عبدالرحيم التدلاوي - قراءة في إضمامة "لاحد لي" لعبد الرحمن موكلي

توصلت من الباحث و الناقد و المبدع، بباهواري خليفة، بأضمومة شعرية تحمل عنوان، لا حد لي، للشاعر السعودي، عبدالرحمن الموكلي، الصادرة عن ندار الجبل، للنشر و التوزيع، في طبعتها الأولى، سنة، 2012.
و هي أضمومة تتكون من تسع و أربعين نصا ، في وعاء ذي سعة ست و ستين صفحة.
قلت في نفسي، و قد حصلت على الهدية المباركة، لأغتنم عذع الفرصة السانحة لأخلو بنفسي مع باقة من الشعر، فهو المخلص الوحيد من هذه الحياة الآلية المكيفة لكل شيء. ذلك أن الشعر يعود بالإنسان إلى حياته الشعورية الفطرية التي هي منبع الإحساس بالجمال، و بالحق، و بالخير قبل أن تتلوث بالماديات، و تطمس ينابيعها.
قرات هذه الباقة ثمرة ثمرة من ثمار مائدة الديوان، لان هذه القراءة على الأقل حركت في نفسي الكثير من الأحاسيس و المشاعر النبيلة.
و قد قرأتها غير متبع في عرضها أي منهج من مناهج التحليل و النقد، و إنما تركت نفسي على سجيتها، فيكفي انفعالنا بالشعر و تجاوبنا معه، و اهتزازنا لموسيقاه، و ارتفاعنا مع أخيلته، و غوصنا في أعماق معانيه، لأن ذلك، في نظرنا، هو مقياس كل نقد و تقويم.
أغلب النصوص النصوص جاءت قصيرة جدا ، بحيث لا يتجاوز حجمها الصفحة الواحدة، مما يجعلنا ندرجها ضمن القصيدة الومضة.
فما الومضة؟
الومضة لغةً من«وَمضَ» و ومضَ البرقُ: لمع خفيفاً، و أومَضَتِ المرأةُ: سارقتِ النّطر، و أومضَ فلانٌ: أشار إشارة خفية. و في هذا المعني شيءٌ مِن اللّمعان و التلالُؤ و التألُق و الإشراق و التوهُّج و فيه شيءٌ من الإدهاش و التشويق و فيه شيءٌ آخر من الشفافية و الغموض الآسر و عدم الايضاح لکلّ شيءٍ. و فيه شيءٌ آخر مِن التکثيف و الاختزال و الاقتصاد اللّغويّ. و قد قيل: «البلاغة هي الايجاز» کما قيل «خير الکلام ما قلَّ و دلَّ».«و يتداخلُ مع معني الومضة، البرقية و لذلک يقال: «القصيدة البرقية، القصيدة الومضة و هي قصيدة مکثفة و مختزلة جدّاً.» (االموسي، 2005/ موقع اتحّاد الکتاب)
إذن فهي نصٌّ أشبه مايکون ببرقٍ خاطفٍ يتسم بعفوية و بساطة تمکنه من النفاذ إلي الذاكرة للبقاء فيها معتمداً علي ترکيزٍ عالٍ و کثافة شديدة مردّها انطباع کامل واحد مستخلص من حالة شعورية أو تأملية أو معرفية عميقة إذن فهي تتوفّرُ علي الترکيز و الغني الواضح بالايحاءات و الرّموز و تدفقُ رقراق و انسياب عضوي بديع لوعي شعريّ عميق. فالشکل نصٌّ مختصرٌ مختزلٌ بأعلي قدرة للاختزال.1
طيمة الكتابة
من الموضوعات التي لفتت انتباهنا، الحضور المهيمن للحب و مسألة الكتابة، كلازمة دلالية و شعرية و ايقاعية متكررة و متجددة ، مما يجعل من ديوان، لا حد لي، نشيدا شعريا متلاحما موزعا إلى وقفات أو معزوفات شعرية مختلفة و مؤتلفة في الآن ذاته، يسري بينها و عبرها خيط شعري و شعوري ناظم و لاحم.
الاحتفاء بالكتابة
هذا الاحتفاء البهي و المشع بالكتابة و العشق و الشوق..يكمله احتفاء بهي آخر بالشعر و بأعراس القصيدة ضمن قصائد هذا الديوان. إن ما يبهجنا و يدهشنا فعلا، هو هذا الاحتفاء الجميل بالشعر و الحياة، رغم كل المشاق و الخطوب المعاكسة لأحلام الشعر و الحياة.
و كديل على ما سقناه، قصيدة، أتمخطر، ص 47،المعبرة على ألم الكتابة و عشقها.
يقول الشاعر فيها، و سنفرد قراءة موسعة قليلا لها،
ليس على اإطلاق
أمر تحت أقواس النصر
..................................
بل أتسلل تحت قصف الشعر
حيرتي تنكأ الأرض
و يقيني يجرح السماء

من الملاحظ أن الشاعر قد قسم نصه إلى مقطعين، و جعل بينهما فاصلا فارقا، في المقطع الأول رفض لحقل يعده مخربا رغم ما يجلبه من سعادة نصر، و في الثاني، يخبرنا عن معاناته الابداعية، بواسطة جملة، قصف الشعر، فكلمة القصف، مجلوبة من حقلها العسكري لتأخذ معنى مغايرا، إنه معنى الألم و المعاناة، غير أنها معاناة لذيذة، لكونها تحقق البناء و السمو إلى أعلى. كما يلعب التضاد دورا مهما في إبراز هذه المعاناة اللذيذة.
إنه توكيد من خلال هذا النص و غيره من النصوص، سرت لي مثلا، ص 28، كلك أنا ص 29..، التي تخترقها قضية الشعر و معاناة الكتابة، أنه شاعر ملتزم بالشعر و ملتحم به، مسكون بجمرته المقدسة و مهموم بأمره و سحره، لا يملك عنه حلولا، و لا منه فكاكا.
و هذا العشق الصوفي*المدنف للشعر ظاهر في لغة الشاعر الشعرية، المكثفة و المقطرة بحساب، كما هو ظاهر في أخيلته و طريقة بنائه و توليفه لجسد القصيدة.
هذا العشق الجارف للشعر هو الذي جعل الشاعر يتهيب و يخشع في حضرة الشعر، فتأتي قصائده مقطرة و مكثفة.و جريا على عادة العرب، فخير الكلام، و هنا في الشعر، ما قل و دل، و لم يصب القارئ بالملل و الضجر.
طيمة الحب
لا شك في أن الجمال و الحب و تجربة العشق من أحفل الينابيع بالمشاعر في الوجدان البشري، لأن حديث الشاعر عن الحب، هو بالنسبة لكل قارئ، حديث عن مشاعره بالذات و غوص في أعماق وجدانه، حيث تتجاوب الأصداء كما تتجاوب الأشعة على أفق البحر..
و بناء عليه، نرى أن نصوص الأضمومة تحتفل بالحب ، و بمباهجه، فلاي كاد يخلو نص من نصوصها من هذه الكلمة الشاعرية و السحرية، فهي، نتيجة تواترها، تشكل أحد اهم مفاتيح المجموعة..
و من النماذج الدالة على ما سبق ذكره، النصوص التالية،'قال' ص 25، 'بلا أسف' ص 27، 'صورتها' ص 14، و غيرها من النصوص.
و قد استوقفني نص'افرد جناحيك'ص 26، و لي معه الوقفة التالية، في ارتباطها بالطيمة المفتاح..
فالنص يحمل عنوانا بصيغة الأمر، يدعو بصريح العبارة إلى إفراد الجناحين حبا، و التحليق عاليا في ربوع المحبة الغامرة بالخصب، خصب المشاعر الدافئة التي تملأ ثنايا الأضمومة بماء الحياة، و ترفدها بالأحاسيس الطيبة، في علاقة الرجل بالمرأة؛ إذ لا حب من دون أحد الطرفين. فالقطبان معا ينشدان الانغمار و الاندماج و الانصهار في بعضهما. لذلك كانت القصائد لحن افتتان بالطرف الآخر، و رسم مسار و مصار التفاعل البهي بين الطرفين..
افرد جناحيك
كلما تختمر الحروف بروحك
..............................
افرد جناحيك
افردهما ليطير الحبيب

إن التكرار عامل فني و أسلوبي يدعم حقل الإفراد لغاية طيران الحبيب، و هو فعل يتكئ أساسا على نتيجة يتوخاها الشاعر و هي تحليق الحبيبين؛ إننا أمام طيران الطرفين و قد انصهرا..
و ليس غريبا أن يجمع الشاعر في نصه هذا الحب و الكتابة في نسيج واحد، لان الطيميتن مندغمتين كاندغام الحبيبين.
و هذا الحب سنجده، كما أسلفنا، فاردا جناحيه في معظم قصائد الأضمومة، مما يدفعنا إلى القولن، إنه الطيمة الكبرى التي تحتوي باقي الطيم، و و تسلكها في عقدها.
إن الطيمات الأخر العازفة للحن الحب بمختلف تلويناته و دلالاته، من عشق إلهي ، و حب نسائي، و وفاء للصديق، هي الطيمات التالية الحنين و الحرية و العدل، و قد قام الشاعر برسم معالمها في عتبة الإهداء الموجه للأجيال الجديدة، هاته الاجيال التي وهبت و ستهب أرواحها فداء لقيم الحرية و العدل، و ستعزز ثورتها بكل معاني الجمال..
و نحن نلمس من خلال هذا الإهداء ، و التركيز على هذه القيم، إشارة المبدع إلى تلك الفئة التي كرست حياتها للنضال من أجل عالم جميل، و أثثت كتاباتها الجديدة بصبر النساك لأجله، إنها صاحبة كتابة منزاحة عن الكتابات السابقة ، المتكلسة ، أي المصابة بارتفاع كوليسترول الثبات و من ثم التبعية لانموذج ما عاد قابلا لمواصلة الحياة، لانه صار نموذجا يمجد الظلم و التكلس الفني و الجمالي معا..بمعنى عدم قدرتها على التجدد المستمر..و يأتي نص، 'لا حد لي'، ص 46، و الذي منح الأضمومة عنوانها، ليؤكد ما سلف.
أنه نص يؤكد أن الشعر استشراف ما لم يوجد بعد، إنه اللامحدود و اللامعروف بعد و الذي ينسحب على أشكال البناء قدر انسحابه على المجاهيل الاستبصارية غير المطروفة، التي ليس له من خيار في اقتحامها و تخييلها. إنه نوع من الهروب إلى الإبداع كأفق جاذب لا مفر من تصويب خطى الكتابة الشعرية في اتجاهه.
يقول الشاعر مؤكدا ذلك
يا من مثاني هواك على الليل
رضاك و الفجر ساني
لما الصباح يدندن
و الشمس توزع ناياتها
.............................
و أ نالا حد لي في سمائك
سوى لفظ مائك
لطفا كساني
إن النص يحتفل بميلاد الكتابة الجديدة، عبر مجموعة من اللفاظ ذات الارتباط، الفجر و الشمس و الناي..
كما أن الأضمومة تشير إلى بحثها المحموم عن صوتها الخاص بها بحث يستوعب أفضل ما قدمه السابقون، ليكسب سمته الخاصة بنزوعه صوب المستقبل. نزوع إلى إنتاج واقع التخيل ، و الحلم، مما يطور المعرفة الشعرية و يعمقها..إنها ممارسة شعرية متقدمة و بناء وعي أوثق إلماما بطبيعة هذه الشعرية بمحدداتها و باختناقاتها في آن.
اليل و النهار
ان توسم وحدات لفظية محددة النسيج النصي للمتن، و تتحول إلى بؤرة ترميزية و تتقعرات إشارية، أن توظف ذاتيا أو توسطيا بإبدالاتها المتنوعة، ان تتعالق، جدليا، فيما بينها، متصادمة ، في نفس الوقت، إما مفردة او متضامنة مع وحدات لفظية مقابلة، هذه الخواصج جميعها تخول لها صفة العناصر اللغوية التكوينية الأساسية.
و حتى نبين الطابع المعيمن لهذه الوحدات، على سبيل الايضاح، تواترات لفظتي "الصباح"و "الليل"، بما هما رديفان لبعضهما البعض، تتبادلان المواقع تضادا و تضامنا، مما يحقق انسجام النص.
هذا الملمح النصي هو ما يعطي هذه الوحدة طابعا هيمنيا منتجا لا محالة، باعتبار أن قراءة الكلمات الأكثر تواترا ، تبدو ذات مردود و ثرية بالمعلومات. إنها ذات اتصال بموضوعاتية الشاعر و متخيله.
حصلت الكلمتان، "الليل و النهار" على درجة تبئير مرتفعة، قوام العالم الحقيقي هو التآلف المتوازن بين الأضدادن فمن وراء صراع الأضداد، وفقا لمقادير محسوبة، يكمن انسجام خفي أو تناغم هو جوهر العالمتواترهما و تضادهما يصنعان تجربة الشاعر ، لأن الانتقال من الليل إلى النهار هو انتقال من لحظة تتميز بالسكزن و التأمل إلى صخب النهار و نتوءاته.
يقول الشاعر، في قصيدته، "كلك انا" ص 29
و طعم صبوحك تحت اللسان
و جلال عذاب متى بان ؟
هنا يجمه بين الصبوح و العذاب.
و يقول في قصيدته، إلا التب" ص 52
لكم حملت من ذنوبي
و سرت رافعة شعائر ليل
يسمونه ليل الغريب
إذ يربط الشاعر هنا بين الليل و عذاب الاغتراءن و لنا أن نستشف أبعاد هذا الاغتراب، فيمكن أن يكون بفعل انفصال الشاعر عن المجتمع لحظة مكابدة أرق الإبداع.
كما يقول في قصيدة، "لا سواك"ص 62، جامها بين الإبداع و الليل
لا سواك يرضي خيالي!
إلا أكابر أعنية
يعصب بها الرأس
.................
في الليالي،
الليالي
ها إننا نراه يكرر لفظة الليل بما أنها لحظة المعاناة، بحثا عن اغنية يعصب بها الرأس، إذ تعصيب الرأس ما هو إلا دليل على ألم الكتابة و معاناة شدتها.
و يقول في قصيدته، يا سمييّ" ص 16، جامعا بين الصباح و المتعة،
كيف صباحك؟
........................
صباحي تتمخطر به الكأس
_إلى الآن حافلة بالندى_
يا سمييّ مر علينا.....
مرور الحكاية بالشعر
أقل القليل
تتصابى جراحك
لا شك في أن الشاعر و قد تجاوز لحظة الإابداع و معانته، قد أحس بالمتعة و الاسترخاء، يدل على ذلك، توظيفه للفظتين معبرتين جدا، هما، الندى و الكأس، غن إشراقة الصباح لحظة زمنية قطعت مع الليل و عذابة، و يحق للسميي أن يمر عليه لمشاهذة ما أسفر عنه من نتائج، و لكي يستمتع صحبته، إذ الكأس بحاجة إلى قرين مشارك..
إن هذا الإلحاح على إخضاع الزمن الشعري لنوع من الإسقاط الليلي ليجسد ، في الحقيقة، نزوعا عميقا صوب جوانية الكينونة و ديجورية البدايات، نحو الدرجة الخام لزمن العالم، هنالك حيث يجري ذلك التقاطع، بين قطب الحياة و قطب الموت، و حيث يصير الوعي الشعري وجها لوجه أمام الجوهر المطلق الناظم لمصير الذوات، بما هو جوهر حتف و فناء.
فالتعلق بالليل ليس أكثر من غياب إلى الأم، أو هبوط جهة الأمهات، إنه مجمع تلك العلامات التي تنعقد في إهابها، بشكل مبهم، كل من غريزة الحياة و جاذبية الموت.*
إن الليل الذي يحضن طقس الكتابة و حبها الغامر، ليل طافح بأبنية مشهدية مركزة للحزن، و الغربة، و الموت.
يقول في قصيدته، " أحلى " ص 15، جامعا بين الليل و مكابدة الإبداع، و مؤكدا ما ذكرناه سابقا،
في حنايا الغلس
تحلو مراوحة الماء للماء
و تصابي كلامك
يكهرب هذا العماء
...............................
حبيبي أقرب قليلا
أقرب مني
حتى تكابد جنوح القصيدة
...
و في قصيدتهن "سلام"، ص 13، نراه يؤكد على ذلك الافتتان باللجظة الأمومية، حيث الصفاء و الامان، و متعة دفء الرحم،
سلام محبوب قلبي
لا مس تلك السماء
و هو في المهد ماء
الاغتراب يصبح مقرونا بالحلكة، و الحب يضحي ملازما للقتامة، و الموت يمسي مدثرا بالدكنة. فالليل يفيد ذلك الصفاء الجواني المثالي المجافي لنهار الوجوود و عمائه.
يقول الشاعر في قصيدته، " ماكان؟"ص 59
ما كان محتسبا كلماته ذخرا
لكن
يحب رفيفها في جانب المأوى
يبارك هدأة ليلها
و نتوء نهارها
و يقرب النجوى من النجوى.
ها إننا نلاحظ اقتران الليل بالهدأة و اقتران النهار بالنتوء بما هو قرين العذاب. الليل لحظة احتضان طقس الكتابة بخلاف النهارن و نؤكد على ان الليل و النهار، لا يأتيان دوما بهذا المعنى، في الاضمومة، و لكن، يغلب ذلك عليها.
إن الأنا الشعرية تلتجئ إلى ملاذ ليلي متخيل تنفي به نهار الوجود هذا، اي أنها تحتمي به من جلبة نهارية مسطحة متخيلة و تدنو به من هدأة ليلية عميقة، متخيلة هي الأخرى، و بالتالي من جوهر العالم، و فيما يكون طقس الحب ليليا خالصا، يستره ظلام المكانèالرحم الرمزي.
إن إعلاء شأن الليل هو تعبير عن نفور خلاق، تحسه المخيلات النفاذةن من ايتئاس النهار، من رتوبه، و من طهرانيته الجوفاؤ. فالليل هو مثوى المباهج و الآلام المدمرة، مثلما هو محط الانخطافات و الآثام العاصفة و موئل الخطوب و الخبرات العالية، و مستقر الحدوس و التعرفات الفائرة.
الايقاع

لعل مقاربة المستوى الايقاعي في المتن بقدر ما هو انتقال إلى مستوى آخر من مستويات البناء الشعري، هو بالأساس، تموضع في لب الفاعلية الشعرية. فكون النص الشعري علامة ايقاعية في المبدأ يجعل الكون الايقاعي المرتكز المعياري الرئيسي في الإقرار بشعرية النص أو عدمها.
و في قصيدة الومضة فإن ما يحسم في تقييم شعريتها، على الوجه الأغلب، مدى تماسك ايقاعها الداخلي، أو تفككه..
و سنركز على عنصرين اثنين من عناصر الايقاع، هما: التدوير و التكرار، كونهما عنصران يحضران بكثافة في الأضمومة قيد الدرس.
التدوير
هي طلاقة تركيبية بغير إعاقة تفقيرية، لكونها تبرز مقدرات اللغة الشعرية و هي تلاحق ايقاع النص الشعري و حركيته.
و من الأمثلة الدالة على حضوره ، نص، "صورتها" ص 14،
تجري على القلب صورتها
الموشاة بعنفوان سيرتها
تجري...............
و يجري نعناعها في كلامي
من أقاصي غرامي طلعتها
...............
فالواضح أن التدوير في هذا المقطع جاء ليمنح النص انسيابا و جريانا بدون عوائق تحد من طاقة فعله السائر في الكلام منعشا و مغذيا. إن صورة الحبيبة ينبغي لها أن تظل حاضرة في قلب العاشق تسري فيه سريان الدم في العروق، و لذا كان التدوير إعلاما بهذا الفعل و تأكيدا له.
كما نجد التدوير في قصائد أخرى، منها، قصيدة، "أحلى" ص 15،
في حنايا الغلس
تحلو مراوحة الماء للماء
و تصابي كلامك
يكهرب هذا العماء
................
و ليس غريبا أن يحضر الماء كسائل يبغي الجريان و لا يقبل وجود عوائق تحد من انسيابه.
فالحلاوة لا تتم إلا في الغلس، و لا تكون إلا بمعانقة الماء للماء، معانقة تؤكد الاستمرارية لا الانقطاع، و لذا نرى التدوير ينهض بفعل الاستمرار حيث يرمي الجمل في بعضها تسلسلا و تتابعا.
كما أنه يحضر في قصيدة" أتمخطر" ص47، بدلالتين مختلفتين.
فهو عائق من جهة، و موصل للحركة من جهة أخرى.
ففي المقطع الأول، يكون فاعل انفصال، إذ يعمد إلى تكسير الجملة، و تدمير تراتبيتها، مشيرا بذلك إلى التجمير المحدث بفعل الحرب. إن الجملة و هي تأتي مكسرة تخلق لدى المتلقي صدمة ، تتجلى في الصعوبة التركيبة، حيث تلزمه بإعادة ترتيب عناصر الجملة بفية القبض على انسجامها..و من هنا إدراك سبب الكسرالموجود.
بخلاف المقطع الثاني الذي يعمل على ربط الجمل في ما بينها و الأسطر بعضها ببعض. بهدف إبراز التضامن و الانسجام الحاصل فيه. إن التتابع هنا يؤكد على فعل الإبداع، و هو فعل يضاد الانقطاع و يرفضه لصالح التتابع المؤكد للانسجام.
بناء عليه، ندرك أن التدوير في المقطعين لم يكن عبثا بقدر ما كان عنصرا بانيا للدلالة و مولدا للمعنى.
التكرار

إن التكرار إن لم يكن له مبرر نفسي عد إملالا و سخفا. و يعتبر ارتفاعه أهم الظواهر الأساسية التي تميز تنظيم الفن الإبداعي.
يقوم التكرار و التوازي في الأضمومة مقام الوزن و القافية.
إن كان التكرار قناة من قنوات الإشباع الايقاعي(تكرار الحروف و الكلمات و العبارات، أو الفقرات أو مقاطع أو جمل شعرية كبرى .)، فإن منتهاها يكون في جميع الأحوال، إلى نسج تشكيلات لغوية، و تركيبية، و ايقاعية، و دلالية، و تخييلية، تستزيدها القصائد في مواقع نصية متوازية أو متخالفة.
إن تكرار الكلمات يمتلك وظيفة ايقاعية جد متنامية، إذ يحول الحركية إلى شيء ملموس. فالكلمة المكررة توقفنا و تدعونا ، في الوقت نفسه، إلى متابعة الحركية.
ففي قصيدة " قم يا ثبيتي" ص 30، و هي أطول النصوص، يقول الشاعرمخاطبا الثبيتي :
بحق الجراح انتصبت عليها
من كمثلك ؟
عنبرا أخضرا
بحق صبا الروح !
يا لصباها أرهفها الشعر
بجاهك أرهف حد الكرى
بحق الصباح واقفا عند بابك
بحق المساء منتظرا لعتابك
بحق النساء يضئن جنابك
بحق الطفولة تتهجى كتابك
تأتي لفظة "بحقك"مشعة، فبقدرما يلجم انثيالها التلفظ الشعري فإننا نلفيها تلولبه و تفرش له أرضية انحناءاته الدلالية و استدارته الزمنية، بمعنى أنها تعمل على تحديده من خلال موضعته داخل منسقية جديدة، و تضعّف له زمنيته عبر ما تراكمه من أمداء ، زمنية، و ايقاعية، متناظرة.).
إنها لفظة ملولبة تبئيرية لا جدال فيها، أثمرها التكرار.
فاللفظة بتكرارها على مستوى البداية تمتلك تبئيرا على دلالة الحث على الانهاض.
و لم يكتف الشاعر بتكرار الكلمة السابقة، بل زاد على ذلك بتكرار لفظ بضده، إنه البعد الزمني، الصباح و المساء، زد على ذلك تكرار التركيب المتمثل في الصيغة التالية،
جار و مجرور+المضاف إليه+الفعل المضارع، و ذلك على مساحة المقطع بأكمله.
و لعلها طريقة بليغة تشير إلى وقع سقوظ الثبيتي و مسعى الشاعر المحموم لتفادي ضياعه، و كأني به تعبير عن الذهول الذي أصاب الشاعر جراء سقوط المحاطب، و الخوف من فقدانه.
و نرى أن الأضمومة تحفل بالتكرار في غير ما هذا النص.
مثلا نجد له حضورا في الصفحات التالية، 11و 14 و 19 و 29 و 40، إلخ..
دون أن نشير إلى استثمار الأضمومة لتكرار الحروف الحاضر بقوة، و التكرار بالضد..و غيرهما. خاتمة

خلاصة القول أننا نجد أنفسنا مع ديوان " لا حد لي"، أمام شاعرية متدفقة، و شعرية ثائرة تحسن توظيف اللغة و الصور الجميلة، لم تتقيد في شيء بالشعر العمودي، و لا بشعر التفعيلة، و إنما اختارت الطلاقة الشعرية في فضاء حر، فإلى اي حد سيتم تقبل مثل هذا الفعل الشعري المنطلق ؟

(قائمة المراجع)
يتبع. مع الخاتمة و المراجع.تم الاعتماد، لأنجاز هذه الورقة، بشكل كبير، على المرجعين التاليين
1_أيتام سومر،في شعرية حسب الشيخ جعفر، ج1،بنعيسى بوحمالة،دار توبقال للنشر، ط 1، الدار البيضاء 2009.
2_دراسة لديوان، وردة المستحيل، للشاعر، محمد الشيخي، و هي دراسة مدرجة في الديوان، ط1، سنة 2002.
.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى