فؤاد قنديل - مصطفي الأسمر.. يشاطرنا الأحزان

أظن أن كل من سيحاول الكتابة عن مصطفي الأسمر بعد رحيله الصادم سوف يعاني كثيرا مثلي لأنه كاتب يستحق البكاء طويلا عليه لعدة أسباب ، سيأتي لاحقا ذكرها .

قرأت له "المألوف والمحاولة " قبل أن أتعرف عليه في ندوة أقامتها جمعية الرواد الأدبية بدمياط عام79 فيما أظن لمناقشة روايتي "السقف " التي صدرت بالماستر ودهشت كيف أن أدباء دمياط جميعا قرأوا الرواية القصيرة المطبوعة طبعةهزيلة ولم تخرج من القاهرة . تحدث الجميع إلا الراحل الكريم لكنه تحدث لي وحدي معددا ما رآه من ملاحظات . التقيت مصطفي عدة مرات بعضها في دمياط وبعضها في القاهرة .تحمست لنشر روايته" الانفلات "في سلسلة " أصوات "التي أسستها في هيئة قصور الثقافة . لاحظت كم هو طيب ومتواضع ويميل للصمت وهكذا في الأغلب من جُبل على التأمل . أخي مصطفي وهو أديب كبير بحق وليس خضوعا للحظة الوداع والبكاء على قبره وليس من قبيل المبالغة في ذكر محاسن الراحلين هو أكثر كاتب مصري( عشرة آلاف كاتب على الأقل ) شغلته شئون بلده ولا ينافسه في الوطنية كاتب آخر ، ولم يكتب حرفا إلا عن هموم الناس ، وآخر ما نشر له قصة قصيرة في "أخبار الأدب "يوم السادس من أكتوبر بعنوان " الحصان" ،ولأنه كان يدرك تمام الإدراك أن النص الأدبي إذا اكتفي بسرد الهموم واندمج مع تفاصيلها يدفع الفن للهروب ، لذلك لاذ نصه بالفانتازيا لتكون منقذته وسنده في حربه الضروس ضد التخلف والاستبداد والقهر والجهل ..
تعددت اهتمامات كاتبنا الأدبية بين القصة القصيرة والرواية والمسرحية ، وبلغت نحو خمسة وعشرين كتابا بالإضافة إلى خمسة لم يتم طبعها ، من هذه المجموعات والروايات : لقاء السلطان . الصعود إلى القمر . انفلات . غوص في مدينة . الحظ . ابتسموا للحكومة .حيوانات . هذه الأقوال .. لكم . جديد الجديد في حكاية زيد وعبيد . الغالب والمغلوب . رحلة "س " . وآخر ما صدر له روايته " الرعية تبتسم ..والحكومة تشاطرها الأحزان " ، وهذه الرواية تتشابه كثيرا مع معظم أعماله التي كان الباعث إلي كتابتها هموم الوطن ، وقد كان مرتبطا به بصورة لا أظنها تتكرر ، ولم يكن هدوءه غير قشرة سطحية تخفي تحتها عالما بركانيا يمور بالحمم ويرجه رجا من فرط إشفاقه على البلاد المكلومة في حكوماتها وقادتها بشتى أطيافهم .
تمتع الأسمر وهو أحد أبرز كتاب مصر بالتواضع الشديد الذي يصل إلى حد الغرابة لكنها طبيعته التي فطره الله عليها ، فلم يكن يحتج في العلن على تقصير الحركة الثقافية في حقه وتجاهل النقاد له ، لأنه كان مهموما بمعشوقته ويري أنها هي التي ظلمت حتى انشغل بها عن نفسه . العام عنده كان أهم من الخاص ،وهو وإن كان قد نال بعض الجوائزلكنني أري أنه لم ينل حقه من الدرس ، فكثيرمن النقاد لم يحفل بالعكوف على نصوصه التي يمتزج فيها الواقع بالخيال ، فقدكان حريصا على أن يحول كل موقف إنساني وفي العادة مستفزككثيرمن المواقف المصرية إلى أمثولة تتضافر فيها ملامح من الحقيقة التي نعرفها وتركض من حولنا وبين إبداع خيالي يجعل من هذه الحقيقة بللورة مثيرة وشائقة .وهكذا كانت كل أعماله تقريبا يعبر عنها عنوان أول مجموعة "المألوف والمحاولة ".
من سمات أسلوب الأسمر الفنية الميل للسخرية حيث يتمثل سلوكيات الشخصية جيدا حتى يلتقط ما يختزلها بدقة فيطرحه للقارئ من أجل تعميق فهمه للشخصية وللموقف وما وراء الستار . ومن سماته أيضا عشقه للموروث الشعبي الذي لا يفتأ يستدعيه في كل عمل ويوظفه توظيفا جديدا وسديدا. ومن سمات أسلوبه السردي تجنب البدء بالثرثرة والإنشائية وإيثارالدخول إلى العالم القصصي مباشرة بالبدايات الجذابة المغلفة بغلالة رقيقة من الغموض الشفيف وتتسم في العادة بالحيوية .
مما يؤسف له أن المجال لا يتسع لمزيد من التعبير عن عطاء الأسمر المميز ، لكن الأمل أن تتولي ذلك كوكبة مخلصة من النقاد ، وأن تحرص الأسرة الكريمة وخاصة والده الأديب الأستاذ أيمن على نشر كافة أعماله وترتيب منظومة من الجهود والمبادرات التي تعيد تقييم آثار هذا الكاتب الأصيل والوطنى النبيل .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى