ألبير قصيري - خطر‮ ‬ الفانتازيا - ت‮: ‬لطفى السيد


مشاهدة المرفق 464
دارت علي حساب مدرسة المتسولين مجموعة من الحكايات المدهشة جدا‮.‬
وأصل هذه الحكايات‮ ‬يعود لنقاش دار منذ فترة‮- ‬في مقهي الباشا‮- ‬بين مُعلم التسول أبوشاوالي والمثقف توفيق جاد‮. ‬لأنه وعلي إثر هذا النقاش الذي تجول بين تفاصيل لا حصر لها،‮ ‬بصدد التجديد المزعوم،‮ ‬في جماليات النظام،‮ ‬سوف يصبح‮- ‬علي ما يبدو‮- ‬فن طلب الإحسان ثوريا،‮ ‬في كل مكان‮. ‬وذلك كان يستدعي‮ ‬افتراض الأشياء‮ ‬الأصعب تصديقا‮. ‬فالتحييز المثير للاشمئزاز من البعض والانتقادات الضارية‮ ‬من البعض الآخر كانا يجدان هنا مادة للممارسة‮. ‬وسكان أرض الثعابين،‮ ‬الذين هم جميعا مسعورون بشكل رهيب،‮ ‬قد استفادوا من وضع‮ ‬غريب كهذا ليحدثوا فضيحة ضخمة،‮ ‬حيث تفرُّد الكارثة‮ ‬كان يغويهم‮. ‬ثمة‮ ‬خطأ نفسي كان قد جعلهم‮ ‬يأخذون هذه القضية المؤسفة‮ ‬مأخذ نكتة عظيمة‮. ‬فهم أناس لا يسعون للبحث في جوهر الأشياء،‮ ‬ويقنعون بأن يستخلصوا منها نتائج مبتسرة ودائما ذات طبيعة فضائحية‮. ‬كما أنهم‮ ‬شغوفون بالشجارات التي لا نهاية لها،‮ ‬وبسوء الفهم‮ ‬غير القابل للعلاج وبكل ما يقلب الحياة بلا نهاية‮. ‬كيف سيخطر ببالهم أن اختلافات الرأي التي قامت بين أبو شاوالي والمثقف توفيق جاد كانت تخفي مشكلة اجتماعية واسعة النطاق ؟ علي الأرجح،‮ ‬واحد منهم فقط كان قد أدرك كل ذلك،‮ ‬لكنه فودة الساحر رجل شديد الغموض وبخصوص تدخله لا نستطيع أن نعول عليه علي الإطلاق‮. ‬باختصار،‮ ‬كنا نتوقع الأسوأ،‮ ‬عندما فسدت الأمور بطريقة مفاجئة‮ ‬وأوشكت أن تتحول‮ ‬لدراما‮.‬
إنه يوم كالأيام الأخري‮: ‬بطيء،‮ ‬شرس وجائع للضحايا البشرية.لا أحد يستطيع أن يقول أي نوع من الأهوال تستعد للولادة،‮ ‬ولا يستطيع تحديد نوع المصائب الجديدة التي تهدد حياة البشر‮. ‬لقد بدأ البرد منذ فترة طويلة مهمته المؤذية‮. ‬لكن‮- ‬الآن‮- ‬القلق الوحيد يأتي من كتلة السحب هذه،‮ ‬التي تتسكع‮ ‬متثاقلة،‮ ‬ومن خلفها كانت الشمس شاردة تماما‮.‬
مدفون اليدين في جيوب قفطانه،‮ ‬يعبر أبو شاوالي درب الطفل الذي يبول،‮ ‬بهيئة متجهمة ومُهَدِدة بجثة متجولة‮. ‬يطرف بشكل دائم بعينيه المريضتين ويتوقف من حين لآخر للتفكير‮. ‬إنه عجوز عمره ستون عاما،‮ ‬أشعث اللحية ذو وجه شاحب وهزيل‮. ‬يطفو شال كبير رث علي كتفيه النحيلتين كجناحين مخيفين لطائر جارح‮. ‬وساخته لم تقدم أي شيء مميز ؛ إنها تتوافق مع المحتوي القاسي الذي يحوطه‮. ‬في كل خطوة،‮ ‬كان يخاطر بالانزلاق في برك البول اللانهائية،‮ ‬الممتدة هناك كفخاخ فاحشة‮. ‬درب الطفل الذي يبول يؤدي إلي مدرسة المتسولين‮. ‬إنه الدرب الأكثر فقرا والأكثر ضيقا في المنطقة‮. ‬وأكواخه أكثر بؤسًا وأكثر قذارة من أي مكان آخر؛‮ ‬فبراميل النفط القديمة التي تُشَكِلها متصدعة وصدئة لأقصي حد‮. ‬فهي تبدو علي استعداد تام للانهيار،‮ ‬لكن الفقر الذي بناها بيديه المتوحشتين ترك عليها بصمته الخالدة‮. ‬كائنات حية تسكن هنا؛ أصواتها الكهفية تدوي وتملأ الجو بتهديدات‮ ‬غريبة‮. ‬الروائح الكريهة للِمنازعات والشكاوي الدنيئة تترشح عبر الفواصل القاتمة‮. ‬في كل مكان تتكشف العلاقات الحميمية البشعة الممددة‮ ‬و بلا أمل‮. ‬بعض أواني الطبخ متناثرة علي الأرض،‮ ‬والتي يتنصل منها أصحابها كأشياء نجسة وغير مفيدة‮. ‬النفايات‮ -‬التي لا تحصي من أجيال عديدة ماتت و نُسيت‮ - ‬تزدهر بطول هذا الدرب الملعون‮. ‬إنها نهاية العالم؛ لا يمكننا الذهاب بعيدا‮. ‬هنا وجد البؤس الإنساني مقبرته‮.‬
‮ ‬فجأة يتوقف أبو شاوالي ويطرف بعينيه‮. ‬تتخلص الشمس من كتلة السحب وهذا الإفراط المفاجيء للنور يشعره بخطر ينجم عن وضوح الأشياء‮.‬
يبدو له الخطر في شكل لون مشرق،‮ ‬مثمر بشكل فريد،‮ ‬ويشبه جرحا مفتوحا في الأرض السوداء والبائسة‮. ‬يبدو أن ذلك‮ ‬يتطور في فضاء ضبابي،‮ ‬كالحلم لا‮ ‬يمكن الإمساك به‮. ‬يقترب أبو شاوالي بحذر ويبقي لفترة طويلة يتأمل هذا الضوء الأرجواني المتدفق عبر بشاعة المادة‮ ‬غير القابلة‮ ‬للتدمير،‮ ‬والتي توجد ممثلة في مجرد رداء قطني أحمر‮. ‬لكن الذي لا يستطيع فهمه بعد،‮ ‬وجود هذا الرداء علي جسم الصغيرة نوس؛ واحدة من أفضل تلاميذه‮. ‬أنه‮ ‬شيء ما‮ ‬غيرمسبوق كالظهور المفاجيء لحماقة جماعية‮.‬
‮ ‬حينئذ تذكر أبو شاوالي أن الصغيرة نوس لم تظهر في المدرسة منذ عدة أيام‮. ‬كان يظن أنها مريضة أو ببساطة ماتت‮. ‬وها هو يقابلها الآن في زينة صاخبة،‮ ‬فالوجه نظيف،‮ ‬مبتسم،و ربما أيضا مخضب‮. ‬في النهاية طريقة‮ ‬غريبة لجلب نظر المحسنين‮. ‬انحني أبو شاوالي،‮ ‬أمسك بذراع الصغيرة نوس وشرع في جره،‮ ‬يود بهذه الحركة المؤذية أن يدرك حقيقتها الملحوظة‮. ‬ثم أخذ يسبها بطريقة فظة وفاحشة،‮ ‬ويعاملها كفاجرة و كابنة داعرة‮. ‬عندئذ بكت الصغيرة نوس و أخذت تطلق صيحات حتي أن أم عاكوش،‮ ‬أمها،‮ ‬ظهرت علي عتبة كوخها‮. ‬إنها ثرثارة بغيضة،‮ ‬لا تقهر كالجداروالتي نشهد لها كبطلة‮ ‬للعديد من المشاجرات الدامية،‮ ‬حيث إن بعض الرجال‮ ‬مع أنهم ليسوا ضعافا كانت تدوس عليهم‮ ‬وتعرضهم‮ ‬للعار في كل مكان‮. ‬أنها تصل كبحر هائج‮.‬
‮ ‬رآها‮ ‬أبوشاوالي تأتي نحوه،‮ ‬أغلق عينيه و كأنه يهرب من رؤية كارثية‮.‬
‮- ‬إنها ابنتي التي تعاملها كبنت داعرة،‮ ‬يا خرفَان‮ ‬يا عاجز؟
هز صوت أم عاكوش الدنيا‮. ‬صوت‮ ‬غير محدد الجنس،‮ ‬مرعب كالموت‮.‬
‮- ‬يا أم عاكوش‮ - ‬قال أبو شاوالي‮ - ‬ماذا تسمين هذا ؟ والله إنه لعمل مخفق‮. ‬ماذا تفعل ابنتك بهذا الزي ؟ سوف تجعلين منها عاهرة؟
‮- ‬أنت العاهر. أتعتقد أن كل الناس مثلك؟ أيها المؤخرة القذرة‮ ! ‬هيا،‮ ‬فلتترك الصغيرة هادئة‮. ‬لا تحتاج لنصائحك الوسخة‮. ‬يا ابن المتسولة‮. ‬
يريد أبو شاوالي الانسحاب من المعركة،‮ ‬لكن وعيه مشغول بصراع‮ ‬غير متكافئ‮. ‬إنه يدافع عن فكرة اجتماعية‮. ‬خلفه كل كتلة البؤساء‮. ‬طفل يتبول ليس ببعيد عن هنا،‮ ‬بصوت رشاش‮. ‬تلعب أشعة الشمس في برك البول‮.‬
‮- ‬فلتوضحي لي‮. ‬ماذا تعني هذه المسخرة‮. ‬أأصبحتي مجنونة،‮ ‬أيتها المرأة؟
‮- ‬ماذا تريد أن أوضح لك،‮ ‬أيها العجوز الخرفان‮. ‬هل نحن مدينون لك بشيء ما؟
‮- ‬من ابن الكلب الذي علمك أن تتحدثي هكذا،‮ ‬أيتها المرأة الجاهلة؟ إنها لغة أناس شبعين‮. ‬لكنك عما قريب سوف تموتين من الجوع مع أولادك‮. ‬لا تأتي لتحكي لي إذن حكاياتك‮. ‬لن أستمع لك‮.‬
‮- ‬ومن يريد التحدث معك،‮ ‬أيها المتسول القذر؟ هل نحن بحاجة لمعرفتك؟ تعالوا اسمعوا،‮ ‬يا ناس،هذا العجوز المعفن الذي يتجرأ ويسب امرأة شريفة‮.‬
بالضبط في هذه اللحظة،‮ ‬تختفي الشمس وراء كتلة السحب،‮ ‬وظل رطب يمتد في كل مكان علي الأرض‮. ‬ينظر أبو شاوالي لفستان الصغيرة نوس،‮ ‬الذي يبدو الآن فاقد البريق،أقل إشراقاً‮ ‬مما كان عليه تحت أشعة الشمس‮. ‬ذلك أفقرها إلي حد ما لكنها لاتزال تحتفظ بطابعها ذي البريق الفانتازي‮. ‬إنه فستان من القطن أحمر اللون،‮ ‬تزينه زهور صغيرة صفراء‮. ‬يري فيها أبو شاوالي تحديا حقيقيا لكل الأعراف السابقة،‮ ‬لكل مباديء التسول الثابتة‮. ‬جعلته جرأة هذه الخيانة يفترض أخطار أخري،‮ ‬أكثر اتساعا،‮ ‬أكثر لياقة‮. ‬يشعر بالدوار،‮ ‬بالمعني الحرفي‮ ‬غمرته رائحة البول النفاذة هذه،‮ ‬المفرطة في السخاء،‮ ‬والتي تؤثر عليه كالمخدر‮.‬
يبدو أن الشمس قد اختفت للأبد‮. ‬بالقرب من أحد الأكواخ رجل يجلس علي كرسي مطبخ،‮ ‬يُفلي من القمل بلا مبالاة‮. ‬تمر امرأة،‮ ‬تحمل بستلة ماء متوازنة علي رأسها‮. ‬لم تكن متعجلة؛ تمر ببطء ويلاحظ أبو شاوالي إنها حامل‮.‬
‮- ‬سأتركك،‮ ‬أيتها المرأة المنحرفة،‮ ‬قال في النهاية‮. ‬ماذا يمكنني أن أقول لك؟مخك يشبه مخ جاموسة‮. ‬وبالنسبة لهذه المستحدثات الزائلة،‮ ‬أبصق عليها‮.‬
ويبصق في اتجاه الصغيرة نوس‮.‬
‮- ‬يا سفاح،‮ ‬تصيح أم عاكوش‮. ‬تعالوا يا ناس لتروا،‮ ‬قاطع الطريق هذا الذي يهاجم البنات الصغيرة‮.‬
في البداية كان شجارا فاقدا للوعي،‮ ‬و لم يكن يبدو خطيرا‮. ‬ثم تُسمع بعض الصرخات،‮ ‬مدعومة بموجة من اللعنات القاتلة،حيث يميز المرء بقلق صوت أم عاكوش القاسي‮. ‬ثم أصبح الشجار أكثر كثافة،‮ ‬أكثر عتوا،‮ ‬كما لوكان اصطدم بقوة هائلة‮. ‬حينئذ فهم أهل المنطقة أن هذيانا انفجر في مكان ما وتسارع جميعهم باتجاه مكان الشجار‮. ‬دون السؤال عن أي شيء،‮ ‬دون أن يشغلوا أنفسهم بالسبب،‮ ‬تدخلوا في الموضوع،‮ ‬ثم أطلقوا الشتائم وأوجدوا التباسا‮ ‬غير مفيد وغير قابل للعلاج‮.‬
لا يعرف أبو شاوالي كم استمرت حفلات الزفاف المؤلمة هذه،‮ ‬ولا كيف خلص نفسه و تمكن من الهرب‮.‬
توجد مدرسة المتسولين في نهاية درب الطفل الذي يبول،‮ ‬في مكان يُدعي ميدان النخيل‮. ‬إنها كوخ حقير قديم في حالة من الانهيار،‮ ‬غارق علي نحو فظيع في الأقذار‮. ‬وفي نفس الوقت يستخدم كمسكن لـ أبو شاوالي،‮ ‬والأسبوع الماضي تم اكتشاف ثعبان ذي طول مروع فيه،‮ ‬والذي فشل‮ - ‬بالموت المبكر‮- ‬في كسر سيرالعملية الدراسية‮ ‬للعديد من المتسولين الصغار‮. ‬ومنذ ذلك،‮ ‬أصبح جميع المتسولين الصغار حذرين وينظرون من حولهم بعيون قلقة‮. ‬فالمكفوفون أنفسهم يتعلقون بزملائهم،‮ ‬ينتظرون لحظة ليلوذوا بالفرار‮. ‬إلا أن الثعبان لم يظهر ثانية ؛ نعتقد أنه قد اختبأ عند فوده،‮ ‬الساحر،‮ ‬لأننا رأينا هذا الأخير يجوب الأرض باحثا عن أطعمة‮ ‬غريبة‮.‬
في الداخل،‮ ‬يعرض الكوخ مظهرا لكهف مروع وكئيب‮. ‬أبوشاوالي جالس،‮ ‬مطوي الساقين،‮ ‬علي سرير حقير يغطيه العديد من الخرق،‮ ‬والتي يبدو بها مرصعا‮. ‬من مكانه يسيطر علي لفيف المتسولين الصغار،‮ ‬الجالسين القرفصاء في أوضاع مستسلمة بشكل‮ ‬غريب‮. ‬يغوص نظره بين هذا الركام من العراة المشينين و الأسمال الكريهة.و في يده اليمني،‮ ‬يمسك عصا يعنف بها هذه الأجسام الصغيرة‮ ‬الحزينة،‮ ‬يوجههم وأحيانا يمنحهم ما يشبه الحياة‮. ‬لم يبدأ بعدُ‮ ‬درسَه‮. ‬فالصدمة التي شهدها جعلته يتأمل ومنعته من توفير الثروات القيمة من تعليمه‮. ‬لم يتعافَ‮ ‬من ذلك بعدُ‮. ‬وفي بعض الأحيان،‮ ‬يقول بعض التهديدات المريبة ضد كائنات لا مرئية،‮ ‬حيث الشر يبدو زائدا عن الحد‮. ‬يكرر‮- ‬كثيرا وبكراهية‮ - ‬السباب الذي يمنحه هيبتة وكرامتة كمربٍ‮. ‬
إذن هذا الملعون توفيق جاد ابتكر طريقةً‮ ‬جديدةً‮ ‬لطلب الإحسان،‮ ‬طريقةً‮ ‬لا إنسانية وفانتازية،‮ ‬ليس لها أيُ‮ ‬علاقة بالواقع‮. ‬إنها حقا‮ ‬شيءٌ‮ ‬ما من درب المستحيل؛ مسخرة،‮ ‬رغبة حقيرة في السخرية من الناس‮. ‬فأبو شاوالي يشمئز من الفانتازيا،‮ ‬يتحيز للواقعية الأكثرفجاجة،‮ ‬والأكثر تجردا من الملاطفة،‮ ‬تلك التي تُمسك بحناجر الزبائن،‮ ‬تخنقهم وتجعلهم‮ ‬غير مؤهلين لأي نوع من التفاؤل‮. ‬إنه يلزمه مخلوقات تجسد في داخلها أسوأ التشوهات الجسدية،‮ ‬ملوثة بآلاف الأمراض المعدية والتي لا يرجي شفائها‮. ‬في المجمل مادة بشرية تستطيع أن تُشعرُ‮- ‬بالأسي‮- ‬القلوب الفاسدة والضمائر المشوهة للإنسانية الشَبِعَة‮. ‬ليس فقط إشعارهم بالأسي،‮ ‬ولكن أيضا إخافتهم‮. ‬لأن أبو شاوالي كان يحمل في داخله‮ - ‬متجذرة علي نحو عميق‮- ‬فكرة اجتماعية مملوءة بالثورات المظلمة‮. ‬وهذه الفكرة القاسية والمتصلبة لم تكن لتستطيع التصالح مع هذه الفانتازيات اللطيفة الناتجة عن عجز مثقَّف محبَط‮. ‬أدرك أبو شاوالي أنه لا يوجد عدو له أكبر من هذا الرجل‮. ‬ومع ذلك كانت شخصية‮ (‬جاد‮) ‬الغريبة تفتنه رغما عنه‮.‬
في أثناء الحوار الذي داربينهما‮- ‬في مقهي الباشا‮- ‬ظهر جاد‮ ‬غير واقعي في هذا اليوم‮. ‬بدا أنه يطور في واقع‮ ‬غريب،‮ ‬والذي يرجع لتأثير الحشيش،‮ ‬لأنه تعوّد‮ - ‬لفترة طويلة‮ -‬المخدرات‮. ‬في ذلك المساء بدأ في حكي قصص عسيرة ثم‮ ‬فجأة‮- ‬دون تمهيد،أعلن أن علم النفس علم رائع و أن العصر هو عصر علماء النفس‮. ‬بالتأكيد لم يفهم أحد ماذا يعني ذلك،‮ ‬حتي علي مبارك محصل الترامواي السابق،‮ ‬رغم أنه رأي وسمع الكثير من الأشياء‮. ‬وعندما سأله أبو شاوالي توضيحا،‮ ‬لم يود جاد قول أي شيء‮. ‬فقط استمر في قوله أنه هو نفسه‮ ‬قد درس هذا العلم لمدة سنوات طوال،‮ ‬مما أتاح له أن يعرف بدقة روح هذه الحشود التي تتجول في الشوارع والتي تجلس في شرفات المقاهي‮. ‬كما قال أنه استحوذ علي عقلية هذه الكائنات الزاخرة‮ ‬المتخمة‮- ‬المقيمة في نعيمها المقيت‮ - ‬بالمعارف الغريبة والمشهورة‮. ‬علي سبيل المثال،‮ ‬لقد فهم إلي أي مدي كانت هذه الكائنات لا تحب أن تُشوَّش في رؤيتها التفاؤلية للعالم،‮ ‬بواسطة العرض المتعمَد لكثير من المآسي الأليمة‮. ‬تبعا له،‮ ‬فذلك يوقظ فيهم مشاعر ندم‮ ‬غامضة‮ ‬وتسلمهم لحالة من الشر لا تصدق‮. ‬مجرد أن يأتي متسول صغير رث الثياب ليعرض عليهم مشهدَ‮ ‬جذامه أوعماه،‮ ‬يشمئزون اشمئزازا شديدا،‮ ‬ويتهيئون للسباب والإهانة‮. ‬باختصار،‮ ‬هكذا تواجدت شروط التسول مختزلة في صراع لا يتوقف و يائس‮.‬
لكن المثقف جاد كان قد وجد وسيلة لعلاج هذه الحالة المشينة،‮ ‬التي تجعل التسول عملا عدائيا و بربريا‮. ‬لقد أزال‮ - ‬بكل بساطة‮ - ‬الشفقة كوسيلة تكتيكية‮. ‬متخليا عن القواعد القديمة مرسخا معطيات جديدة،‮ ‬لم يعد يعتمد علي مساهمة البلاءات الملموسة شديدة التفاوت‮. ‬الرحمة عاطفة ميتة،‮ ‬ومن ثم لم نعد ننتظر أدني مساعدة‮. ‬من الآن فصاعدا لا يجب أن يُثيروا الشفقة‮ ‬لكن التعاطف‮. ‬فالتعاطف عاطفة‮ ‬لا تزال‮ ‬غير مستغلة من الطبقة المتسولة‮. ‬حتي ذلك الحين،‮ ‬كانت تكمن قيمة المتسول في بؤسه الشنيع،‮ ‬جروحه المتقيحة،‮ ‬وساخته التي لا توصف‮. ‬أيضا هذا الصنف من المتباكين‮ ‬غير القابلين للشفاء ذوي الآلام الصارخة والجانب الإنساني‮ ‬يجب أن يختفي ويمنح مكانا لحشد من مخلوقات صغيرة ترتدي ملابس كعرائس من الحلوي‮ ‬،‮ ‬وذات أوضاع بسيطة وساحرة‮. ‬من خلال وضعهم وحركاتهم‮ ‬المملوئَين برقة‮ ‬غريبة،‮ ‬سوف يُنشئون لدي الزبائن تيارا من التعاطف،‮ ‬سرعان ما يكافئوا،‮ ‬لأنه لا شيء يرضي الإنسان الشَبِع كالعرض الذي يثيره عاطفيا بشكل لائق،‮ ‬دون توسيخه أو إفزاعه‮. ‬بالتأكيد‮ ‬كل الحمقي العاطفيين في المدينة الأوروبية تغويهم هذه الغواية التي لا تقاوم لهذا المشهد المثيرالجديد‮.‬
كانت هذه الأطروحة في خطوطها الرئيسية هي النظرية الرائعة للمثقف جاد التي اكتشفها وطورها‮.‬
يتذكر أبو شاوالي كل تفاصيل هذه النظرية الملعونة بعدائية متنامية‮. ‬هذه الجهود النظرية لمثقف محبط لم تكن ذات طبيعة مرضية لحس العدل المطلق‮. ‬هو دائم التفكير في كتلة الفقراء الضخمة‮. ‬إن أصالة مثل هذا المفهوم تبدو له‮ ‬أنها‮ ‬تضمر خطرا مستترا،‮ ‬قادرا علي تهديد الاندفاع البطيء للزمن‮. ‬يعتبره كفانتازيا لا أخلاقية و منحطة‮. ‬لم يعد يستطيع تصور أن توفيق جاد أراد فقط المزاح برفعه مثل هذا الجنون لمصاف المبدأ‮. ‬لقد اتسع مجال النظرية بشكل واسع‮. ‬نموذج الصغيرة نوس كان أمرًا فريداً‮ ‬في تاريخ التسول،‮ ‬ولكنه أمر واقعي،‮ ‬خاضع لمجال التطبيق‮. ‬هذه الصغيرة نوس واحدة من‮ ‬أفضل التلاميذ‮. ‬كان يمكنها التعلق بالزبون حتي الموت وأخذت من أمها صفات قدرة التحمل والمثابرة الوحشية حقا‮. ‬
تساءل أبو شاوالي‮ ‬عما إذا كان‮ ‬لن يفقد تلاميذ آخرِين وحاول أن يخمن رد فعل الآباء تجاه الأفكار الجديدة‮. ‬طرف بعينيه ونظر علي نحو محموم لقدميه‮. ‬يستطيع أن يري تلاميذه،أدرك أنهم لم يغادروا بعدُ،‮ ‬وإنه يمكنه الاعتماد علي القوة المتضمنة في بؤسهم المرير‮. ‬لكن المتسوليين الصغار كانوا هناك،‮ ‬في انحطاطهم التام؛ يستطيع رؤيتهم و أيضا لمسهم مباشرة بيديه المعروقتين‮. ‬كانوا هناك،‮ ‬يجلسون القرفصاء علي الأرض الترابية،‮ ‬يقدمون للبرد والرطوبة أجسادهم‮ ‬للتعذيب كمبتدئين‮. ‬ومن بينهم يوجد مكفوفون،كُتع،‮ ‬عرجي،‮ ‬و آخرون أصيبوا بعاهات نهائية‮. ‬جدران الكوخ السوداء تغطيهم بظل بغيض،‮ ‬بلا مخرج علي الإطلاق‮. ‬يتأملهم أبو شاوالي فيصمت،‮ ‬ثم‮- ‬للحظة‮ - ‬يتخيلهم يرتدون ألوانا زاهية،وجوههم نظيفة،‮ ‬مبتسمة وجميعهم مثل الأطفال الحقيقيين لآباء حقيقيين‮. ‬لكن هذه الرؤية المنافية للعقل جمدته من الخوف وأطلق وهو يرتجف علي سريره الحقير،‮ ‬الشتائم الطقسية‮:‬
‮- ‬أبناء الخنازير،‮ ‬الملاعين‮. ‬هل أتيتم هنا لتناموا؟ هيا،‮ ‬استيقظوا،‮ ‬الدرس يبدأ‮.‬
عندئذ تحرك المتسولون الصغار وأخذوا أوضاعا تتوافق وخطورة اللحظة‮. ‬بدورها الصغيرة عُلا،‮ ‬مجندة جديدة ومن ثم تبدو حالتها مثيرة للاهتمام للغاية‮. ‬نهضت من علي الأرض وذهبت لتقف أمام أبو شاوالي‮. ‬تمسك بين ذراعيها طفلا ذا بضعة شهور،‮ ‬ولد كفيفا وملفوفا في كل أنواع الخرق القذرة‮. ‬يبدو الطفل ميتا منذ فترة طويلة ووجهه يتشح بشحوب أخضر‮.‬
‮- ‬إذن،‮ ‬هو دورك‮- ‬دمدم أبو شاوالي‮- ‬ماذا تفعلين بهذه اللفة بين ذراعيك ؟ هل تتجولين بصرتك بالصدفة ؟
‮- ‬هذه اللفة أخي،‮ ‬قالت الصغيرة‮.‬
‮- ‬أه‮! ‬هو أخوك‮! ‬اقتربي حتي أراه‮.‬
‮ ‬تقترب الصغيرة عُلا وتمد لـ أبو شاوالي اللفة المقرفة من الأقمشة القذرة التي تلف أخاها‮. ‬الوجه الضارب في الخضرة للمولود الجديد فقط مايبرز من اللفة،‮ ‬هادئا كالميت‮. ‬ينحني أبوشاوالي،‮ ‬يتعرف علي طبيعة‮ ‬هذا الموضوع ويبدو للحظة يفكر‮. ‬مثل هذا العرض،‮ ‬يلزمه تقنية مناسبة‮.‬
‮- ‬حسنا،‮ ‬قال،‮ ‬سوف نري هذا فيما بعد‮. ‬فلتجلسي الآن‮. ‬فقط انتبهي جيدا حتي لا يختنق في هذه اللفة‮. ‬هل يأكل؟
‮- ‬لا‮- ‬أجابت الصغيرة‮ - ‬فقط في بعض الأحيان يفتح فمه‮.‬
‮- ‬حسنا،‮ ‬حسنا،‮ ‬فلتجلسي‮.‬
تصل الصغيرة علا لمكانها بين زملائها‮. ‬ينتظر أبو شاوالي لحظة،‮ ‬ثم ينادي الصغير كيكا‮.‬
‮- ‬تعالَ‮ ‬هنا،‮ ‬يا ابن الخنزير،‮ ‬وقل ما تعرف‮.‬
بخصوص ماذا؟ يا معلم‮.‬
‮- ‬ماذا تقول‮ : ‬بخصوص ماذا‮ ‬يا بن أمك‮ ! ‬هل تظن أننا نلعب هنا لعبة الحجلة؟ هيا،‮ ‬اقرأ عليّ‮ ‬درس الأمس‮. ‬كيف تتعامل مع زبون يرتدي بدلة جديدة؟
ساد صمت حرج بعد السؤال‮.‬
‮- ‬لا تعرف،‮ ‬يا ابن الخنزير‮.‬
لم يكن التلميذ كيكا شديد الذكاء؛ ميراث ثقيل ومشئوم يثقل عليه‮. ‬ظل هناك جامدا،‮ ‬الأذرع مكتوفة بقوة،‮ ‬حتي يحافظ علي اليدين تحت دفء الإبطين‮. ‬كان يبدو متحيرا وحزينا تماما.نظافة نسبية في وجهه تضيء الظلام القبيح للكوخ‮. ‬يلاحظ أبوشاوالي هذا البياض الوقح،‮ ‬ويدخل في‮ ‬غضب جنوني‮.‬
‮- ‬لكن اقترب إذن‮! ‬ياالله‮! ‬هل أحلم،‮ ‬أوبالأحري هي الحقيقة،‮ ‬أنت‮ ‬غسلت وجهك‮! ‬هيا،‮ ‬أجبني أو سأقطع رقبتك‮. ‬تسمعني،‮ ‬يا ابن الخنزير‮.‬
استولي رعب همجي علي كل جسدالصغير كيكا‮. ‬لم يستطع النطق بكلمة‮. ‬لكن السمت الشرس لـ أبو شاوالي أقنعه بالتحدث‮.‬
‮- ‬أول أمس،‮ ‬يا معلم،‮ ‬أمطرت‮. ‬جاء ماء المطر علي وجهي‮. ‬إنها ليست‮ ‬غلطتي‮.‬
‮- ‬ولم تكن تستطيع إخفائه من المطر،‮ ‬يا حمار؟وجهك يشبه الآن مؤخرة قرد‮. ‬ماذا سأفعل بجمال كهذا؟ اذهب ؛ أنت مطرود‮.‬
لم يتحرك الطفل‮. ‬لا يعرف ما يجب أن يفعله.لا يفهم كيف يطرده أبو شاوالي من المدرسة‮.‬
‮- ‬إذن،‮ ‬لا تود الرحيل،‮ ‬صاح أبو شاوالي‮.‬
‮- ‬أين سأذهب؟ سأل الصغير‮.‬
‮- ‬ستذهب إلي أمك،‮ ‬يا جاموس‮. ‬سوف تخبرها عني أنني لم أعد‮ ‬أود رؤيتك هنا،‮ ‬لأنك تجازف بإفساد زملائك بمظاهر ابن العائلة و ميلك المفرط في النظافة‮. ‬لأنني منذ فترة طويلة أرقبك،‮ ‬يا صغيري‮. ‬منذ وقت طويل أدرك أن مظهرك يصبح أكثر فأكثر‮ ‬غير معتاد في مكان كهذا‮. ‬ببساطة أمك أرملة فقيرة مريضة وليس لها‮ ‬غيرك لتقوتها‮. ‬ولقد عهدت بك‮ ‬إليّ‮ ‬حتي أصنع منك رجلا،‮ ‬حقيقيا وليس فتي شوارع جميل‮. ‬لكن الله يقرر كل شيء،‮ ‬يا بني،‮ ‬لم تخلق لتصبح متسولا،‮ ‬انصرف من هنا‮.‬
أدرك الصغير كيكا أن كل شيء قد انتهي،‮ ‬كل شيء،‮ ‬حتي بخصوص وجوده أيضا‮. ‬لم يعد لديه أدني شك؛ طُرد من المدرسة؟ كيف سيمثُل أمام أمه؟‮ ‬
مثقل القلب،‮ ‬ينظر لزملائه للمرة الأخيرة،‮ ‬ثم يقرر الرحيل بتمهل‮. ‬وهو في الخارج،‮ ‬بدأ في التبول بحزن لانهائي‮.‬
‮ ‬الآن يتحدث أبو شاوالي لتلاميذه عن ضرورة أن يكونوا متسخين بشكل دائم وعما تحدثه الوساخة من تأثير علي قرار الزبائن‮. ‬يعطي بعض الأمثلة العنيفة ليعضد فرضيته،‮ ‬ثم يطردهم جميعا ويشرع في التفكير‮. ‬في البداية،‮ ‬يحاول أن يجد في المدرسة الجديدة طابعا رخوا وزائلا‮. ‬يحدث نفسه إنها طريقة عمل فتاكة‮ ‬لكنها ستزول مع الوقت‮. ‬لا يمكن السير ضد التقاليد ولا يمكن التخلص بسهولة من العادات والمواثيق المستقرة منذ الأزل‮. ‬هل رأينا من قبل متسولين يتنزهون في الشوارع،‮ ‬يرتدون ملابس‮ ‬كالبهلوانات ويثيرون عطف الناس المحترمين؟حتي لو حصل ذلك علي نجاح ما،‮ ‬لا يمكن أن‮ ‬يكون إلا نجاح حب الاستطلاع‮. ‬سرعان ما يلاحظ أهل المدينة أن ذلك لم يكن إلا حيلة مضحكة تهدف إلي خداعهم.و لن يسمح أي شخص لنفسه بالاستغراق في هذا الأمر طويلا‮. ‬لا يمكن إخفاء‮ ‬ويلات العوز الموجود من آلاف السنين،‮ ‬إنها تنتقل بشكل حتمي،‮ ‬علي الرغم من مستحضرات التجميل و أدوات التنكر‮.‬
يعتقد أبو شاوالي اعتقادا راسخا في فضيلة الإرهاب‮. ‬المتسولون القذرون والذين يلقون الإرهاب في كل مكان،‮ ‬هذه هي الصورة التي تصنع القوة‮. ‬إن قوة الفقراء تكمن في أسمالهم وفي وجوههم المعذبة‮. ‬لا يمكن انتزاعهم هذه القوة؛ إنها تظل الملاذ الوحيد لمصيرهم المأساوي‮. ‬فبها يدافعون ضد عالم الأقوياء الإجرامي وبها أيضا يستطيعون التأثير في هذا العالم،‮ ‬ويؤذونه في أمنه وفي رفاهيته‮.‬
‮ ‬انجرف أبوشاوالي عبر حماسته‮. ‬هكذا واتته فكرة أن يذهب لمناقشة توفيق جاد‮. ‬ربما سيجعله يفهم أن وجود الفقراء لا يمكن حله بطريقة فانتازية هكذا‮. ‬تبدو له هذه المقابلة ضرورة مطلقة‮. ‬لكن سيكون ذلك في وقت آخر؛ الآن يود قضاء قيلولته‮. ‬إنه في حاجة للراحة لأن مشاجرة أم عاكوش أجهدته بشكل كبير‮.‬
عندما استيقظ أبو شاوالي،‮ ‬كان الليل قد أطل‮. ‬بدأ‮- ‬وبشكل عشوائي‮- ‬في إطلاق بعض السباب الموجه لتلاميذه،‮ ‬لكن لم يرد عليه أحد‮. ‬عندئذ خرج من كوخه الحقير وتوجه نحو درب الباشا،‮ ‬الشريان الرئيسي للمكان‮. ‬قرر الذهاب إلي توفيق جاد‮.‬
ضرب الليل جذوره في الأرض‮. ‬الجو كدر وبارد‮. ‬هنا وهناك،‮ ‬بعض النيران من خشب مشتعل دون يقين كبير‮. ‬بعض الناس يجلسون القرفصاء علي عتبة أكواخهم‮ ‬ليخدعوا جوعهم بالانخراط في حوارات لا طائل منها،‮ ‬بينما آخرون،‮ ‬متخفون خلف جدران‮ ‬غير واقعية،‮ ‬يمارسون بلا كلل الحب.أطفال متبلدون من الفقر ومن التعب ينامون‮ ‬غير مدركين للبرد،‮ ‬بين القذارة والبراز‮. ‬يعرف أبوشاوالي هذا العالم،‮ ‬كل هذه الكائنات الحزينة والموسومة بمصير لا يرحم‮. ‬ذلك كان بالنسبة لمعظم آباء تلاميذه‮. ‬عادة تتسم‮ ‬تحياتهم بالتقدير والاحترام‮. ‬لكن هذا المساء يعتقد أنه يستشف فيهم بعض الارتياب‮. ‬بعضهم ألقاه أثناء مروره بمزح مشينة‮. ‬أدرك أبوشاوالي أن مؤامرة كانت تحاك ضده وتوقف مترددا،بالقرب من درب اللصوص‮.‬
ضوء فريد من نوعه لكنه وافر يبرق بالقرب من المكان الذي توقف فيه‮. ‬إنه مقهي حامد فرغلي الملقب بـ الباشا،لأنه الوحيد في المنطقة الذي كان يضاجع ثلاث نساء بشكل شرعي‮. ‬لا يود أبو شاوالي أن يراه الباشا ولا الجالسين عنده في المقهي الآن‮. ‬كان يعرف أنهم سوف يسألونه عن أحداث الصباح و هو يود تجنب النقاش قبل أن يقابل توفيق جاد‮.‬
اتجه يمينا أبوشاوالي واندفع داخل درب اللصوص‮. ‬هناك،الظلمة مؤكدة ويجب أن يسير محتكا بالأكواخ‮. ‬صمت مخيف يسيطر علي هذا الدرب المنيع حيث يسكن،‮ ‬كما يقال،‮ ‬أكبر قاتل في العالم‮. ‬خلال بضع دقائق،‮ ‬استطاع أبو شاوالي متحسسا طريقه التعرف علي كوخ توفيق جاد‮. ‬كان مشيدا من ألواح خشبية متفسخة وغير ملتحمة و يفصل بينها تيارات الهواء التي تعبرها وهي تصفر‮. ‬اكتشف أبوشاوالي حجرا كبيرا بالقرب من هنا وسوف يجلس فوقه‮. ‬يفضل عدم الدخول عند توفيق جاد،‮ ‬ومقابلته عندما يخرج من كوخه‮. ‬سوف يصبحون هكذا أكثر راحة في الحديث‮. ‬في الحقيقة،‮ ‬يخشي أن تؤثر عليه‮ ‬حميمية هذا الرجل الغريب‮.‬
أبوشاوالي يعرف أن توفيق جاد سوف يخرج من كوخه في نهاية المطاف‮. ‬إنه يعرف مثل كل الناس المرض الذي يعاني منه توفيق جاد والعادة المأساوية الناتجة عن هذا المرض‮. ‬لقد كان يعاني المثقف جاد من إسهال مزمن،‮ ‬مما كان يجبره علي الذهاب مرات عديدة في اليوم إلي المراحيض العمومية‮- ‬التي توجد علي بعد كيلومترا من هنا‮- ‬بالقرب من المدينة الأوروبية‮. ‬كان يُشاهَد دائما وهو يهرول في الطريق،‮ ‬الطربوش مغروس حتي أذنيه صانعا بعصاته لفات عبثية وخطيرة‮.‬
ممدا علي حصيرته،‮ ‬يحاول جاد أن يتوصل لطبيعة الحضور الذي‮ - ‬منذ لحظة‮- ‬تجلي بطريقة‮ ‬غير محسوسة وغريبة‮. " ‬ليس لصا بكل تأكيد‮"‬،‮ ‬حدث نفسه‮. ‬يود النهوض،‮ ‬لكنه يشعر بثقل في أطرافه‮. ‬هذا‮ ‬الحضور المستغرب أفزعه وبدأ يتصبب عرقا كما لو كان تحت تأثير حمي شديدة‮. ‬ومع ذلك رفع نفسه علي مرفقيه و تأمل الظلام الدامس الذي يحيطه،‮ ‬في محاولة للإمساك بإشارة‮ ‬ما كاشفة‮. ‬لكنه من المستحيل أن يري أي شيء في هذه الظلمة‮. ‬مال جاد يمينا،‮ ‬يبحث عن قطعة من شمعة ملقاة علي الأرض يشعلها‮. ‬في ذلك الحين أدرك مشهدا‮ ‬غير عادي وفي نفس الوقت مطمئنا‮. ‬في أحد أركان الكوخ تقف‮ - ‬في وضع ثابت‮ - ‬دجاجة كبيرة بريش ذهبي اللون،‮ ‬مثبتة عينيها علي جاد كما لوأنها تود تنويمه مغناطيسيا‮. ‬في البداية اندهش و سُر جاد بهذه الدجاجة‮. ‬وبعد ذلك تساءل كيف استطاعت الدخول إلي كوخه‮. ‬يعرف أن في كل المنطقة لم يعتد أحد علي تربية دجاج‮. ‬وآخر من زار المنطقة من هذا النوع تلك التي كانت قد قدمت للباشا كوجبة،‮ ‬منذ عامين،‮ ‬عند خروجه من السجن‮.‬
جاد في حالة ارتباك شديد‮. ‬ماذا يعني هذا الطيف الرائع؟ جمود الدجاجة أحاله هو أيضا لجمود رهيب و تأملي‮. ‬منذ فترة طويلة لم ير دجاجة‮ ‬بهذا القرب‮. ‬ثم إنه يوجد مغناطيسية‮ ‬غريبة في عيون هذه الدجاجة‮. ‬كان جاد يشعر أنه منجذب لها كما ينجذب لطيف جسدي خطير مملوء بالرقة والأُنوثة‮. ‬إنها تفتنه بشكل واضح‮. ‬يرتجف جسده تحت ضغط الرغبة المفاجئة،‮ ‬التي تملؤه نشوة ورهبة‮. ‬يظل جامدا علي حصيرته،‮ ‬مفتونا بالعيون الواسعة لهذه الدجاجة ذات الريش الذهبي والتي تبدو أنها تأخذ مظاهر امرأة شهوانية،‮ ‬تتعهد برذائل‮ ‬غير معروفة‮. ‬بدا‮ ‬لجاد أن الدجاجة تحركت‮. ‬كان يشعر أن إنفجارا سوف يحدث و أن بالفعل امرأة ساحرة وشهوانية سوف تخرج من هذه الدجاجة وهي تهزهز مؤخرتها‮. ‬وجه رائع خرج من عفن و خسة الليل‮. ‬ربما أيضا روح لطيف مهزوم من الفقر والذي سوف يتحرر قريبا‮. ‬ينتظر جاد هذه المعجزة،‮ ‬وهو ينهج،‮ ‬كمن علي وشك الإغماء‮. ‬
‮ ‬مر وقت لانهائي،‮ ‬لكن لم يحدث أي شيء‮. ‬انطفأت الشمعة الآن‮. ‬تشوش انتباه جاد في الظلام وشعر فجأة أنه فريسة لآلام مبرحة‮. ‬لا يزال هذا الإسهال الملعون‮. ‬حينئذ نهض من علي الحصيرة،‮ ‬يلتقط من الأرض عصاته وطربوشه وخرج وهو يهرول‮. ‬ما أن رأي جاد يخرج‮ ‬حتي انطلق في إثره دون انتظار‮.‬
‮- ‬توقف،‮ ‬يا جاد أفندي،‮ ‬صاح‮. ‬أود أن أحدثك‮.‬
توقف جاد،‮ ‬مندهشا،‮ ‬لكن اندهاشه كان لفترة وجيزة،‮ ‬لأنه كان لديه شيء آخر ليفعله‮.‬
‮- ‬مساء الخير يا معلم،قال‮. ‬بالفعل ليس لدي وقت‮. ‬أنا متعجل‮. ‬فليكن ذلك في وقت لاحق‮.‬
‮- ‬أود أن أخبرك بأمور خطيرة،‮ ‬تنهد أبو شاوالي مهموما‮.‬
‮- ‬فليكن،‮ ‬أستمع لك،‮ ‬قال جاد‮. ‬لكني أخبرك أنني في عجلة من أمري‮.‬
هما الآن علي الطريق‮. ‬من بعيد تلمع مصابيح الإنارة الحكومية بشكل واضح‮. ‬علي اليسار،‮ ‬طريق السكة الحديد،‮ ‬وفي الأمام تماما المدينة بأنوارها العديدة الجذابة والضارة‮.‬
يسير جاد وهو متجهم علي نحو عظيم‮. ‬إنه رجل في الخمسين من عمره،‮ ‬يرتدي بدلة من الصوف بنية اللون،‮ ‬مجعدة تماما ولا يخلعها مطلقا‮. ‬استدار ناحية أبوشاوالي وأراد أن يوضح له وضعه،‮ ‬لكن الآلام تعاوده فاضطر أن يسير بخطي حثيثة‮. ‬بعد فترة،‮ ‬سأله‮:‬
‮- ‬أنت ذاهب إلي المراحيض،‮ ‬يا معلم؟
‮- ‬لا،‮ ‬أجاب أبو شاوالي.أصطحبك فقط‮. ‬ولكن بهذه المناسبة،‮ ‬قل لي،‮ ‬ألا يمكنك أن تقضي حاجتك مثل كل الناس،‮ ‬بالقرب من الكوخ؟
‮- ‬ماذا أقول لك،‮ ‬يا سيدي‮. ‬إنها قصة طويلة‮. ‬لكني لا أستطيع فعل ذلك في الهواء الطلق‮.‬
‮- ‬أه‮! ‬فهمت‮. ‬ربما لديك تخوف من أن يري أحد مؤخرتك‮.‬
لم يرد جاد‮. ‬هذه المزحة السوقية أثارت اشمئزازه وحث الخطي أكثر،‮ ‬بنية التخلص من المعلم‮. ‬الحقيقة أنه لا يزال يحتفظ بميوله الفطرية كبرجوازي قديم،مشبعا بتحيزات مسبقة‮. ‬يلتزم بأخلاقيات الإنسان المثقف‮. ‬بالنسبة لمثقف مثله،‮ ‬قضاء حاجته في الخلاء يعادل خيانة للعقل‮. ‬
طرح أبوشاوالي الموضوع الذي يحفظه في قلبه‮.‬
‮- ‬أتيت،‮ ‬يا جاد أفندي،‮ ‬لأحدثك عن خطر يهدد عالم الفقراء‮.‬
‮- ‬أي خطر يا معلم؟
‮- ‬خطر الفانتازيا‮.‬
يسود صمت،‮ ‬أثناءه يحاول جاد الهروب من قبضة المعلم‮. ‬في الحقيقة،هذه البيئة المجبر علي الحياة فيها تصيبه بالرعب‮. ‬يشعر باشمئزاز فطري تجاه كل هذا العالم الواقعي والبائس‮. ‬يفضل أن يرفه عن نفسه بأوضاع خيالية‮. ‬مجال الفانتازيا شديد التنوع‮. ‬يفكر في هذه الدجاجة ذات الريش الذهبي و في عيون المرأة الشهوانية،‮ ‬التي اختفت بشكل مفاجئ‮. ‬هناك في الحياة أشياء خيالية وجاد يحب تلك الأشياء‮. ‬و مع ذلك يلتفت نحو أبو شاوالي ويسأل باهتمام‮:‬
‮- ‬ماذا قلت،‮ ‬يا سيدي؟
‮- ‬قلت،‮ ‬يا جاد أفندي،‮ ‬أن،‮ ‬بالنسبة لنا،‮ ‬الفانتازيا خطر.نحن بحاجة لشيء آخر‮.‬
‮- ‬وماذا نحتاج إذن،‮ ‬يا سيدي؟
نحتاج للواقعية،قالها بحدة أبو شاوالي‮.‬
كلمة الواقعية هذه شلت كل ملكات جاد‮. ‬لم يعرف بماذا يرد‮. ‬و تساءل عما إذا كان من الأفضل أن يُحدث المعلم عن هذه الدجاجة ذات العيون المغناطيسية،‮ ‬التي حاولت أن تغريه كمومس‮. ‬في الحقيقة لم يزل لا يفهم ما يريده المعلم‮. ‬ولماذا هذا الحوار العبثي؟حاول الهروب بأن يسرع في مشيته،‮ ‬لكن أبو شاوالي أمسكه من ذراعه‮.‬
‮- ‬لقد ألقيت‮ ‬فيما بيننا البذرة المشئومة للفناتازيا،‮ ‬استنكر أبو شاوالي.والآن ماذا ستفعل؟
‮- ‬الفانتازيا شيء رائع،‮ ‬يا سيدي‮.‬
‮- ‬ستصبح مؤذية لنا‮.‬
هذا المثقف المحبط يجهل الفقر الحقيقي؛ الفقر العبثي والمستديم الذي يمسك بالبشر منذ ولادتهم‮. ‬حتي فقره أيضا فانتازيا عابرة وليس حتميا‮. ‬بل هو من كان يريده حيث سمح لنفسه أن يذهب إليه‮. ‬يستطيع التخلص منه كشيء نرميه وننساه‮. ‬لكنهم،‮ ‬لا يستطيعون‮. ‬يجب إبطاء مسيرة الزمن لتجهيز الانفجار المروع الذي سيخلصهم‮.‬
‮- ‬قل لي،‮ ‬جاد أفندي،‮ ‬هل ستفتح مدرسة؟ يجب أن أعرف‮. ‬
‮- ‬أي مدرسة،‮ ‬يا سيدي؟
بالفعل لم يفهم أي شيء من كل هذا‮. ‬لايزال مستمرا في إظهار تجهمه المرعب‮.‬
‮- ‬مدرسة للمتسوليين،‮ ‬يا جاد أفندي‮. ‬ألا تريد أن تضع نظريتك الرائعة موضع التطبيق؟
‮- ‬من أخبرك ذلك،‮ ‬يا سيدي ؟‮ ‬ليس لدي نية فتح مدرسة‮. ‬بشرفي،‮ ‬لا أفهم أي شيء من كل ما تقوله هذا‮.‬
‮- ‬منذ بضعة أيام،‮ ‬وضح أبوشاوالي،حدثتنا عن علم ما يسمي علم النفس‮. ‬في مقهي الباشا،‮ ‬ويوجد شهود‮. ‬حدثتنا كذلك عن طريقة جديدة في طلب الإحسان‮. ‬طريقة خيالية تماما‮. ‬أتذكر ذلك؟
‮- ‬أه‮! ‬نعم،‮ ‬أتذكر ذلك،‮ ‬قال جاد‮. ‬إنها فكرة كانت قد مرت برأسي‮. ‬ألا تجدها رائعة؟
‮- ‬أجدها وحشية‮.‬
‮- ‬و لماذا ذلك؟
لأنها تنال من كرامتنا نحن الفقراء‮. ‬أتريد أن تجعلنا كالبهلوانات؟ لا نريد التنكر في هيئة البهلوانات حتي نحصل علي حق الحياة‮. ‬ما يمنحنا الناس،‮ ‬يجب أن نحصل عليه بوسائل لائقة وواقعية‮. ‬أتريد أن تجعلهم يعتقدون أننا سعداء؟يجب أن يظهر أولادنا كما هم في الواقع،‮ ‬أي متسخين وملوثين ويتسكعون في الشوارع ككائنات حية لوامة‮. ‬يجب أن يخافنا الناس ويشعرون من حولهم بتصاعد الرائحة المثيرة للغثيان نتيجة فقرنا الهائل‮.‬
‮- ‬اعتقدت،‮ ‬قال جاد،أن شيئا ما من البهجة كان سيسهل بشكل كبير الأمور‮.‬
‮- ‬لا نريد خدمات من مبدأ البهجة‮. ‬البهجة يجب أن تهلك‮. ‬نريد أن نكون شعبا واقعيا،‮ ‬شعبا يعاني،‮ ‬ومن ثم فالجروح واضحة وملموسة‮. ‬فهمت،‮ ‬يا جاد أفندي؟ هذا ما كنت أود أن أخبرك به‮.‬
تردد جاد للحظة،‮ ‬ثم قال‮.‬
‮- ‬ولكن التقدم يتطلب تعديلات في كل المجالات،‮ ‬يا سيدي‮. ‬فقط كنت أود محاولة التجريب‮.‬
‮- ‬التسول لا يخضع لتعديلات‮. ‬يجب أن يظل كما هو أو يختفي كلية من علي وجه الأرض‮.‬
بقيا فترة صامتين‮. ‬من حولهم هناك الحياة تمر؛ الحياة التي فوق الأحلام والانتقام وحيث لا يمكن أن يقف أي شيء‮. ‬يتأمل جاد الطريق أمامه ويقيس بنظره المسافة التي بقيت ليسيرها قبل أن يصل للمراحيض العمومية‮. ‬يريد أن يجري،‮ ‬لكن لايزال أبو شاوالي يمسك به من ذراعه‮. ‬تنبح كلاب بالقرب من كوخ مهجور‮. ‬يجري الرجلان الآن علي الطريق‮. ‬قطار مضيء يمر علي السكة الحديد محدثا صوتا جهنميا‮.‬
يقتربان من المدينة‮. ‬تصير المصابيح أكثر عددا وأكثر سطوعا‮. ‬الحضارة تعطي نتائج جيدة هكذا،‮ ‬بالأنوار التي تتوافر حولها لتعمي الناس‮.‬
‮- ‬لا أعرف ما يدخره لنا المستقبل،‮ ‬تنهد أبو شاوالي‮.‬
‮- ‬المستقبل،‮ ‬قال جاد،‮ ‬في نهاية هذا الطريق،في هذا المبني الصغير الذي تراه هناك‮.‬
ينظر أبوشاوالي لآخر الطريق‮. ‬ما يراه لم يكن مكانا مميزا بشكل محدد حتي يؤوي المستقبل‮.‬
‮- ‬لكن إنها المراحيض العمومية،‮ ‬قال،‮ ‬مستغربا‮.‬
‮- ‬حقا،‮ ‬يا سيدي‮. ‬المستقبل في المراحيض العمومية،‮ ‬علي الأقل الآن‮.‬
لم يعد يستطيع تمالك نفسه‮. ‬جري مباشرة أمامه،‮ ‬نحو المستقبل‮.‬
بقي أبوشاوالي بمفرده تماما في وسط الطريق‮. ‬ينظر السماء المظلمة،‮ ‬ثم ينظركذلك أمامه‮. ‬لكن أمامه هناك المدينة الشرهة والمجرمة‮. ‬ويري المستقبل مسجلا علي شكل بقع دموية في وسط‮ ‬هذه المدينة‮.‬




==================
* نص نادر للكاتب المصري ألبير قصيري المولود عام‮»‬1913‮« ‬
كتبه في المرحلة المصرية قبل أن يهاجر إلي فرنسا ليستقر هناك‮.‬
النص نشر في مجموعته القصصية الأولي‮ " ‬بشر نسيهم الله‮" ‬التي نشرت عام‮ ‬1941‮ ..‬وكان قد سبقها بديوان شعر وحيد حمل عنوان‮ "‬لسعات‮ » ‬عام‮ ‬1931‮ «‬
القصة التي تعتبر من بدايات قصيري تعبر عن فلسفته في الحياة والكتابة‮..‬وتحمل سمات عوالمه الإبداعية التي استمرت حتي رحيله في عاصمة النور‮ ... ‬حيث ظلت الأجواء المصرية تشكل عالمه‮ ..‬هو الذي قال‮: "‬لست في حاجة لأن أعيش في مصر ولا لأن أكتب بالعربية،‮ ‬فإن‮ ‬مصر في داخلي وهي ذاكرتي‮". ‬

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى