خيري شلبي - عودة إلي الحياة..

إثنان من أساتذتي في معهد المعلمين العام في مدينة دمنهور كان لهما أكبر تأثير في شخصيتي وثقافتي دون بقية الأساتذة رغم اعترافي بأفضالهم جميعا‏,‏ كل في مادته‏.‏ ذلكما هما‏:‏ الأنصاري محمد ابراهيم‏,‏ وبهاء الدين الصاوي‏.‏ الأول كان أستاذا للغة العربية وأدبها‏,‏ والثاني كان أستاذا للرسم والأشغال‏.‏
كانت حصص المطالعة والنصوص ـ أو المحفوظات ـ والانشاء من أمتع الحصص, ليس بالنسبة لي فحسب, بل بالنسبة لجميع طلاب الفصل كله. وحينما أتذكر اليوم هذا الأستاذ الجليل الأنصاري محمد ابراهيم, في مقابل ما نراه اليوم من مستويات متدنية في التعليم بجميع مراحله أشعر بأسف ومرارة شديدين: كيف كان عندنا مثل هذا المستوي الراقي من أساليب التعليم؟ ثم كيف تراجع واختفي, لنصبح كأننا لم يسبق لنا معرفة أساليب التربية والتعليم طوال تاريخنا!
كان الأنصاري محمد ابراهيم نموذجا للمعلم الذي جمع في شخصيته بين امكانات المعلم واتساع أفق الأستاذ. فلئن كانت وظيفة المعلم أن يعلمك مبادئ الأشياء فإن وظيفة الأستاذ أن يستفز قدراتك الخلاقة ويدربك علي الاستخدام الصحيح للمنهج العلمي ويوجهك إلي المناطق البحثية الجديرة بالدرس.
وقد كان الانصاري محمد ابراهيم معلما وأستاذا معا. كان معنيا بالبناء العقلي لطلابه, وباستنفار مواهبهم وتنشيط ملكاتهم الخلاقة وارشادهم إلي الطرق الصحيحة, وتغذيتها بالثقافة الأدبية, وإيقاظ المشاعر الايجابية, وتوجيهها إلي طموحات تتجاوز حدود الغرض المباشر من التدريس في هذا المعهد ألا وهو بناء المعلم الذي سيناط به تعليم النشء في المدارس الابتدائية. تلك كانت مهمة معهد المعلمين العام, ولكن الانصاري محمد ابراهيم كان يهدف إلي تصنيع المعلم الأديب المثقف, إذ كلما كان المعلم في المدارس الابتدائية واسع الأفق أدبيا مثقفا عاد ذلك علي تلاميذه بالنفع المستنير.
شكل الأنصاري محمد ابراهيم كان متميزا بنفس القدر الذي تميز به محتواه الموضوعي التربوي. كان أسمر البشرة في لون الشعير, لون الخبز السن. كان فارع الطول, نحيف البدن إلي حد ما, أنيق الملبس إلي حد كبير, بذوق في اختيار الألوان يعكس جمالا داخليا, مغلوق الشعر من الجنب الأيمن رغم أن الشعر في رأسه قليل علي مساحات صلعاء إلا أنه مصفف بعناية. رأسه صغير مدور كالرمانة لكنه ذو وجه باسم مشرق عظيم الحياء. صوته رخيم عريض ذو نبرات قوية مؤثرة تحب الأذن الاستماع إليه طويلا. وحينما يقرأ علينا نصا من نصوص المحفوظات يشعرنا كأن النص صادر عنه هو شخصيا, إلقاؤه يتكيء علي المفردات الموحية فيجسد الإيحاء, وعلي المعاني المضمرة في الألفاظ فيشخصها بالأداء, فما أن ينتهي من الإلقاء حتي تكون القصدة قد صارت مضيئة واضحة الدلالات في غير حاجة إلي شرح نثري, مما يجعلها سهلة الحفظ في الذاكرة.
غير أنه يستأنف الشرح بطريقة ناجحة بارعة شائقة, يطلب من أحد الطلاب أن يقف ليقرأ علينا أبياتا من القصيدة ولا يتدخل الأستاذ إلا ليفسر معني مفردة تكون غامضة, أو ليبرز معني مستترا, أو يشير إلي دلالة تعطي الصورة الشعرية آفاقا أوسع وأعمق, أو يشرح الخلفية الثقافية أو الاجتماعية أو القبلية للشاعر, أو يصحح النطق إذا أخطأ الطالب في التشكيل. شكرا يافلان, قم يافلان واستأنف الإلقاء من حيث انتهي الزميل, وهكذا يشارك معظم طلاب الفصل في إلقاء القصيدة ـ فما إن ننتهي حتي يكون جميع الطلاب قد استوعبوا القصيدة وأحبوها وأحبوا الشعر والشعراء من أجل خاطرها. وأيضا يكون الطلاب قد ازدادوا عشقا للغة العربية, لاسيما والأستاذ الأنصاري محمد ابراهيم كان يقرأ بطريقة الدكتور طه حسين في ترتيل اللغة العربية علي ذلك النحو البديع الساحر.
حصة المحفوظات كانت ثلاث مراحل, أشبه بسمفونية مكونة من ثلاث حركات: الحركة الأولي قراءة الأستاذ للنص سواء كان قصيدة أو خطبة أو قطعة من الأدب النثري القديم أو الوسيط أو الحديث. الحركة الثانية قراءة الطلاب للنص واحدا بعد الآخر, وهذه تتضمن شروحا هي في الواقع تدريب علي التذوق الفني. الحركة الثالثة أن يقوم الطلاب واحدا بعد الآخر للتحدث عن جماليات النص من وجهة نظرهم, ويا حبذا لو اجتهد الطالب وأتي بلمحة جديدة لم يسبقه إليها الأستاذ أو أحد الزملاء وعندئذ يتلقي الطالب تقريظا يرفع روحه المعنوية ويثير في بقية الطلاب روح الاجتهاد والبحث, خاصة حين يأخذ الأستاذ الخيط من الطالب وينوب عنه في توضيح ما عجز الطالب عن توضيحه بالقدر الكافي.
كانت ورشة لبناء الذائقة الفنية, وتفتيح الوعي الفطري علي الاحساس بالجماليات الأدبية التي توصف بالجمال لقدرتها علي توصيل كبريات المعاني والأفكار والمشاعر بمفردات قليلة. ورشة يقودها أمهر الأسطوات.
علي أن وصف الورشة ينطبق أكثر علي حصة الانشاء شرط أن يكون الأسطي هو الأستاذ الأنصاري محمد ابراهيم. إن الفرق اللغوي بين الأسطي والأستاذ ضئيل جدا, لكن الفرق بينه ومعلمي هذه الأيام هو الفرق ما بين السماء والأرض. ذلك لأن امكانياته التربوية قد تكاملت بقيام صلة وثيقة بينه وبين حركة الثقافة المصرية آنذاك كان أديبا وإن لم يصرح لنا بذلك ولم ينشر شيئا من نتاجه ولعله كان يستعيض عن كتابة الأدب بتدريسه, فكان تدريسه إبداعا, وكنت أشعر بأنه يتلذذ بالابتكار في الشرح والتوضيح كأنه يعيد صياغة النصوص التي يشرحها, فيضفي عليها روعة فوق روعة.
حصة الانشاء كانت ورشة إبداعية بمعني الكلمة. بأصبع الطباشير يخط علي السبورة ـ بخط رقعة جميل بحروف كبيرة ـ رأس الموضوع. وموضوعاته كانت دائما جديدة مبتكرة, حررتنا من دائرة العقم التي حوصرنا بها في مرحلة التعليم الابتدائي بموضوعات سقيمة جافة من قبيل: صف المدينة في يوم مطير. عناوين الأستاذ الأنصاري كانت تنشئ كاتبا أديبا منفتحا علي حركة المجتمع يفكر في كتابة مقال يعالج فيه قضية مطروحة أو مشكلة تتحدث عنها الصحف أو عيبا من عيوب المجتمع البارزة أو خصلة من الخصال الشائعة بين الناس, حبذا الخصال الايجابية التي يتميز بها الشعب المصري من خصال المودة والتضامن والتآزر والإيثار والتضحية والدفء الإنساني, لكن لا بأس من التعرض للخصال الذميمة وكيفية علاجها بالبحث في جذورها واستكشاف المسئول الحقيقي عنها..
أتراه كان يؤهلنا لأن نكون أدباء وشعراء وصحافيين إلي جانب تأهيلنا لأن نكون معلمين ذوي فاعلية في المدارس الابتدائية؟.. أجزم أن هذه كانت من طموحاته التربوية. ولهذا بقي اسمه في ذاكرتي علما علي جدية الدراسة المتقدمة في معهد المعلمين العام آنذاك. وحينما أتذكره اليوم فإنه يحضر حضورا كاملا ممتعا, فأكاد أمد يدي لكي أصافحه في وجل وهيبة كأنني لا أزال طالبا بالمعهد. أتذكر أيضا: لماذا كان حريصا علي تسمية الحصة باسمها الكلاسيكي الأصلي: الإنشاء, رافضا ذلك الاسم الجديد الذي أطلقته وزارة المعارف علي حصة الإنشاء: التعبير وحينما كان البعض منا يسأله عن الفرق بين الكلمتين: التعبير والإنشاء؟ يجيب قائلا بصوت متهدج بالانفعال في نبرة هادئة الإيقاع لكنها قاطعة: أوهوووه! فرق السماء عن الأرض: فصحيح ـ يقول ـ إن الانشاء تعبير أي نعم, ولكن ليس كل تعبير انشاء. فالتعبير أداة للإنشاء, والإنشاء يعني اقامة بناء معماري علي أسس مدروسة, فكاتب القصة أو الرواية أو شاعر القصيدة والمسرحية إنما يقيم بناء معماريا محكما علي الورق في مكان وزمان معينين حيث توجد بيئة وشخصيات وأحداث وصراع يحتدم بين عناصر متناقضة ينتج عنه تطور في الشخصيات والمواقف إلي ذروة درامية قد ينتصر فيها عنصر علي الآخر أو نصل إلي نهاية حتمية لابد منها تبعا لمنطق الصراع, وقد تبقي النهاية مفتوحة إشارة إلي أن الواقع لم يحسمها بعد ـ كل هذا ـ يقول ـ يقتضي بناء فنيا متسقا ومحكما, وهذا هو الإنشاء. وحتي المقالة الأدبية أو الصحفية لابد لها هي الأخري من انشاء, من بناء يقوم بالتأسيس لفكرة المقال ومغزاها, ثم البناء علي هذا التأسيس في ترتيب منطقي للأفكار الفرعية بحيث تؤدي الفكرة إلي التي تليها صعودا إلي ما يمكن أن يكون القول الفصل في الموضوع المطروح في المقال.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى