختلافها، بل يشير إلى أن أدبا مغربيا مكتوبا باللغة الفرنسية بدأ يأخذ شكلا ثابتا، ويظهر تشبثا بأصوله رغم لغته الأجنبية، ساعيا في ذلك إلى طرح الحالة المصيرية لأبناء المغرب العربي الكبير؛ ذلك أن هذا الأدب كان يقدم نفسه أولا كشاهد على الواقع، ثم أصبحت القضايا الاجتماعية والثقافية والسياسية تمده فيما بعد الحرب العالمية الثانية بمواضيع جديدة غير التي كان يعتني بمعالجتها : كقضية الإرث السلفي ومظاهر الفلكرور، ومحاولة تطور طبقات المجتمع، ومشكلة الجوع، وتطور المرأة، ومعضلة الزواج المشترك، وشؤون المساواة في الحقوق المدنية، والبحث عن وسائل الوصول إلى تناعم في التعايش مع الأوربيين ومحاذاتهم.. كل هذه القضايا أصبحت تدرس من زاوية ضيقة بعد أن حلت محلها قضية ثانية مستعجلة، لها علاقة بالرأي الإسلامي العام الساعي إلى الاستفادة، والتكوين، والعمل بعد أن تقلب في أوضاع سلبية فتاكة.
هذا وفي غمرة ذلك التطور الذي أصبح يفرض وجوده فيما بين 1945، أخذ دور الأعيان من رجال السياسة ينقرض شيئا فشيئا، ليعوض بحركة ذات أنفاس طلائعية تتزعمها جماعة من الأدباء الشباب، كانوا يتوقعون إلى ابتكار مواضيع جديدة ذات مضامين حديثة تتعدى حمولتها أحداث التاريخ. وفعلا تغيرت معالم الأدب في المغرب العربي، وأصبحت جد ناضجة، خصوصا في السنوات العشر الأولى التي جاءت فيما بعد الحرب العالمية الثانية حيث كانت المواضيع الملتصقة بمستقبلية القطر ضئيلة تشع بجانبها اختيارات جديدة تقوم على تقديم صورة لطيفة، لفرنسا والعالم بأسره، عن مغرب يقظ يقوم بعملية بحث عن هويته وذاتيته الأصيلة في نطاق الأحداث المتشابكة، وتشعب المظاهر المتناقضة الباطلة المشوشة.
بيد أن تلك العملية، وإن كانت فردية بالنسبة لكل أديب فإنها تؤدي إلى بح جماعي؛ كما أنها كانت تفرض سلما من المستندات تختلف باختلاف تكوين الأديب، وطبائعه،وميوله الثقافي والعقائدي وغير ذلك. لذلك فإذا كان هؤلاء الأدباء يطالبون بمعالجة القضايا المغرب العربي، ويعرضون علينا آثارا ذات نفس مغربي في الجوهر والإيقاع، فإننا لا نستطيع التخلي عن رأينا المتخذ في شأنهم : من أنهم أصحاب تكوين فرنسي في معظمهم، ومن أن آثارهم كانت لا بد أن تتغذى من منبع فنسي لا في الناحية اللغوية فحسب، بل في العناصر الأساسية المكونة لمادة الأدب الفرنسي. وإلا فهل يعقل غير ذلك؟ أو هل يمكن الاعتقاد أن يكون هؤلاء قد احتضنوا اللغة الفرنسية، ومكثوا بعيدين عن الإيقاعات الثقافية والعاطفية التي تنطوي عليها تلك اللغة؟ بل هل في مقدورتهم أن يصدوا عنهم كل إرهاص أدب فرنسي، وهم الذين تكونوا تكوينا فرنسيا محضا كان حافزا إلى تفتق مواهبهم واتجاههم الأدبي؟...
مهما كان الأمر فإنه تجدر الإشارة إلى فكرة قائمة على شيء من الملاحظة الدقيقة : وهو أن الطريقة التي ينهجها كل كاتب من هؤلاء في مسيرة التعبير الفرنسي تتعلق بمدى اختياراته الثقافية. فإذا كانت الكتابة عند بعضهم تدفعنا إلى الاعتقاد أن الفرنسية ليست غير لغة مستعارة؛ فإنها على العكس تأتي عند غيرهم حصيلة هضم تام لتكل اللغة وثمرة استيعاب لأساليبها وقواليبها. وبالفعل، فإنه وسط تلك الحركة الثقافية التي زعزعت أركان المغرب العربي غداة الحرب العالمية الثانية ـ والتي كانت قائمة في الجزائر على يد أدباء متمسكين باللغة العربية من أمثال الشاعر محمد السعيد والكاتب رضا حوحو، وعبد الله نقلي، وأحمد بوزوز، والشيخ البشير الإبراهيمي، وكذا الأدباء الذين جعلوا من الفرنسية أداة اختيار ـ أصبحنا نلاحظ في الجزائر اتجاها آخر يقوم على الفرنسية الصرف حيث كان رواده يتشبثون بلغة الدخيل الأجنبي، ويعتزون بثقافته، ويفتخرون بمتانتها وبوجودها كمنبع دائم يوفر لهم كل إلهام، ويمدهم بكل المصادر التي يحتاجون إليها.
وبما أنه كان هناك أصحاب التعبير العربي الذين كانوا يون في اللغة العربية الأداة السليمة لوضع أدب اختبار ترمي إلى إبراز الفعالية، دون الوقوع في حيز العاطفة أو التفاهة، فقد كان هناك أيضا جانب المفتونين بالثقافة الفرنسية الذين كانوا يقولون بأن الجزائر، أو إفريقيا الشمالية «تستحق أن تكون إحدى مقاطعات الآداب الفرنسية» .. ومن ثم فإن أدب المغرب العربي كلن على عتبة تباعد خطير في الآراء واختلافات عديدة برز أكثرها فيما بعد في شكل مطاحنات وخصومات.

اختلاف الآراء :
هذا وفي خضم الفرحة العابرة التي سادت منذ الأربعينيات الأخيرة، وفي غضون السنوات التي تلت اندلاع الثورة الجزائرية، كانت الاتجاهات الرامية إلى بث روح السمو الإنساني والثقافي في الشعب الجزائري ـ ضمن الإطار الفرنسي ـ قد مكنت الأدباء الصاعدين والشعراء المحليين من التفكير في إمكانية المشاركة بصورة فعالة، في وضع أدب فرنسي جزائري حيث طفت ظاهرة جديدة تهدف إلى تحقيق نوع من التآخي بين رجال الأدب على اختلاف اعتقاداتهم، وبما في ذلك المسلم، والإسرائيلي والفرنسي. وحيث أجمع الكل على أن الثقافة الفرنسية كانت هي الطريق الوحيد لازدهار الحركات الفكرية بالنسبة للشعب الجزائري. وهكذا، وتبعا لذلك فقد اهتم أصحاب هذا الاتجاه بالفلكلور الوطني الذي كان يعتبر أقوى رافد لذلك الأدب الإسلامي ـ الفرنسي، وتجاهلوا حركة التجديد العميق التي كان يقوم بها العلماء المسلمون آنذاك، والتي ساعدت على ظهور نهضة في الآداب العربية تحت شعار الوطنية والقومية العربية : الشيء الذي دفع هؤلاء المتفرنسين إلى الإقرار في كل بساطة أن الأدب الكلاسيكي العربي كان «أدبا ميتا» (كاتب ياسين).
وبذلك كسب هؤلاء رعاية حظائر أدبية خاصة، ونالوا مساعدة جماعات عقائدية من الأحرار والتقدميين والشيوعيين وغيرهم. بل تكفل أمر انطلاقتهم نحو الشهرة أدباء عظام من أمثال كامو، وساتر، وعمانويل روبلس؛ كما احتضنتهم مجلات ذات سمعة فائقة كمجلة الفكر والأزمة الحديثة، والآداب الجديدة، والنقد الحديث، زيادة على ما قم لهم من أوسمة وجوائز كأدباء فرنسيين.
من خلال ذلك نرى أن أدب المغرب العربي المكتوب باللغة الفرنسية كان متأرجحا بين البحث عن طريق مستقل، أو الانقياد إلى مسايرة اتجاهات الأدب الفرنسي. وفعلا، كان من بين أدباء هذا للقطر من توفرت لديه كل العناصر المذكرة بالإحساس الفرنسي، قد جعل النقاد يعتبرونهم ـ دون أدنى تردد ـ من شرذمة الأدباء الفرنسيين، في حين كان هؤلاء الأدباء يدركون بكل وعي مطالب مواطنهم في الدفاع عن قضيتهم مهما تنكر أولئك لآثارهم. ونذكر في هذا الصدد الضجة التي أثارهم «مولود معمري» بكتابه «التل المنسي» الذي توجهته الأوساط الفرنسية الرسمية، واحتفى به رجال النقد في فرنسا مما حفز المواطنين من الجزائريين إلى القيام برد فعل في الموضوع، واعتبار ذلك مجرد صنيعة أساسها النفاق والمجاراة... هذه الفترة تشير بحق إلى الغموض الذي كان يطبع بعض الآثار المغربية المكتوبة باللغة الفرنسية لأنها كانت تعرض في الحين نفسه على وسط أصلي له أذواقه ومطالبه الخاصة وعلى جمهور أجنبي يتعدى نطاق المواطن الأصلي ويبحث على الحقيقة الأدبية في ثنايا تلك الآثار التي تبدو للناقد ـ حسب الزاوية التي تنتصب فيها ـ إما قوية النفس المغربي أو ضئيلته...
ثم إن العبارة نفسها هي التي كانت تفرض ذلك الغموض؛ غذ، أليس من الممكن أن يظهر ذلك الأدب في يوم ما كان استمرار لعهد الاستعمار في مغرب استرجع استقلاله الكلي، وسهر على تعريب جميع مرافق الحياة؟ أو يكون أدبا مشبوها فيه، في حالة ما إذا كانت آثاره غير ساعية للتضحية بالحقيقة الأدبية، لاقتناء الفعالية التي يطالب بها الحكم أو الرأي العام، أو في حالة ما إذا كانت غير عابثة بالاستجابة إلى المتطلبات العقائدية المحلية، وإنما ساعية إلى إرضاء مجموعة إنسانية واسعة؟.
هنا نلمس جانب الدعائم السيكولوجية لها الأدب المكتوب بالفرنسية الذي لا يلزمه أن يكون مخلصا للحقائق المغربية، ساعيا للاندماج أو التوغل في الحياة الثقافية للمغرب العربي فحسب، بل يلزمه على الخصوص المطالبة بدعامة سيكولوجية واسعة النطاق للمحافظة على شرعية وأسباب وجوده لأن المظهر الثقافي للمغرب يتغير يوما بعد يوم، فحيث يسود التعريب بجاني اللغة الفرنسية وتبدو بعض اللغات الأجنبية الحية قوية التأثير، لما تؤديه من دور أساسي في تكوين الشباب من الناحية التقنية والثقافية.

الدعائم السيكولوجية :
كل ما سبق من الملاحظات يفرض مستقبلية الثقافة الفرنسية في المغرب العربي، وفي الوقت معا مستقبلية قضية الأدب المكتوب باللغة الفرنسية. وعليه يجب اعتبار بعض الاستنتاجات العديدة ومراعاة الاختيارات السياسية الثقافية التي أكدها في وضوح كل المشرعين الفنيين؛ كما أنه يجب أخذ الجزائر كقاعدة لتلك الحقائق المقبولة لأنها البلد الذي كان فيه ذلك الأدب كثي الخصوبة،ولأنها المعسكر الذي ترابط فيه حظوظه المستقبلية؛ تلك الحظوظ التي يتعلق مصيرها بمدى انغراسها في الوعي الوطني، أي بمدى انتشار الثقافة الفرنسية ولغتها في الجزائر. ويمكننا في هذا المجال أن نأتي بأحكام تقريبية فيما يخص درجة توغل الثقافة الفرنسية في الجزائر وذلك بالاعتماد على الإحصائيات المشيرة إلى انتشار اللغة الفرنسية خلال سنة 1955 سواء في المستوى التعليمي أو ففي المستوى عموم السكان الجزائريين :

1) التعليم الابتدائي :
كان عدد الأطفال المسلمين المسجلين في المدرسة الابتدائية لا يتعدى 293117 من مجموع 1.900.000 (أي أنهم كانوا بنسبة 15%).

2) التعليم الثانوي :
كان عدد التلاميذ من المسلمين حوالي 6.260 من مجموع 34.412 (أي أنهم كانوا بنسبـــــة 18%).

3) التعليم العالي :
من مجموع 5.174 طالب جامعي، كان عدد الطلاب المسلمين لا يتعدى 591 طالب (وبديهي أن هذا العدد كان يقتصر على الطلاب المنخرطين في جامعة الجزائر، إذ كان بجانبهم مئات من الطلاب الآخرين الموزعين على مختلف الجامعات الفرنسية).
من هذه الإحصائيات، يتبين لنا تسعة أعشار من السكان المسلمين في الجزائر كانت تجهل اللغة الفرنسية، بينما كان العشر الباقي يضم بعض الأفراد الذين كانت مداركهم للفرنسية لا تتعدى المرحلة الأولى. هذا، وإذا فرضنا أن الوضع العام لهذه اللغة كان تطور في الجزائر منذ سنة 1955، فإننا لن نهمل أيضا تزايد السكان المتوازي لذلك التطور، ولا مظاهر النقصان المتكدسة بسبب الحرب. وعليه فإن الأرقام المشار إليها تدعو إلى التأمل لأنها تعطينا فكرة ثابتة عن عشاق الأدب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية. وإذا ما أضفنا إليها اعتبارات سيكولوجية، فإننا نلاحظ مثلا تأثير الحرب الجزائرية التي فتحت ثغرة هامة في نطاق مكانة اللغة العربية كانت إلى حد ذلك الوقت ينحصر دورها في شؤون القضاء والدين، قبل أن تكون اللغة الرسمية عند جبهة التحرير، وتصبح كاللغة الفرنسية أداة للدعاية ووسيلة لضبط مخططات الثورة.
هذا وقد أصبحت اللغة الفرنسية أثر اندلاع حرب الجزائر لغة ملعونة، شأنها شأن السياسة التي تعبر عنها، حيث تنكر لها الجزائريون خصوصا بعد إعلان استقلال البلاد، الذي تولد عنه اتجاه آخر : كان قائما على تحرر ثقافي ذاتي، له أهدافه الخاصة تشع منها المطالب الثقافية للشعب الجزائري التي وضعت مبادئها أثناء اجتماع طرابلس سنة 1962 والتي تنص على «أن الثقافة الجزائرية ستكون وطنية ثورية علمية يقوم دورها على تمكين اللغة العربية ـ كوسيلة معبرة عن القيم الثقافية للبلاد ـ من فعاليتها كلغة حضارية، واسترجاع كرامتها... لذلك فإن تلك الثقافة، ستسهر على البحث في أسس التراث الوطني للرفع من قيمته، والتعريف به وبازدواجية إنسانيته القديمة والحديثة، قصد تركيزه ثاانية في الحياة الثقافية، وفي ميدان تهذيب الإحساس الشعبي.. كما أنها ستحارب العالمية الثقافية، والتأثيرات الغربية التي كانت سببا في دفع كثير من الجزائريين إلى التعبير عن كراهيتهم للقيم الوطنية ولغة البلاد...».
هذا الاتجاه المعرب عنه بهذا النص، وبنصوص عقائدية أخرى لها علاقة بالثقافة الجديدة، يحملنا التفكير في الخطوط الحقيقية للثقافة الفرنسية في الجزائر المتقلبة إذ أن الظروف الحالية تعمل أكيد لصالح استمرار تلطك الثقافة، بل ولتطورها حينما نرى رجال السياسة وأعضاء الجهاز الإداري يلتجئون بكل سهولة إلى اللغة الفرنسية للتعبير عن نواياهم.. لذا فإن الثقافة الفرنسية هي ما عليه الآن من الانتشار في الجزائر، فكيف سيكون أمرها في الغد؟ إن الأمر بسيط بحيث يمكننا من الساعة الراهنة أن نتنبأ باضمحلال متطور للأثر الثقافي الفرنسي؛ لأن شيوع اللغة العربية وتعريب الابتدائي ضمن برنامج التعليم سيعملان لا محالة على تبديل اللغة الفرنسية إلى أن تبرز هذه الأخيرة كوسيلة ثانية لمتابعة الدراسات إلى جانب اللغة العربية. كما أن الأدب المحلي المكتوب بها سوف بغدو مجرد ترف بورجوازي بالنسبة لإفراد نخبة من المثقفين لا زالوا يحتفظون في تستر بفكرة «الجزائر الفرنسية». هذا ونحن نأمل ألا تكون الاختيارات الثقافية ذات صبغة شوفينية أو تعصب أيديولوجي، ولكنه كيفما كان الأمر فإن عطف الجزائريين على اللغة الفرنسية في المستقبل سوف لا يتعدى اعتبارها كأداة لتحقيق تكوين علمي وفني. كما أن الأدب المغربي الفرنسي سيكون مضطر البحث عن جمهور إذا هو لم يغد أدب قضية ونقاش بصورة مستمرة.
إذا كان الأمر كذلك فنحن نتساءل كيف يمكن للأدب المغربي أن يستفيد طويلا من جمهور قارئ، إن لم يكن يخص جانب الشعب، فبالأحرى أقليته، ليبرز مغربيته ويؤكد شرعية وجوده في البلد؟
هنا نذكر قضية الأدب المكتوب باللغة الفرنسية في بعض الدول العربية حيث نعلم أنه في مصر وسوريا ولبنان لا زالت الثقافة الفرنسية تحتفظ بمجموعة من المعجبين بأدبها في تلك البلدان. وبما أني لا أقصد في هذا المجال، الحديث عن الظاهرة التاريخية التي تفسد ذلك، إني أتسرع إلى القول : بأن الأدب المكتوب بالفرنسية كان قد عرف أعلاما قليلين، كما أنه لقي إعجابا من لدن فئة قليلة من المتذوقين بحيث كانت هناك مدرسة أدبية في مصر تمثلها «مجلة القاهرة»، إلا أنه بحكم انفرادها عن الأدب المعاصر فقد كانت ضئيلة الأثر سواء في الداخل أو الخارج. بيد أنها رغم ذلك عملت على التعريف بأحمد رسيم كشاعر موهوب كسب شهرة لارتباطه بمعطيات البلد وبقائه كشاعر عربي، وإن كان شديد الهيام بالثقافة الفرنسية.
إلى جانب أحمد رسيم كان هناك «اليان ج. فنبير» الذي استطاع بواسطة رائعته «مجنون الإله» أن يأخذ مكانه بجانب الأدباء الفرنسيين المعاصرين. وكذلك الأمر بالشاعر السوري «فؤاد جبريل نفاح» الذي اشتهر بكتابه «عاشقا الأمس» لكونه كان تراثا فرنسيا بعيدا عن الإشارة إلى أصول الشاعر. أما «جورج شحادة» الشاعر اللبناني والكاتب المسرحي فقد حصره ماكس فوشي في الأنطلوجية التي وضعها للتعريف بأعلام الشعر الفرنسي وأمرائه، على أن اسم هذا الأديب اللبناني لا يذكر إلا في أوساط بعض المثقفين من مواطنيه. لذلك أليس لنا أن نقرر بأن الأدب المكتوب باللغة الفرنسية في الدول العربية له مصير مشترك وأن عليه أن يكون مندمجا كليا في الآداب الفرنسية، اللهم إلا إذا كان قويا، حيا، حقيقي الطابع بحيث يمكن إدماجه ضد الثقافات الوطنية؟
مهما كان أمر هذا الأدب، ومهما بعد عن جذوره كما قيل في مجلات عديدة فإنه، إذا أراد أن يكون مخلصا لرسالته، أو يتجنب مطارحات في محتوياته، وجب على الكاتب المغربي أن يكون فيه هو نفسه وذاته حيث تقهر لهجته الصريحة كل الاحتياجات، وكل التأثيرات القائمة على الضغط إلى أن يتمكن مواطنوه من العثور على هويتهم وأنفسهم عبر آثاره.. حينذاك نستطيع نحن التفكير أن هذا الكاتب المغربي الجاري وراء التعبير الفرنسي يمكنه أن يطالب بشرعية دوره في الحياة الثقافية ضمن المجموعة الإنسانية التي يتعايش معها، كما يمكن لأدبه أن يكون علامة على تلك الحيوية الثقافية السائدة في «مغرب عربي» استطاع تحقيق أهدافه السياسية والاجتماعية، وجعل من أدبه اتجاها إنسانيا يبرز انفتاحه لحضارة البحر الأبيض المتوسط وتطلعه إليها كحضارة مستقبلية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أدب المغرب العربي.


دعوة الحق
100 العدد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى