عبداللطيف بنيحيى - في حضرة اَلياقوت.. شعر

1

أُرِيدُ أَنْ أَسْتَرِيحَ قَلِيلاً
مِنْ هَذَا المُؤَقَّتِ الَّذِي يَعْبَثُ بِي
و أَرْتَمِي
فِي حِضْنِ الأبَدْ..
أُرِيدُ أَنْ أَغُوصَ إلَى عُمْقِ بَحْرِي
كَيْ أَتَخَلَّصَ مِنْ هَذَا الزَّبَدْ..
أُرِيدُ سَمَاءً غَيْرَ سَمَائِي
وَ بِلاَدًا تأويني
غَيْرَ هذا البلَدْ
وأُمًّا لَمْ تَلِدْ..
وَلَمْ تُولَدْ..

2
رَحِيلِي دَنَا..
فَمَنْ تَكُونُ اليَاقُوتْ..
وَ مَنْ أَكُونُ أَنَا..؟
وَ هَلْ أَكُونُ أَنَا مَنْ رَحَلْ
حِينَ أَوْهَمَتْنِي
أَنَّهَا رَحَلَتْ..؟
وَهَلْ يَكُونُ مَرْقَدُ اليَاقُوتِ مَرْقَدِي أَنَا..
وَ أَنَّنِي حِينَ بَكَيْتْ
لَمْ أَبْكِ عَلَيْهَا
بَلْ عَلَيّْ..؟

3
كُلَّمَا ابْتَعَدْتُ عَنِّي
اقْتَرَبْتُ مِنْكَ أَكْثَرْ..
وَكُلَّمَا شَرِبْتُ مِنْ خَمْرَتِي
سَكِرْتَ أَنْتَ
وَأَتْلَفَنِي الصَّحْوُ عَنِّي وَعَنْك..

4
قالت لي:
— مَنَحْتَنِي مَا لَمْ تَطْلُبْهُ مِنِّي
وَ أَغْنَاكَ زُهْدِي فِيمَا مَنَحْتَنِي..
و ارْتَوَيْتُ حِينَ جَفَّتْ عَيْنُ مَائِكْ
و ظَمِأْتَ حِينَ فَاضَتْ عَيْنُ مَائِي..
فَكُنْ يَا حَبِيبِي
غَيْمَةً فِي سَمَائِي
لِتَخْرُجَ مِنْ دَائِكْ
وَ تَدْخُلَ مُشْتَعِلا في دَائِي..
و قالت لي:
— امْنَحْنِي أَلَمَكْ
وَاخْرُجْ مِنْ أَلَمِي
وَ انْتَظِرْ عَوْدَتِي مِنْ عَدَمِكْ
إِلَى عَدَمِي..

5
تَتَرَبَّصين بي
مثلما تَتَرَبَّصُ ذئبةُ البراري
بغزالٍ شريدْ
يَتَشَهَّى اختراقَ النَّابِ
في الوريدْ..

6
أنا والجُنونُ تَوْأَمان..
فهل سَتُكمِلين رقصة النار
حين يسقط في الماء
قوسُ الكمان؟

7
مَيِّتٌ أنا
في زَمَنٍ غابِرْ..
وحَيّ أنا
في زَحمةِ المقابِرْ..
سأعودُ إلى مثوايْ
قبل أن يفاجئني – على جسد امرأةٍ – ملاكُ الموت
سأوصِدُ تابوتي علَيّْ
و أنتشي
بِوَجَعِ النَّاياتِ في شراييني
أنا العائدُ من منفايْ
منذ بَدْءِ الخليقةِ
إلى اشتعال النار في يقيني..

8
لستَ أنتَ مَنْ يَرى
أَنا عَيْنُكَ التي تَرَى..
فاجْعَلْ وَهْمَكَ مِفتاحَ يَقِينِك
ولا تَجْعَلْ يَقينَكَ مِفتاحَ وَهْمِك..

9
لم يَبْقَ مُتَّسَع من ألم..
و لا متسع لجرحكَ في حَوْصلة الناي..
فاجْمَعْ ما تَبَقَّى من شظاياك قبل رحيلك
و لا تُوَدِّعْ أحدا
فالبحر لن يكون لك
حتى يصيرَ موجُ رحيلك زَبَدا..

10
عندما قلت لك
– لأول مرة –
أحبك
كان صمتك أحلى من جرأتي
و عندما أسدلتِ ستائر شرفتك
صرتُ أكثر وقاحة
و صرتِ أنت
أكثرَ جرأة من وقاحتي
و أكثرَ وقاحة
من جرأتي..

11
لم تصْحُ بعدُ من غفوتها..
بعد أكثرِ من سنة
أكثرِ من تِسْعِ قُرُنْفُلاتِِ
و سَوْسَنة..
و بعد المطر النُّوفَمبريُّ
أيقظ أنثى اللَّقلاق على رأس المِئْذنة..

12
ناي جريح
يفتح شرفة النحيب للريح
لعل بحيرة صغيرة
عند منحدر الصنوبرات
تعانق رجع صداه
ليستريح..
أعشق الأشياء التي لا شكل لها..
رذاذا يتطاير من بحيرة الروح
دهشة . ترعش نهدا صغيرا
في صدر صبية مشاغبة
شهقة الرحيل إلى العدم
غيمات منتصف نوفمبر على جبين امرأة
اغتال شهوتها السأم..

13
سئِمتُ مني
ومل ساكني مني..
فمتى يزورني
مخلصي من دائي
ويفك القيد عني؟

14
ليتني
أصحو هنيهة قصيرة
من غياهب موتي
كي أحبك أكثر..
وليتني
أغفو هنيهة
كي أتخلص مما تبقى من مؤقتي
وأدخل في أبدك..

15
ماذا كنت سأكون لو أنك لم تكوني؟
وكيف كان سيكون طعم الجنون لو لم تكوني جنوني؟
و هل كنت سأزهد في كلي
لتزهدي أنت في كلك
لبعض كلي؟
وكيف ارتفعت
بينما كنت أبحث عن سلم
أسنده على جدار القلب
كي أراك ترتبين قمصاني على حبل غسيل
قبل أن يأذن لي زائري بالرحيل؟

16
في حضرة الياقوت
لا أرى حين أسمع
و لا أسمع حين أرى..
و في حضرتها
يرعشني نبض روحها
في حصى مرقدها
و في الثرى..
و كل ما سواها
شظايا انشغال المؤقتين
بما أنا زاهد فيه..

17
للياقوت ما تبقى من شجني
ولها
جسر عبوري
من حضن أمي
إلى كفني..
وللياقوت رعشة الصمت
و سر يتناسل من سري في سرها
و من سرها في حيرتي
و من حيرتي
في جنوني..
فكوني
كما شاء لك الرب أن تكوني
بوصلتي
وجسر عبوري
من صمت عينيك
إلى متاهاتي..
– هذه هي " الياقوت " التي جعلتني زاهدا فيما تبقى من مؤقتي.. رحمها الله
– اللوحة للفنان المغربي محمد بن موسى
– الصورة للصحفية الفوتوغرافية زليخة أسيدون

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى