أدب ساخر عادل عطية - البحث عن الشعر الساخر!..

نادر ندرة الإبداع، وندرة الابتسامة المشرقة على الشفاة المجروحة!
فما الذي أصاب شعراءنا، حتى قاطعوا الشعر: الضاحك، أو: الباسم، أو: الساخر...، وخف نتاجه؟!..
.. أهو: جفاف في القريحة، و"نشاف" في العبقرية، وعدم خفة في الروح؟
.. أم: هي الحالة المضطربة التي يعيشها العالم من أقصاه إلى أقصاه؟
.. أم: هو استهتار بهذا النوع الهام من الأدب الذي يروح عن النفس، ويزيل عن القلب ما علق فيه من هموم يغص بها هذا العالم الفسيح؟
.. أم هو: الزهد في الحياة؛ "فمن يحب الضحك فهو بالفعل يحب الحياة"، كما قال بيرجسون؟!
الأسئلة وهي تحثنا إلى المستقبل، تعود بنا إلى الماضي، القريب منه والبعيد، حيث كان هذا اللون من أهم أبواب الأدب، وأربابه من أبي نواس إلى الجاحظ وابن الرومي، وغيرهم...
فمن أبرع الصور الفكاهية التي تتمثل في شعر ابن الرومي، وصفه لرجل أحدب:

قصرت أخادعه وغار قذاله = فكأنه متربص أن يصفعا
وكأنما صفعت قفاه مرة = وأحس ثانية لها فتجمعا

وكانت له قصائد كثيرة في هجاء البخلاء، قال عن أحدهم، واسمه: "عيسى":

يقترعيسى على نفسه = وليس بباق ولا خالد
ولو يستطيع لتقتيره = تنفس من منخر واحد

قيل لإبراهيم بن أدهم: لم تجتنب الناس؟، فأنشد يقول:

ارض بالله صاحبا = وذر الناس جانبا
قلب الناس كيف = شئت تجدهم عقاربا

وقال أبوالعتاهية في وصف أخلاق بني آدم:

بنو آدم كالأرض = ونبت الأرض ألوان
فمنه النخل والعنب = وزيتون ورمان
ومنه الحنة الخضرا = وياسمين وريحان
ومنه الصفط ذو شوك = وفوق الشوك قطران

وعن رجل كبير الأنف، قال شاعر:

لك أنف يا ابن حرب = انفت منه الانوف
أنت في القدس تصلي = وهو في البيت يطوف

وآخر يصف رجلا بدينا ضخما، قائلا:

أنت يا هذا ثقيل = وثقيل .. وثقيل
أنت في المنظر إنسان = وفي الميزان فيـل

وقال الشاعر اللبناني ابن الفرنجية، في هجو مغن:

قد دهاني ما دهاني = من ثقيل في الأغاني
قلت إذا غنى عراقـا = ليتني فــي اصفهان

أما الشاعر الحلبي فتح الله بن محمود البياوني، فله بيتان ظريفان في النظارات، قالهما لصديقه عابه في حملها، ثم اضطر هو إلى استعمالها:

رب صديق عاب نظارة = يقوى بها الناظر من ضعفه
وعن قليل صار في أمرها = يحملها رغما عــــلى أنفه

وكان الشاعر المجوني أسعد رستم، صديقا لأحد المحامين، فأرسل إليه هذا المحامي صورته، التي تبدو فيها: يده في جيبه.. طالبا أن ينظم فيه بيتين من الشعر، فقال الشاعر أسعد رستم:

أخذ المحامي رسمه وبجيبه = يده وذلك ليس مـــن مـبداه
فقد كان هذا الرسم أحسن منظر = لو صورت يده بجيب سواه

أراد شاعر النيل حافظ إبراهيم، أن يداعب أمير الشعراء أحمد شوقي، فقال:

يقولون إن الشوق نار ولوعــة = فما بال شوقي أصبح اليوم بارداً

فما كان من شوقي إلا أن رد، قائلا:

استأمنت الكلب والإنسان أمانة = فالإنسان خان والكلب حافظـــا

وأراد أحمد شوقي، مداعبه صديقه الدكتور محجوب ثابت، الذي اشترى سيارة قديمة، فقال له:

لكم في الخط سيارة = حديث الجار والجارة
إذا حركتها مالت = على الجنبين منهارة
وقد تحزن أحيانا = وتمشي وحدها تارة

ومن الشعراء من كان يدرس التاريخ، ويستوحي منه أشعاره..
فقد كان المصريون القدماء، يعاقبون الزاني بسمل عينيه، وكان الرومانيون يعاقبون الزانية بجدع أنفها.. فقال الشاعر اللبناني طانيوس عبده في هذا:

فلو وصلت شرائعكم إلينا = على ما نحن فيه من مجون
لأصبحت النساء بلا أنوف = وأصبحت الرجال بلا عيون

والبعض يستوحيها من القصص الطريفة، ومنها:

كان ذئب ينتاب بعض القرى، ويعيث فيها فساداً واضراراً؛ فترصده أهلها حتى صادوه، وتشاوروا في تعذيبه:
فقال بعضهم: نقطع يداه ورجلاه وتدق أسنانه ويخلع لسانه.
وقال بعضهم: بل يصلب ويرشق بالنبال.
وقال بعضهم: بل توقد نارعظيمة، ويلقى فيها.
وقال بعض الممتحنين بنسائه: لا، بل يُزوّج، وكفى بالتزويج تعذيبا!
وفي هذه الأسطورة، يقول الشاعر:

رب ذئب أخذوه = وتماروا في عقابه
ثم قالوا: زوجوه = وذروه فـي عذابه

ومنها من كان بنت الموقف:
فقد خرج أبودلامة مع المهدي وبعض حاشيته في رحلة صيد، فعنّ لهم ظبي. رماه المهدي فأصابه، ورماه على بن سليمان، فاخطأه، وأصاب الكلب الذي معهم، فضحك المهدي، وقال لأبي دلامة الشاعر: قل في هذا الذي رأيته، فقال:
قد رمى المهدي ظبيا = شك بالسهم فؤاده
وعلى بن سليمان = رمى كلبا فصـاده
فهنيئا لهما كل أمرء يأكل زاده
دعا أحدهم الشيخ ناصيف اليازجي؛ لتناول الطعام على مائدة إفرنجية، وقدمت له الشوكة والسكين، فقال:
وبأنملي ـ فرتيكة ـ أو شوكة = أبداً تدب كأرجل السرطان
أهوى بها فتكاد تسقط من يدي = لو لم أداركها بكفي الثاني
فكأنها وكأنني سنيورة = تمشي على القبقاب بالفسطان

وذات مرة، زارالشيخ اليازجي، إبراهيم سركيس في منزله، فلما قدمت القهوة، قال إبراهيم سركيس، مباسطا: كيف تشرب القهوة، والشاعر يقول فيها:

قهـوة البن حــرام = قد نهى الناهون عنها

فقال الشيخ اليازجي:

كيف تدعوها حراما = وأنا أشرب منها؟!

وكان ابن المعتز، مولعا بجارية غاية في القبح والدمامة، فسأله بعض ندمائه: ماذا تحب في هذه الجارية؟!..
فأنشد، يقول:
قلبي وثاب إلى ذا وذا = ليس يرى شيئا فيأباه
يهيم بالحسن كما ينبغي = ويرحـم القبح فيهـواه
عندما انتهى أبوالعلاء صاعد من تأليف كتابه: "الفصوص"، كلف غلاما له بأن يعبر بالكتاب نهر قرطبة. وحدث أن زلت قدم الغلام، فسقط هو والكتاب في الماء. والتقى أبو العلاء بأحد الشعراء في حضرة الخليفة المنصور، الذي علق على تلك الحادثة ساخراً:
قد غاص في البحر كتاب الفصوص = وهكذا كل ثقيل يغوص

فضحك المنصور والحاضرون، مما أوحى إلى أبي العلاء بهذا البيت:
عاد إلى معدنـه إنما توجد = في قعر البحار الفصوص

وإذ نعود من الماضي البعيد، والقريب.. بتلكم القطوف الثرية، فإلى الشعر الضاحك: أدعو، على الرغم من أن: "شر البلية مايضحك"!...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى