عبدالرزاق دحنون - الزمكان... في نص الروائي السوداني الطيب صالح

نحن نعرف الحكمة الشعبية الروسية التي تقول: إذا فقدت بيتك فيمكن بناء آخر جديد, وإذا فقدت المال فيمكن كسب غيره, وإذا فقدت الزمن فإنك تفقد كل شيء .لقد تجسد في هذا القول المأثور أكثر صفات الزمن تميَّزاً وهي أنه لا رجعة فيه. فلا يمكن إعادة الزمن إلى الوراء وما مضى لا عودة فيه .

1

إن فكرة النظر إلى الزمان بوصفه بُعداً رابعاً مرتبطاً بالمكان قد تصدمنا بغرابتها, ولكنها أصبحت من المسلمات الأساسية في تفسير البنية الكونية التي اعتمدها أينشتاين من خلال نظرية النسبية . تعتبر طبيعة "الزمكان" أحد الموضوعات المحبوبة جداً في الأدب,وثمة مؤلفات لا تحصى من القصص والروايات والمسرحيات اعتمدت كأساس لها الافتراضات المختلفة حول خصائص هذه القيمة الفيزيائية. ولا ريب في أن أصحاب مثل هذه المؤلفات يستغلون تحركات "الزمكان" بمثابة خلفية تجري أمامها الحوادث, هذه الخلفية تتيح عرض الأبطال في أوضاع غير اعتيادية ,ولا بد من الاعتراف بأنها خلفية ذات إمكانيات لا حدود لها حقاً.

2

انظر إلى ما فعله الروائي السوداني الطيب صالح في شخصية روايته الشهيرة بندر شاه حيث قدَّم صورة مدهشة للحفيد مريود وكأن الزمن عاد إلى الوراء فعلاً, وهذه من العجائب المدهشة, يقول الطيب صالح في متن الرواية: لم يكن عجبنا ينتهي من التشابه الغريب بين بندر شاه وحفيده مريود, فقد كان الحفيد في هيأته وسلوكه مطابقاً تماماً لجده, كأنما الصانع العظيم صنعهما في وقت واحد وقدَّم لأهل البلد بندر شاه ثم بعد خمسين عاماً أو ستين عاماً قدم لهم بندر شاه مرة أخرى على هيئة مريود. تخيَّل توأمين تأخر وصول أحدهما عن الآخر خمسين أو ستين عاماً. القامة والوجه والصوت والضحكة والعينين نصوع الأسنان نتوء الذقن القومة القعدة وطريقة المشي. وحين يصافحانك ينصبان على يديك بالجسم كله وينظران إليك لا كما ينظر بقية الناس وجهاً قبالة وجه بل من جانب الوجه نظرة ودودة ولكنها متمعنة متفحصة. و حيث تقف بينهما تُحس كأنك بين مرآتين وضعت إحداهما قبالة الأخرى كل واحدة منهما تعكس الصورة نفسها في امتداد لا نهائي.

تأمل في هذا التصوير المبدع الذي جاء به الطيب صالح حيث عمل على تحويل البعد الرابع إلى حقيقة واقعة . هنا يتجلى "الزمكان" عبر ضرب من الفن الروائي الرفيع لا تستطيع استحضاره إلا قلَّة من الروائيين المبدعين الذين يمتلكون هذه القدرة الباهرة على بناء ورسم الشخصيات.

3

أبادر هنا و أعرض رأياً, قد يكون غريباً بعض الشيء, استقيته عبر سنين طويلة من المتابعة - وآمل أن أكون صادقاً فيما ذهبتُ إليه- أدب كل من الأديب المصري يحيى حقي و الأديب السوري حسيب كيالي و الأديب السوداني الطيب صالح ينضح من إناء واحد يتمثل في لغة تنهل من تراث عربي عملاق, وهي لغة حية أنيقة رشيقة شاعرية عذبة في جرس كلماتها و إيقاعها وشفافية مضمونها.إننا نعيش في أعمال هؤلاء الأدباء الثلاثة نسقاً من التأليف الروائي المُبدع, وكأن بينهم وبين القلوب نسباً وبينهم وبين الحياة سبباً, بل قل لقد فارت الحياة من بين سطورهم. إنها واقعية فنية حافلة بالخيال الجامح المتفرد.وأُعطيك مثالاً واضحاً عن العبقرية اللغوية الفذة حيث يفتتح الطيب صالح روايته عرس الزين بقوله:

قالت حليمة بائعة اللبن لآمنة - وقد جاءت كعادتها قبل شروق الشمس – وهي تكيل لها لبناً بقرش:

-سمعت الخبر؟ الزين مو داير يعرّس.

وكاد الوعاء يسقط من يدي آمنة واستغلت حليمة انشغالها بالنبأ فغشتها اللبن.

أنظر إلى هذه اللغة الموحية التي تعمل على استكشاف أبعاد الشخصية في لحظة الفعل الإنساني المشبع بالحركة في "الزمكان". فحين تسأل حليمة جارتها آمنة هل سمعت الخبر؟ لا تترك فرصة لآمنة كي تجيب بل تقول مباشرة: الزين مو داير يعرّس . وهذه اللهجة السودانية الحميمة يحملها الطيب صالح على رافعة لغوية قادرة على إدهاش القارئ , وأعد النظر في هاتين الجملتين (تكيل لها لبناً بقرش) (استغلت حليمة انشغالها بالنبأ فغشتها اللبن)هذا الإبداع اللغوي الفذ يشبه عمل النحات الذي يُبدع من مادة خام صورة تخطف الأبصار و تُعاند عاديات "الزمكان".

4

يكتب حسن أبشر الطيب في مقال منشور تحت عنوان في الهجرة إلى الطيب صالح:

إن العمل الإبداعي ينبني في شكله وفي مضمونه على درجة كبيرة من الإدراك و الفهم المتكامل للظاهرة التي يعنى بها وتلك حالة لا تتأتى إلا بالاستئناس بها وبالتفاعل بما تنطوي عليه من ثراء. ومن هنا يبرز إلى موقع الصدارة أثر البيئة السودانية الريفية في أعمال الطيب صالح. فهو يتمثلها في معظم المواقف شكلاً وموضوعاً. ولعل ذلك يعود إلى ثلاثة أسباب رئيسة: أولها تلك الذكريات الدافئة الحميمة التي التصقت بذاكرته عن سنوات طفولته وصباه الباكر التي نعم فيها بالحياة في قريته تلك الوادعة الهانئة بين أحبابه وأترابه. قرية تماثل ود حامد في الشكل والجوهر. وثانياً: إن غربته لسنوات طوال قد عمقت في ذاته هذا الالتصاق الحميم ببيئته وكشفت اعتزازه بها لانتمائه الصادق لها ولما رأى من تناقضات لا تماثل طبعه وذوقه في بيئات أخرى. وثالثاً: إن غربته قد منحته الفرصة للنظر من بُعد بغية استقراء واستجلاء دقائق الحياة في بيئته تلك البريئة الوارفة الظليلة بعطائها الوافر ومواطنيها الطيبين.

كلام حسن هنا ينطبق أيضاً و بشكل مذهل على أدب يحيى حقي وحسيب كيالي. هذه القامات الباسقات تشترك في هم واحد يتجلى على حد تعبير الطيب صالح في خلق شخصيات ملحمية في سرد قصصي وروائي مُدهش. وقد زعم في عدة مناسبات - وعساه يكون زعماً مقبولاً-أنه حوّل شخصيات المنطقة التي عاش فيها إلى شخصيات ميثولوجية ملحمية على غرار شخصيات هوميروس -لأننا كما نعلم شخصيات هوميروس كانت شخصيات عادية من رعاة ومزارعين في بلاد اليونان- ولم يجد الطيب صالح غضاضة من فعل ذلك, أي تحويل شخصياته إلى شخصيات ملحمية على غرار الشخصيات التي عرفها في شمال السودان وإن كان من عرفهم شخصيات عادية. وفي هذا السياق قال حسيب كيالي في لقاء لي معه على فنجان قهوة في دبي: إن الكثير من شخصيات قصصه وحكاياته والتي رسم ملامحها الشعبية بصدق شديد موجودة في بيئة مدينة إدلب وأريافها في الشمال السوري . ولعل شخصية التوم و سعيد المجنون -مجنون إدلب الشهير- من تلك الشخصيات البسيطة والتي تحولت في نص حسيب كيالي إلى شخصيات ملحمية على غرار شخصيات هوميروس اليوناني.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى