محمد فري - الحاج القوالبي

كانت المرة الأولى التي رأيت فيها الحاج لقوالبي، عندما كان يخوض حملته الانتخابية في سباقه نحو القبة، زارنا بالحي تسبقه ابتسامته، ثرثرمعنا، ووعدنا بأشياء كثيرة، بما فيها التي يصعب تحقيقها، ثم اختفى ولم نعد نراه إلافي الصور المبثوثة، متحركة أو ثابتة ضمن مناسبات معينة..
لا أدري لماذا يعرفه الناس بالقوالبي، ربما لكثرة مقالبه وحيله، أو لأنه يملك معملا ينتج قوالب سكريتخاطفها ناس البادية بالخصوص، لأنهم لا يشربون الشاي إلا بسكر القالب، والشاي والخبز الحاف غذاء رئيسي بالنسبة لهم، لذا لا تساهل في نوع السكر المستعمل في الشاي، وقوالب الحاج لقوالبي سلعة رائجة في الأسواق، وهذا ما يؤدي إلى ارتفاع ثمن قالب السكر باستمرار، وبالتالي إلى تطلعات الحاج ليقطن بالقبة، وقد تحقق مراده، رغم خشونة السباق الذي شارك فيه، كان خصومه لا يستهان بهم، منهم الحاج المسامري وصاحب اللحية واللسان الطويل والشاب العاطل.. لكنه تغلب عليهم جميعا، بما فيهم الشاب الذي كان قاب قوسين أو أدنى من خط الوصول، لولا براعة لقوالبي في نصب القوالب، قيل آنذاك إنه عرقل جري الشاب القوي بقالب سكر كسر قدمه وأدماها في اللحظة الأخيرة (1)، مماجعل لقوالبي يستغل الفرصة وينال قصب السبق ويتوج بالطربوش الأحمر والسلهام الأبيض، ويحتل مقعدا وثيرا داخل القبة التي نعم بمناخها الصحي.. كان ذلك قبل ست سنوات،نسينا خلالها الحاج وقوالبه، ونسينا معه وعوده..
ثم ظهر فجأة، وزار حينا من جديد، وبالمناسبة فحينا شعبي متواضع، يقطن سكانه بمنازل صغيرة سميت بدورالمخزن..فالمخزن هو الذي بناها لصالحهم بعد أن احترقت براريكهم الصفيحية، قيل آنذك إن يدا ضليعة هي التي تسببت في الحريق قصد إخلاء الأرض لبناء مصالح إدارية ومعامل منها معمل الحاج لقوالبي، لكنها إشاعات فقط، فالمخزن يعمل دائما لصالح المواطنين،ولولا ذلك لما بنى لهم هذه الدور، صحيح أنها دور بسيطة أدى أصحابها ثمنا معينا لكنها سترتهم وحمتهم من العراء..وما عليهم إلا أن يحمدوا الله تعالى لأن المسؤولين يفكرون فيهم، وهاهم يؤكدون ذلك في هذه الحملة التي يهتمون فيها بأصواتهم وآرائهم..وهاهو لقوالبي يطل علينا بوجهه من جديد، والغريب أنه لم يخجل بسبب غيابه عنا، بل اكتفى بابتسامته الماكرة وهو يحدثنا عن الدعوات الصالحات التي رفعها من أجلنا داخل القبة، وكيف أن رجال الله الصالحين هناك قد منحونا بركتهم وتعاطفوامعنا..
وشكر البعض منا الله على هذه الدعوات والبركات، فحتما هي دعوات مباركة ستدعم أنفسنا فيما نلاقيه من صعوبات، والعبرة في الإيمان والنيات الحسنة، وقديما قالوا " دير النية ونعس مع الحية " ورغم أن الحيات والثعابين موجودة بوفرة فلا خوف منها على الإطلاق، لأننا مزودون ببركة صلحاء القبة ودعواتهم، على الأقل هذا ماأخبرنا به لقوالبي، ولا فائدة من تكذيبه
ورغم أن البعض من ناس الحي ساورتهم بعض الشكوك في كلامه، وعبروا عن تذمرهم وسخطهم، فقد استطاع لقوالبي بحلاوة قوالب سكره أن يمتص ضجرهم، مغنيا أسطوانة الوعود، عازفا لحن الأمل والتفاؤل، رافعا الدعوات والابتهالات..

مشاهدة المرفق 22
[SIZE=3]بريشة محمد فري [/SIZE]

وبما أن ناس الحي بسطاء مسالمون طيبون، سامحوا لقوالبي وكفوا عن التعبير عن ضجرهم، ربما لأنهم ألفوا الوعود ويئسوا من كل شيء وسلموا أمرهم لواقعهم متأكدين من عدم تغير الأحوال..ويكفيهم أن يشربوا كأس شاي حلوا ينسيهم مرارةالحياة..
وصاح لقوالبي بالكلام المباح، ووزع الوعود من جديد على الجميع،وأرفقها بابتسامات محترفة ماكرة يعرف وحده سرها..

وتصايح الأطفال الذين استأجرهم، وهتفوا باسمه وببركته، ومجدوا شخصه وأفعاله، وربما كان الكثير منهم يعتبرذلك لعبة أو مغامرة يجد متعة في المشاركة فيها..
ولم ينس لقوالبي أن يستضيف الجميع للوليمة الصاخبة التي أقامها على شرفهم، وكان أعوانه قد نصبوا خيمة كبيرة بساحة الحي، اصطفت بداخلها الموائد والكراسي، ووضعت أطباق الطعام التي لم يألفها ناس الحي..وأقبل الناس أفواجا، وربما كان دافعهم الاستفادة على الأقل من وليمة شهية لا تتحقق أصنافها إلا في حلمهم، ولن يخسروا شيئا بقدومهم لأنهم خسروا منذ القديم كل شيء، بل لم يعد يهمهم شيء، وتبا لكل شيء..
وصدحت الموسيقى في أرجاء الخيمة،وتتابعت على المنصة أجواق شعبية ساهمت في التغني بأمجاد لقوالبي الذي لم ينس أن يخطب في الناس، وكالعادة وعدهم خيرا، وكالعادة وعدهم بتحسين الأوضاع بما فيها تحريركل الشعوب المحتلة..وقرأ الفاتحة وقال الناس آمين..
ثم شكر الجميع على حضورهم ومساندتهم، وبما أنه إنسان كريم منح الجميع هدايا..بما فيها قوالب السكر.. ووعد بأكثر من ذلك عند انتهاء السباق بفوزه من جديد..ولكي يضفي على الحفل جوا من المرح والدعابة، اقترح على الحاضرين لعبة تتمثل في منح الجميع فردة حذاء على أن يتم منح الفردة الثانية بعد التصريح بما يثبت المساندة بالأصوات..
وانتهى الحفل وقدشبعت البطون بأطعمة مختلفة لم يعرف الحاضرون أنواعها، وودع الحاج لقوالبي ضيوفه بعدأن أخذ منهم وعدا بالتصويت لصالحه..بل كان في قرارة نفسه متأكدا من النتيجة الإيجابية لأن الجميع لن يفرطوا في الفردة الثانية.
وفي الصباح، كان الحاج لقوالبي أول الواقفين قرب صناديق التصويت منتظرا ضيوفه من ناس الحي.. وانتظر أن يتوافد هؤلاء..وطال انتظاره ولم يحضر أحد..وبدأ القلق والانزعاج يستوليان عليه،وعندما أصابه الضجر، وأخذ منه الغضب كل مأخذ،أرسل بعض أعوانه لاستطلاع الأمر، وعاد هؤلاء بالخبر اليقين..وأكدوا أن الحي محاصر برجال الأمن والوقاية المدنية، وأن سيارات الإسعاف في جيئة ورواح من الحي إلى المستشفى..
وعندما سألهم أجابوه أن ناس الحي قد أصيبوا بحالة تسمم غذائي نتيجة طعام فاسد...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى