ياسين عدنان - عبدو المسعوف

الفصل الأول
من حسن الحظ أن الكُتّاب غير مجبرين على أخذ الموافقة من الشخصيات الحيّة التي يرغبون في الاشتغال عليها وإلا فإن عبدو المسعوف ما كان ليقبل أن تُختزل الأبعاد الغنية لشخصيته الفذّة في قصة قصيرة. حتى ولو طالت هذه القصة لتتجاوز العشر صفحات. لأن المسألة مسألة مبدأ كما يكرر الرفيق عبدو دائما. فمسيرته النضالية الحافلة التي نشرتها صحيفة الحزب قبل بضعة أشهر على حلقات لا يمكن اختزالها في بضع صفحات. بل يحتاج الأمر إلى رواية محترمة من النوع الذي يكتبه عبد الرحمن منيف. يعني 350 صفحة على الأقل. فمرحلة النضال السري، فترة السجن، والهروب منه بطريقة لم تكن بطولية على ما يبدو لأن الرفيق عبدو تجاوزها تماماً في مذكراته. زمن المنفى، ثم العودة إلى الوطن لممارسة النضال الديمقراطي ذي النفس الطويل.. الطويل جداً. هذه كلها محطات لن يسمح عبدوالمسعوف لكاتب قصةٍ مُتسرع مثلي بأن يعبث بها ويختزلها في بضعة أسطر. والحقيقة أنني بدوري أستشعر صعوبة الكتابة عن شخصية من هذا الحجم. حجمه الذي زاد بشكلٍ لافت مُذْ صار وزيراً في حكومة وليِّ النعم. لكنني صراحة ولاعتبارات تتعلق أساساً بطبيعة الجنس الأدبي الذي أكتب من داخله لن أروي القصة كلها. سأتجاوز كل الحكايات المغرضة والملفقة على الأرجح. أقصد الحكايات ذات الطابع الجنسي التي تلوكها الألسن المسمومة في المقاهي الحقيرة. سأترك مثل هذه الترهات لمُناضلي المقاهي الهامشيين لأتوقف فقط عند بعض المحطات. لا.. لا، دعونا من المحطات. فأنا لست حافلة نقل عمومي. إنني كاتب قصة. وما يهمني بالأساس هو لحظات التحول المفصلية وبعض الحالات النفسية العصيبة التي مرّ بها عبدو المسعوف. لنأخذ مثلا لحظة تولّيه مسؤولية وزارة الكسل والنوم في العسل. إنها لحظة غير عادية بكلّ المقاييس. حتى أنني أجد صعوبة في وصفها بطريقة فنية. عموماً مثل هذه اللحظات لا يمكن وصفها. بل يجب الإحساس بها. حاول مثلا أن تضع نفسك مكان الرفيق عبدو. أعرف أنه أمرٌ صعب. لكن حاول مع ذلك أن تتخيل هاتفك النّقال وهو يرنّ على الساعة الخامسة صباحاً ليخبرك وزير الداخلية بجلالة قدره، وهو ما سيُؤكّده السيد مدير المخابرات شخصياً بعد ذلك، بأنك صرت وزيراً. وبأن نضالك الديمقراطي الطويل النفَس تُوِّج بنهاية سعيدة. وأن بإمكانك أن تخدم الجماهير الشعبية الكادحة والمكافحة من موقع جديد. فالوزارة ليست سوى موقع آخر من مواقع النضال الطبقي كما صرح عبدو المسعوف لجريدة الحزب مباشرة بعد حفل التنصيب. الجريدة التي أسقط رئيس تحريرها كلمة الطبقي من الجملة لتصير أكثر انسجاما مع الوضع الجديد خصوصاً وأن المناضل المعني لم يعد طاوياً. لكن المسألة كانت مسألة وقت فقط لأن عبدو سيُسقط كلمة النضال برُمّتها من قاموسه الشخصي بعدما خلص إلى أنها مجرد كلمة شعبوية صار بعض الموتورين والحاقدين يستعملونها فقط للمزايدات الرَّخيصة. مع تشديد الراء وتكريرها كما ينطقها صاحبنا عادة. ولأن الثورات الكبرى تحدث بالتدريج دائما فإن الرفيق عبدو لم ينجز ثورته الشجاعة على الذات بين يوم وليلة. بل كان حريصاً في البداية على الوفاء لرفاق الكفاح، وأصرّ على أن يضُمّ ديوانُه الوزاري أربعةً منهم.
- لكن يا أخي تعال لتتحمّلهم أنت؟ تصور أن عمر بلعوّاد مثلاً كان يجد صعوبة بالغة في أن ينطق لقب معالي الوزير. حتى في الاجتماعات الرسمية كان يقول لي: السي عبد الله. بل حتى "السي" لم يكن ينطقها بشكل محترم. كان يتلفظّ بها بطريقته المراكشية الخبيثة "زدي عبد الله". هكذا: "زدي"! ضع نفسك مكاني. تصوّر أن تكون وزيرًا محترماً في حكومة مُوقّرة. جميع الأطر العليا للوزارة وكلهم دكاترة ومهندسو دولة من خريجي أرقى الجامعات الفرنسية يكرّرون لقب معالي الوزير وهم يتوجهون إليك بالحديث أربع خمس مرات في الجملة الواحدة، ويأتي شخص تافه كعمر بلعوّاد، كلّ ما يتوفر عليه في نهج السيرة عشرون عامًا من السجن وإجازة بالية في الأدب العربي، ليُقِلّ أدبه عليّ ويخاطبني بوقاحة في اجتماع رسمي "زدي عبد الله". ضع نفسك مكاني وقل ماذا كنت ستفعل أنت؟ لا.. لا، عافاك. لا تُردّد على مسامعي تلك التفاصيل المملّة التي سبق لصحيفة الحزب أن نشرتها على حلقات قبيل الانتخابات. فأنت شخص فَطِن ولن تخفى عليك مرامي الحكايات التي قد نردّدها أثناء الحملة الانتخابية. وعموما أنا لا أتنكّر اليوم لرفيق قديم. إطلاقاً. فعُمر كان رفيقي في الزنزانة لمدة عشر سنوات. وكان فعلاً يُمرّضني طوال سنوات السجن الأخيرة التي رافقني فيها مرض البواسير. لكن هل يكفي ذلك ليفسد عليّ اليوم وزارتي ويمنعني من ترسيخ ثقافة المسؤولية والضبط والانضباط في وزارة الكسل والنوم في العسل. نفس الشيء حصل لي مع المحجوب. يا أخي هذا الرجل هو من استقطبني للتنظيم. وكنت على علاقة مع كريمته سلوى طوال سنوات المنفى. والحق لله حتى عندما قررتُ تجميد علاقتي بها بعد رجوعي إلى أرض الوطن مما أثار ضدي بعض قصيري النظر من الرفاق الذين اتهموني حينها بالانتهازية وعدم الوفاء (وكأنّ سلوى مُسطّرة هي الأخرى ضمن مبادئ الحزب؟!)، فإن الرفيق المحجوب تدخّل بقوة واعتبر المسألة شخصية محضة. بل وطالب الرفاق بسحبها من جدول أعمال أحد الاجتماعات الذي حضره بعض الحاقدين الذين كانوا يريدون الانحراف بالاجتماع إلى ما يشبه المحاكمة لشخصي المتواضع. لازلت أذكر التدخّل الحاسم للرفيق المحجوب حيث شرح للرفاق الفرق بين المجال العام والمجال الخاص مُوضّحاً أن الحداثة، التي كانت قد بدأت تتسرب إلى خطابنا السياسي تلك الأيام، تقتضي عدم الخلط بينهما واحترام الحياة الخاصة للأفراد ومحاسبتهم فقط على ما يجمعنا بهم على المستوى العمومي. هذه المرافعة التي تقدم بها لصالحي باعتباره والد المعنية بالأمر هي التي فوّتت على رفاق السوء فرصة طردي من الحزب. وإحساسي بالجميل إزاء هذه الوقفة الإنسانية الراقية هو الذي جعل اسم المحجوب يحضر في ذهني مباشرة بعد هاتف مهابة مدير المخابرات. لكن مشكلة المحجوب التي جعلتني أستغني عن خدماته شهرين فقط بعد تعيينه في الديوان هي ابتسامته. كان يبتسم في وجهي ابتسامة لعينة كادت تُدمّرني. ابتسامة فيها نوع من العطف والشفقة والحب الجارح الذي يحمله الآباء الأغبياء عادة لأبنائهم. يا أخي ضع نفسك مكاني؟ هل تقبل وأنت وزير أن تُشغِّل معك شخصاً يريد أن يكون أباك؟ شخص تحس باستمرار وأنت تتحدث إليه أو تأمره بشيء أنه ينظر إليك في قرارة نفسه على أنك نذل جبان. شخص يحس بأنك مدين له بمجدك السياسي كله. فهو من استقطبك للتنظيم وهو من أطّرك في البداية قبل أن يحميك من الحاقدين الذين حاولوا طردك من الحزب فيما بعد؟ لقد كان الأمر فوق طاقتي. ومع ذلك لم أطرده، طلبت منه فقط أن يرتاح قليلا. ألاّ يرهق نفسه بالمجيء إلى الوزارة كل صباح. أن يذهب لقضاء بضعة أيام أو حتى بضعة أشهر عند الرفيقة سلوى بباريس. لكنه فهم الحكاية خطأً ومن يومها ما عاد إلى الوزارة ولا اشتكى لأحد في الحزب. وهذا ما أغاظني. غير أنني تماسكت ولم أشغل نفسي بهذه السَّفاسف. فأنا هنا من أجل خدمة وطني وشعبي. والمفروض أن أتعالى على كل الحساسيات الحزبية الضيقة. والحمد لله أن النضج الذي أبَنتُ عنه على هذا المستوى جلب لي احترام العديد من الزملاء وعلى رأسهم معالي وزير الداخلية شخصياً.


استراحة قصيرة بين الفصلين

الدمغة أو الطّابع هي العلامة التي تكون أسفل القطع الذهبية، وتختلف من الذهب الأبيض إلى الأصفر والأحمر. فبالنسبة للبلاتين، نجد أن الطابع المميّز له هو وجود مستطيل بداخله رسم سمكة. وهو رمز لا يُرى بسهولة، ولكن يمكن مشاهدته بوضوح باستعمال الميكروسكوب. أما بالنسبة للذهب الأصفر والأحمر، فنجد أن الطابع المميز له يمكن أن يكون رأس غزال من جانبه الأيمن أو رأس بغل من جانبه الأيسر بحسب طريقة الاختبار التي أجريت عليه من طرف مصالح الجمارك، والتي يمكن أن تكون بالبوتقة أو بالمحك. فإذا كانت بالبوتقة تكون الدمغةُ رأسَ بغل، في حين إذا تمّت بالمحك تكون الدمغة عبارة عن رأس غزال. ووراء الطابع نجد الحرف المميز لكل مدينة، ويكون موضعه بين العنق والرأس في دمغة البغل وأسفل الرأس في دمغة الغزال. غير أن طوابع الدمغة المستعملة في الدار البيضاء لا تحمل أية علامة مميزة بينما تحمل الطوابع المستعملة بفاس ومراكش وأكادير وطنجة بخلاف ذلك حرف "أ" بالنسبة لأكادير و"ف" بالنسبة لفاس و"م" بالنسبة لمراكش وحرف "ط" بالنسبة لطنجة. وقد أعفت مديرية الجمارك كل قطعة ذهبية تزن أقل من غرام واحد كالأقراط الصغيرة مثلاً.


الفصل الثاني

مشكلة القراء الذين لم يسبق لهم أن جرّبوا الكتابة، ولو على سبيل تدبيج رسائل الغرام لبنات الجيران في فترة المراهقة، أنهم عادة ما يستسهلون ما نقوم به. ولعل منهم من ينتظر مني الآن الاسترسال في كشف المزيد من الأسرار بخصوص ما آلت إليه علاقة معالي الوزير عبدو المسعوف برفاق دربه القديم غير منتبهين إلى أن البناء في القصة، القصيرة خصوصاً، يبقى أبلغ من الحكي. لذا فضّلتُ شخصياً، لاعتبارات تتعلق بالبناء، أن أقسِّم هذه القصة إلى فصلين. فصلٌ أوّل قرّبتُ فيه القارئ من التحولات التي عرفتها علاقة السيد الوزير برفاق السوء. بالمناسبة، هكذا صار يلقبهم مُذ قطع علاقته بهم نهائيا مفضلاً استعادة نموذج الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري رضي الله عنه. حيث بدأ الرفيق عبدو يمشي وحده ويأكل وحده في انتظار أن يموت إن شاء الله تعالى وحده. وإذا كان الفصل الأول يحكي عن رفاق السوء فإن الفصل الثاني سنخصصه بحول الله لأم الخير زوجة الرفيق المسعوف. فمباشرة بعد عودة عبدو من المنفى الذي اتضح أنه كان اختياريا، عكس ما كانت تُروّجُه صحافة الحزب في ذلك الزمن القديم، فاجأ رفاقه بإعلان زواجه من قريبة له بالقرية تدعى أم الخير. كان ذلك أمام دهشة كل من يعرف متانة علاقته برفيقة دربه سلوى ومدى صمود هذه الأخيرة إلى جانبه في السنوات السوداء. لكن قرار عبدو المسعوف كان نهائيا، فهو غير مستعد لفتح لائحة تدخلات في هذه النقطة بالذّات. والقرار عموماً ليس وليد اللحظة. بل منذ سنوات المنفى حين كان يتقاسم مع الرفيقة سلوى شقتها الصغيرة في ضاحية باريس كان في قرارة نفسه يعرف أن هذا الوضع لا يمكنه أن يدوم. فهو يعتقد جازماً أن الرفيقات المناضلات يصلحن فعلاً لأشياء كثيرة ليس من بينها الزواج لحسن الحظ. ثم إن أصوله البدوية وطبعه الحامي يمنعانه من التفريط في نخوته وعزّة نفسه. لأن أهل قريته لن يقبلوا منه، مهما علا شأنه، أن يجيئهم يوما بزوجة تتسابق وإياه على علبة السجائر. أضف إلى ذلك أن سلوى امرأة تُعاقِرُه الخمر في الجلسات العامة والخاصة. وهو ما أكسبه احترام العديد من الرفاق الفرنسيين الذي كانوا يرون فيه نموذج المثقف العربي المتحضّر. لكن التحضُّر حدّه باريس. وهو الآن قد عاد.. وعليه أن يعود فعلاً.. عليه أن يعود كاملاً غير منقوص. لذا فكر في أم الخير التي كانت مثالاً للمرأة الصامدة حقاً. إنما بدون شعارات. فقد كانت تصمد في انتظاره إلى أن ينهي اجتماعه الحزبي. وبعد الاجتماع يُعرِّج مع بعض الرفاق على الحانة لممارسة حقهم الطبيعي في الكولسة. وبعد الحانة تكون أم الخير على أهبة الاستعداد أولاً لتسخين العشاء وأيضاً لكي يمارس عليها الرفيق عبدو بعض حقوقه الطبيعية الأخرى خصوصاً حينما يكون الاجتماع قد تواصل في حانة مختلطة أو كباريه. وبقدر ما كان الآخرون يخذلون عبدو المسعوف تباعاً، كانت أم الخير تفاجئه بتفهمها العميق لطموحاته وللتضحيات التي يفرضها عليه وضعه الجديد. من ذلك مثلا أنها، وحتى قبل أن يفاتحها في ضرورة قطع العلاقة مع أهالي القرية بعد تعيينه في المنصب الوزاري، كانت هي قد بعثت من يُشيع في الدوّار أن بيوت الوزراء عادة ما تكون مراقبة من طرف المخابرات وكل من طاف بها حتى ولو كان من أعزّ الأقارب يتعرّضُ فوراً للاعتقال. هكذا ارتاحت أم الخير من أهالي الوزير وتفرغت تماما لحياتها الجديدة. حياة زوجة الوزير التي أبانت خلالها عن علوّ كعب فاجأ زوجها. وحتى "الحْلْبَة" التي كانت السبب الوحيد تقريباً في حالات سوء التفاهم المعدودة التي عرفتها علاقتهما الزوجية فإنها ستتخلص منها تلقائياً مباشرة بعد استوزار الأستاذ. بل إن مطبخ أم الخير العامر سيتخلص من أشياء أخرى كثيرة بعد أن أخضعت ربة البيت نفسها لحمية قاسية جعلتها تتخلص من نصف وزنها تقريباً في زمن قياسي. هذا إضافة إلى بعض التحديات الاجتماعية الكبرى. ففي اللحظة التي شعرت فيها خلال بعض السهرات الخاصة جداً والمحترمة جداً أن زوجها قد يحنُّ إلى سلوى في مثل هذه المجالس حيث كل رفيقات زملائه وزوجاتهن من المدخّنات صارت أم الخير تدخّن هي الأخرى. هكذا دون سابق إعلان أشعلت سيجارة مارلبورو لايت وفاجأت زوجها الذي نظر إليها حينها نظرة غامضة لم تستطع حتى الآن أن تفُكّ لغزها: هل كان يتمنى أن يصفعها ويُطفئ السيجارة بين ثدييها؟ أم أن يُقبّل يديها مجهشًا بالشكر لأنها تفعل بالضبط ما كان يتمناه في قرارة نفسه دون أن يجرؤ على طلبه منها؟ ولأن أم الخير لم تُخضع نفسها لنظام الحمية الصارم عبثاً، فقد بدأت تُفاجئ الرفيق عبدو بملابس لم يكن يتخيل زوجته بها. صحيح أن بعض أزيائها الجديدة مُتهتّكة قليلاً، لكنّ الأهم هو أن أم الخير لم تكن تطالبه بشيء. كانت تصرف الكثير على مظهرها الذي صار يليق فعلاً بزوجة وزير محترم، دون أن تزعجه بطلباتها. فقد تعلّمت الاعتماد على النفس، حيث صارت تُوفّر حقّ هذه المصاريف الباهظة بوسائلها الخاصة خصوصاً بعد أن توطّدت علاقتها بالرفيقة نورية التي أنعم عليها الأستاذ وألحقها بديوانه العامر. ولأن الرفيق عبدو نسي ساعة تعيينها أن يُكلّفها بمهمة محدّدة، فقد حاولت الرفيقة نورية أن تشغل نفسها بأي شيء قبل أن تجد لها أم الخير المهمة المناسبة. وهكذا أُلحِقت نورية ببيت السيد الوزير وصارت تتلقى تعليماتها مباشرة من أم الخير. وبغض النظر عن مرافقة حرم الوزير إلى الكوافيير والمانيكير وحصص الأيروبيك وغيرها من التجمعات النسائية المُبهجة التي جعلتها تندم على الوقت الطويل الذي بدّدته في الاجتماعات المملّة لاتحاد المرأة الحرّة والمتحررة التابع للحزب، فإن نورية (أو نَوَار كما سيصير اسمها فيما بعد) ستضطلع بأدوار أخرى بالغة الأهمية. فقد صارت المُتابع المباشر للتّوسّطات التي تُؤمّن بها أم الخير مصاريفها الجديدة: تعيينات، انتقالات، ترقيات متأخرة، هذا دون الحديث عن ملفات التفرّغ التي لم تكن تُخضِعها للمُساومة، بل كانت تتبرّع بها على بعض صويحباتها المداومات على مجلسها وعلى نادي الأيروبيك الذي صارت تتردد عليه يومياً. وما كان يُسعد عبدو المسعوف ويجعله فخوراً بزوجته هو أن أم الخير كانت تُمَشّي حالها بهدوء ومن دون صخب، بل إن الكثير من التدخلات التي قامت بها، وبعضها طال مناصب حساسة في الوزارة، تمّت في صمت. ولم يعلم بها هو نفسه إلا بمحض الصدفة، ومُتأخراً طبعاً. لكن ما كان يفتنه في زوجته هو قدرتها الرهيبة على المحافظة على طراوة الحدث. حدث الاستوزار. كانت تذكّره في كل لحظة بأنه صار وزيراً. وتجعله يومياً يستعيد الحدث بنشوة من يتلقّاه للمرة الأولى حتى بعد أن عمّر في وزارة الكسل والنوم في العسل وأساء تدبيرها بشكل أثار حفيظة الجميع بما في ذلك بعض خطباء الأمة الذين صاروا يدعون الباري تعالى من فوق منابرهم بأن يعجّل برحيله. بل حتى نشرات الأخبار الرديئة التي جعلت أبناء هذا البلد السعيد يهاجرون إلى فضائيات العالم مشرقا ومغرباً هرباً من طلعات مُقدّميها العبوسين، فإن أم الخير كانت تتابعها باهتمام وتسجّلها على أشرطة فيديو كلما لاح لها وجه زوجها في مناسبة رسمية أو مجلس حكومي. وكم مرّة دخل عليها الرفيق عبدو على حين غرّة ليجدها مستغرقة في متابعة الأخبار على الفيديو بمحبة غامرة وعينين تكادان تفيضان بالدمع. كان يحبّ حبّها له ويعشق تشبثها بمنصبه. بل هو أيضاً لم يعد قادراً على مغادرة كرسيه فقط من أجلها. عليه أن يكون وفياً لوفائها. والكثيرُ من معارضيه اليوم خصوصاً في أوساط حزبه لا يتخيلون الرهافة الإنسانية القصوى التي يصدر عنها تشبُّثه القويّ بحقيبته. إنه يفكر دائما في أم الخير. وفي إشراقة عينيها المغرورقتين أمام نشرة الأخبار كلما بدا على الصورة خاطباً في موظفي وزارته الكبار والصغار، أو متحدثاً في ندوة وطنية حول العولمة والخوصصة والتنمية المستنيمة، أو منصتاً بتأدب وخشوع في حضرة ولي النّعم.


لا يمكنني أن أخذل أم الخير، لكن قلوب السياسيين سوداء وهم لا يفهمون حقيقة المشاعر المرهفة التي تحركنا أحياناً. لو كان الأمر لي لتركت لهم الجمل بما حمل، وليذهبوا بوزارتهم إلى الجحيم. يكفي ما نالني فيها من أذى. لكنها أم الخير؟ هل فهمت أيها الكاتب الغبي الذي يريد أن يختزل كل هذا الثراء الإنساني النبيل في قصة قصيرة. وكأنني أحد أبطالك التافهين الذين تصطادهم في الحانات لتكتب عن استيهاماتهم الجنسية قصصك الفارغة. أنا إنسان محترم. أنا وزير.. أعني وزير سابق. والمفروض أن تكلمني بتأدّب وتناديني: معالي الوزير. ثم من أنت لتكتب عني؟ هل أنت محمد برادة؟ أُغرُب عن وجهي أيها اللعين. واطرديه خارجاً يا أم الخير. اطرديه خارجا وأغلقي عليّ الباب. لست مستعداً لاستقبال أحد. لم أعد مستعداً لاستقبال أحد..
آهٍ يا أم الخير... "

نوفمبر 2002 مراكش -

.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى